آيات من القرآن الكريم

حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ

الْأَرْضِ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَحْيَاءِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ دَابَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٨]. وَقَدْ رُوِيَتْ فِي وَصْفِ هَذِهِ الدَّابَّةِ وَوقت خُرُوجهَا ومكانه أَخْبَارٌ مُضْطَرِبَةٌ ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ فَانْظُرْهَا فِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» وَغَيْرِهِ إِذْ لَا طَائِلَ فِي جَلْبِهَا وَنَقْدِهَا.
وَإِخْرَاجُ الدَّابَّةِ مِنَ الْأَرْضِ لِيُرِيَهُمْ كَيفَ يحي اللَّهُ الْمَوْتَى إِذْ كَانُوا قَدْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلَامَهَا لَهُمْ خِطَابٌ لَهُمْ بِحُلُولِ الْحَشْرِ. وَإِنَّمَا خَلَقَ اللَّهُ الْكَلَامَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَابَّةٍ تَحْقِيرًا لَهُمْ وَتَنْدِيمًا عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ أَبْلَغِ كَلَامٍ وَأَوْقَعِهِ مِنْ أَشْرَفِ إِنْسَانٍ وَأَفْصَحِهِ، لِيَكُونَ لَهُمْ خِزْيًا فِي آخِرِ الدَّهْرِ يُعَيَّرُونَ بِهِ فِي الْمَحْشَرِ. فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْ كَلَامِ رَسُولٍ كَرِيمٍ فَخُوطِبُوا عَلَى لِسَانِ حَيَوَانٍ بَهِيمٍ. عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ: اسْتِفَادَةُ الْقَابِلِ مِنَ الْمَبْدَإِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا.
وَجُمْلَةُ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لَا يُوقِنُونَ تَعْلِيلٌ لِإِظْهَارِ هَذَا الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ حَيْثُ لَمْ يُوقِنِ الْمُشْرِكُونَ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ فَجَعَلَ ذَلِكَ إِلْجَاءً لَهُمْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِنَّ النَّاسَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنَّ)، وَمَوْقِعُ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا التَّعْلِيلُ.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ أَنَّ النَّاسَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ أَيْضًا لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّ فَتْحَ هَمْزَةِ (أَنَّ) يُؤْذِنُ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ جَرِّ وَهُوَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُكَلِّمُهُمْ بِحَاصِلِ هَذَا وَهُوَ الْمَصْدَرُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تُسَجِّلُ عَلَى النَّاسِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَدَمَ تَصْدِيقِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. وَهُوَ تَسْجِيلُ تَوْبِيخٍ وَتَنْدِيمٍ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ قَدْ وَقَعَ القَوْل عَلَيْهِم ف لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [الْأَنْعَام: ١٥٨]. وَحَمْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ حِكَايَةً لِمَا تُكَلِّمُهُمْ بِهِ الدَّابَّة بعيد.
[٨٣- ٨٤]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٨٣ إِلَى ٨٤]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤)
انْتَصَبَ يَوْمَ عَلَى تَقْدِيرِ (اذْكُرْ) فَهُوَ مَفْعُولٌ بِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ قالَ أَكَذَّبْتُمْ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَهَذَا حَشْرٌ خَاصٌّ بَعْدَ حَشْرِ جَمِيعِ

صفحة رقم 39

الْخَلْقِ الْمَذْكُورِ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمْل: ٨٧] وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: ٥٩] فَيُحْشَرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مُكَذِّبُو رَسُولِهَا.
وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. ومِنْ الدَّاخِلَةُ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ تَبْعِيضِيَّةٌ وَأَمَّا (مِنَ) الدَّاخِلَة على مِمَّنْ يُكَذِّبُ فَيَجُوزُ جَعْلُهَا بَيَانِيَّةً فَيَكُونُ فَوْجُ كُلِّ أُمَّةٍ هُوَ جمَاعَة المكذبين مِنْهَا، أَي يحْشر من الْأمة كفارها وَيبقى صالحوها. وَيجوز جعل (من) هَذِه تبعيضية أَيْضا بِأَن يكون الْمَعْنى إِخْرَاج فَوْج من المكذبين من كل أمة. وَهَذَا الْفَوْجُ هُوَ زُعَمَاءُ الْمُكَذِّبِينَ وَأَئِمَّتُهُمْ فَيَكُونُونَ فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ إِلَى الْعَذَابِ.
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ: مِثْلُ أَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ يُسَاقُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ يُسَاقُ أَمَامَ كُلِّ طَائِفَةٍ زُعَمَاؤُهَا. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ فَهُمْ يُوزَعُونَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ [١٧].
وَالْمَعْنَى هُنَا: أَنَّهُمْ يُزْجَرُونَ إِغْلَاظًا عَلَيْهِمْ كَمَا يُفْعَلُ بِالْأَسْرَى.
وَالْقَوْلُ فِي حَتَّى إِذا جاؤُ كَالْقَوْلِ فِي حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ [النَّمْلِ: ١٨] وَلَمْ يُذْكَرِ الْمَوْضِعُ الَّذِي جَاءُوهُ لِظُهُورِهِ وَهُوَ مَكَانُ الْعَذَابِ، أَيْ جَهَنَّمُ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ حَتَّى إِذا مَا جاؤُها [فُصِّلَتْ: ٢٠].
وحَتَّى فِي حَتَّى إِذا جاؤُ ابْتِدَائِيَّةٌ. وإِذا الْوَاقِعَةُ بَعْدَ حَتَّى ظَرْفِيَّةٌ وَالْمَعْنَى: حَتَّى حِينَ جَاءُوا.
وَفِعْلُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي هُوَ صَدْرُ الْجُمْلَةِ فِي التَّقْدِيرِ وَمَا قَبْلَهُ مُقَدَّمٌ مِنْ تَأْخِيرٍ لِلِاهْتِمَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا وَحِينَ جَاءُوا. وَفِي قالَ الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَوْلُهُ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي قَوْلٌ صَادِرٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْمَعُونَهُ أَوْ يُبَلِّغُهُمْ إِيَّاهُ الْمَلَائِكَةُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ يَجُوزُ أَن يكون توبيخيا مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِهِ وَهُوَ الْإِلْجَاءُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ وَاقِعٌ مِنْهُمْ تَبْكِيتًا لَهُمْ، وَلِهَذَا عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله أَمَّا ذَا كُنْتُمْ

