
والهلاك؛ ألا ترى أنهم قالوا على أثر ذلك: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٧١) قالوا ذلك له استهزاء بما يوعدهم؛ فكأنه قال لرسوله: لا تكن في ضيق مما يستهزئون بما توعدهم؛ فإن اللَّه يجزيهم جزاء استهزائهم بك.
والثاني: (وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي: مما يريدون ويهمون قتلك؛ فإن الله يحفظك ويحوطك؛ فلا يصلون إليك بما يريدون من قتلك وإهلاكك، وهو ما قال: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
وفيه دلالة إثبات رسالته؛ حيث أمنه وأخبره أنه يحفظه ويعصمه من جميع الأعداء وهو بين أظهرهم، فذلك آية من آيات النبوة والرسالة، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): قد ذكرنا أنهم إنما يقولون ذلك استهزاء وتكذيبًا بما كان يوعدهم من العذاب بتكذيبهم إياه، ثم كان يوعدهم مرة بعذاب ينزل بهم في الدنيا كما نزل بأوائلهم بتكذيبهم الرسل، ومرة يوعدهم بعذاب ينزل بهم في الآخرة، فيكذبونه في ذلك كله ويستهزئون به ويقولون: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)؛ وكذلك قال أوائلهم لرسلهم: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
ثم قال: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: قوله: (رَدِفَ لَكُمْ) بعد هذه الحال، وبعد هذا القول الذي قالوا: (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)، أي: ينزل بكم بعد هذه الحال بعض الذي تستعجلون وهو العذاب، وقوله: (رَدِفَ لَكُمْ) أي: يدنو منكم ويقرب.
والثاني: (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) بعد الحزن والمكروه الذي يحل بكم بالموت (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) وهو عذاب القبر؛ لأنهم وقت الموت يحزنون ويكرهون لما شاهدوا وعاينوا من حالهم؛ ولذلك يسألون ربهم الرجوع والرد إلى المحنة ثانيًا؛ نحو قولهم: (رَبِّ ارْجِعُونِ)، وقولهم: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ)، ونحوه.
وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٧٣) يحتمل قوله: (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) وجوهًا:
أحدها: ذو فضل في تأخير العذاب عنهم، ولكن أكثرهم لا يشكرون ذلك الفضل ولكن يستعجلون.
والثاني: ذو فضل على الناس في دينهم في بعثه وإرساله إليهم من يزجرهم ويصرفهم عما يستوجبون من عذاب اللَّه ومقته وهو الرسول، لكنهم لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه، بل يعاندونه ويكابرونه.

قول اللَّه: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقوله: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وقوله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ).
والثالث: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ): وهو أن جعل الدنيا مشتركة بين الأعداء والأولياء في نعيمها غير مفترقة ولا مختلفة، وأما الآخرة فقد فرق فيها بين الأولياء والأعداء؛ جعل للأولياء النعمة الدائمة وللأعداء العذاب الدائم، فله الحمد على ذلك.
والرابع: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ) لما جعل الدنيا دار محنة والآخرة دار الجزاء لم يجعلها دار المحنة.
أو أن يكون قوله: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ) أي: له الحمد من الخلق في كل حال وكل وقت؛ كقوله: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أنهم يحمدونه في بدء كل أمر وختمه، أو أن يكون له الحمد.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ): أو إن جعل النهار سرمدًا، أي: دائفا لا ليل فيه... إلى آخر ما ذكر من قوله: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) و (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) يخرج ذكره لوجهين:
أحدهما: في تسفيههم في صرف العبادة والشكر إلى الأصنام التي كانوا يعبدونها على علم منهم أنها لا تملك شيئا مما ذكر، من جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا، وتركهم عبادة من يعرفون أنه يملك ذلك كله؛ وكذلك ما ذكر في آية أخرى حيث قال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ...) الآية. يقول - واللَّه أعلم -: فإذا لا يملك ما تعبدون من دون اللَّه دفع ضر أراده اللَّه فيه وجعله رحمة، ولا دفع رحمة أرادها اللَّه وجعله ضرا، فكيف تعبدونها وتتركون عبادة من يملك جعل هذا هذا ودفع هذا بهذا؟ فعلى ذلك يقول - واللَّه أعلم -: كيف تعبدون من لا يملك جعل الزمان كله ليلا دائمًا لا نهار فيه، وجعل النهار نهارا كله دائمًا لا ليل فيه، وتتركون عبادة من يملك ذلك كله يجعل وقت الراحة والفرار.
والثاني: يذكرهم عظيم نعمه ومنته حيث أنشأ هذا العالم محتاجًا إِلَى ما به قوام أنفسهم وأبدانهم في دينهم ودنياهم، ثم جعل ذلك كله على التعاون والتظاهر بعضهم بعضا ما لو