صفحة رقم 40

تَعْمَلُونَ.
فَحَرْفُ أَمْ فِيهِ بِمَعْنَى (بَلْ) لِلِانْتِقَالِ وَمُعَادِلُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقَدَّرَةِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالتَّقْدِيرُ: أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي أَمْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنْ لَمْ
تُكَذِّبُوا فَإِنَّكُمْ لَمْ تُوقِنُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي مُدَّةِ تَكْرِيرِ دَعْوَتِكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَمِنْ هُنَا حَصَلَ الْإِلْجَاءُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا.
وَمِنْ لَطَائِفَ الْبَلَاغَةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْمُعَادِلِ الْأَوَّلِ مُصَرَّحًا بِهِ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ مِنْهُمْ فَقَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَحَذَفَ مُعَادِلَهُ الْآخَرَ تَنْبِيهًا عَلَى انْتِفَائِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَهْوَ مَا عُهِدَ مِنْكُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ أَمْ حَدَثَ حَادِثٌ آخَرُ، فَجُعِلَ هَذَا الْمُعَادِلُ مُتَرَدَّدًا فِيهِ، وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى اسْتِفْهَامٍ. وَهَذَا تَبْكِيتٌ لَهُمْ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ» :«وَمِثَالُهُ أَنْ تَقُولَ لِرَاعِيكَ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ رَاعِي سُوءٍ: أَتَأْكُلُ نَعَمِي أَمْ مَاذَا تَعْمَلُ بِهَا، فَتَجْعَلُ مَا ابْتَدَأْتَ بِهِ وَجَعَلْتَهُ أَسَاسَ كَلَامِكَ هُوَ الَّذِي صَحَّ عِنْدَكَ مِنْ أَكْلِهِ وَفَسَادِهِ وَتَرْمِي بِقَوْلِكَ: أَمْ مَاذَا تَعْمَلُ بِهَا، مَعَ عِلْمِكَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهَا إِلَّا الْأَكْلَ لِتَبْهَتْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون الِاسْتِفْهَام تقريريا وَتَكُونُ أَمْ مُتَّصِلَةً وَمَا بَعْدَهَا هُوَ مُعَادِلُ الِاسْتِفْهَامِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: أَكَذَّبْتُمْ أَمْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنْ لَمْ تُكَذِّبُوا فَإِنَّكُمْ لَمْ تَتَّبِعُوا آيَاتِي».
وَجُمْلَةُ وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَذَّبْتُمْ دُونَ أَنْ تُحِيطُوا عِلْمًا بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ. وَانْتَصَبَ عِلْماً عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ تُحِيطُوا، أَيْ لَمْ يُحِطْ عِلْمُكُمْ بِهَا، فَعَدَلَ عَنْ إِسْنَادِ الْإِحَاطَةِ إِلَى الْعِلْمِ إِلَى إِسْنَادِهَا إِلَى ذَوَاتِ الْمُخَاطَبِينَ لِيَقَعَ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِالْإِجْمَالِ فِي الْإِسْنَادِ ثُمَّ التَّفْصِيلُ بِالتَّمْيِيزِ.
وَإِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِالْآيَاتِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي تَمَكُّنِ الْعِلْمِ حَتَّى كَأَنَّهُ ظَرْفٌ مُحِيطٌ بهَا وَهَذَا تعيير لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ قَبْلَ التدبر فِيهَا.
وأَمَّا ذَا اسْتِفْهَامٌ وَاسْمُ إِشَارَةٍ وَهُوَ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَوْصُولِ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ (مَا).
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَلِكَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا هُوَ الْجُمْلَةَ صَارَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ فِي قُوَّةِ مَوْصُولٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا الَّذِي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ (ذَا) بَعْدَ (مَا) وَ (مِنْ) الِاسْتِفْهَامِيَّتَيْنِ يَكُونُ بِمَعْنَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ فَهُوَ بَيَانُ مَعْنًى لَا بَيَان وضع.

صفحة رقم 41
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية