
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى أنه لا يعلم أحد الغيب إلا الله، فذلك مما اختص الله به، فيكون هو الإله المستحق للعبادة.
ودلت على أن الكفار وغيرهم لا يشعرون بوقت القيامة حتى تأتيهم فجأة، وعلى أن علمهم بأدلة إثباتها معدوم، فهم جهلة بها ولا علم لهم فيها، وهم أيضا في شك منها في الدنيا وفي حيرة شديدة من شأن وجودها، وقلوبهم عمياء عن إدراكها وعما يوصل إلى الحق في شأنها.
إنكار المشركين البعث
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٧ الى ٧٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)
الإعراب:
رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم، واللام زائدة، كاللام في قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ أي بوأنا إبراهيم.

البلاغة:
أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ استفهام إنكاري، وتكرار همزة أَإِنَّا للمبالغة في التعجب والإنكار.
قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وعيد وتهديد.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ تأكيد بإن، واللام لترسيخ المعنى.
ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ بين تُكِنُّ أي تخفي ويُعْلِنُونَ طباق.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قالوا أيضا في إنكار البعث بعد بيان عماهم عن الآخرة.
لَمُخْرَجُونَ من القبور أو من حال الفناء إلى الحياة. إِنْ هذا ما هذا. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيب الأقدمين، جمع أسطورة: وهي ما سطره الأقدمون من خرافات وأحاديث. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي هلاكهم بالعذاب لإنكارهم البعث.
ضَيْقٍ في ضيق صدر. مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم، أي فإن الله يعصمك من الناس، وهذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم، أي لا تهتم بمكرهم وتآمرهم عليك، فإنا ناصروك عليهم. مَتى هذَا الْوَعْدُ أي العذاب الموعود، أو الوعد بالعذاب. رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم بمعنى تبعكم ولحقكم.
بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي أصابهم بعض العذاب وهو القتل ببدر، وباقي العذاب يأتيهم بعد الموت.
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي ومنه تأخير العذاب عن الكفار. لا يَشْكُرُونَ نعم الله عليهم ومنه تأخير العذاب لإنكارهم وقوعه. تُكِنُّ صُدُورُهُمْ تخفيه. وَما يُعْلِنُونَ بألسنتهم. غائِبَةٍ التاء المربوطة أو الهاء للمبالغة، والمعنى: أيّ شيء في غاية الخفاء على الناس، كالتاء في علّامة ونسابة، والأصل: غائب. إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بيّن، وهو اللوح المحفوظ، فكل شيء يعلمه الله قديما، ومنه تعذيب الكفار.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى جهل الكفار بالآخرة، أردفه بما قالوا عنها، مما يدل على إنكارهم لها. وأما مناسبة هذه الآيات لجملة السورة فهي أنه تعالى لما تكلم في حال مبدأ الخلق، تكلم بعده في حال المعاد لأن الشك في المعاد لا ينشأ إلا من

الشك في كمال القدرة أو في كمال العلم، فإذا ثبت كونه تعالى قادرا على كل الممكنات، وعالما بكل المعلومات، ثبت أنه تعالى يمكنه تمييز أجزاء بدن كل إنسان عن أجزاء بدن غيره، وثبت أنه قادر على إعادة التركيب والحياة إلى تلك الأجزاء، وإذا ثبت إمكان ذلك، ثبت صحة القول بالحشر أو المعاد.
التفسير والبيان:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا، أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ أي وقال المشركون منكرو البعث، الذين كفروا بالله وكذبوا رسله: أنخرج من قبورنا أحياء، بعد مماتنا، وبعد أن بليت أجسادنا وصارت ترابا؟ فهذا حكاية لاستبعادهم إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظاما ورفاتا وترابا.
لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي ما زلنا نسمع كثيرا بهذا نحن وآباؤنا، ولا نلمس له حقيقة ولا وقوعا ولم نر قيام أحد بعد موته، والمراد أن هذا تاريخ غابر محكي، أكل عليه الدهر وشرب.
إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الوعد بإعادة الأبدان إلا أسطورة، أي خرافة وأكذوبة، يتناقلها الناس عن بعضهم، وليس لها حقيقة، ولم يقم عليها دليل مقبول.
ثم أرشدهم الله تعالى إلى الصواب في ذلك وعما ظنوا من الكفر وعدم المعاد بصيغة الوعيد والتهديد، فقال: قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي قل لهم أيها الرسول: سيروا في أرض الحجاز والشام واليمن وغيرها، فانظروا مصير من سبقكم من المكذبين، إنهم اغتروا بدنياهم، وفتنوا بزخارفها، وكذبوا رسلهم، وأنكروا وجود البعث، فأهلكهم الله بذنوبهم، وبقيت ديارهم آثارا شاهدة عليهم للعبرة والعظة، ونجى الله رسله ومن اتبعهم من المؤمنين، فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته من الإيمان بالله

وبالبعث، وتلك سنة الله في كل من كذب رسله، وسيعاقبكم بمثل عقابهم إن لم تبادروا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.
ثم سلّى الله نبيه صلّى الله عليه وسلم عن إعراضهم عن قوله ورسالته فقال: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي ولا تحزن يا محمد على إعراض هؤلاء المكذبين عن رسالتك، ولا تكن ضيق الصدر حزينا مكروبا مهموما من كيدهم وتآمرهم عليك، فإن الله مؤيدك وناصرك وعاصمك من الناس، ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق والمغارب.
ثم حكى الله تعالى إنكارا آخر من الكفار غير الساعة، وهو إنكار عذاب الله، فقال: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي يقول هؤلاء المشركون في مكة وغيرهم في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك: متى وقت هذا العذاب الذي تعدنا به، إن كنتم أيها الرسول والمؤمنون به صادقين في ادعائكم وقولكم؟ يقولون ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء.
فأجابهم الله تعالى بقوله:
قُلْ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أي قل لهم يا محمد: عسى أن يكون ردفكم أي لحقكم وتبعكم واقترب منكم بعض ما تستعجلون وقوعه من العذاب، وهو القتل والعذاب والنكال يوم بدر. فقوله: رَدِفَ لَكُمْ أي ردفكم واللام زائدة، وقال ابن كثير: وإنما دخلت اللام في قوله:
رَدِفَ لَكُمْ لأنه ضمن معنى: عجل لكم، كما قال مجاهد في تفسير ذلك.
قال الزمخشري: عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجدّه، وما لا مجال للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجّلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أن عدوهم لا يفوتهم،

وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده «١».
ثم ذكر تعالى سبب تأخير العقاب، فقال:
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي وإن الله لهو المنعم المتفضل على الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم حيث يسبغ إنعامه عليهم في الدنيا، مع ظلمهم لأنفسهم، ويترك معاجلتهم بالعقوبة على كفرهم ومعاصيهم، ولكنهم مع ذلك كله لا يشكره أكثرهم على فضله، ولا يشكره إلا القليل منهم.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ أي وإن ربك ليعلم الضمائر والسرائر، كما يعلم الظواهر، كما قال: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الرعد ١٣/ ١٠] وقال: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه ٢٠/ ٧] والمراد أنه تعالى عالم بمكائد المشركين للرسول، وسيجازيهم على ذلك.
ثم أبان الله تعالى حقيقة شاخصة عامة وهي أن كل ما في الكون محفوظ في اللوح المحفوظ، فقال:
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي وما من شيء غائب مخفي في السموات والأرضين إلا وهو موجود معلوم محفوظ في اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه الله تعالى كل ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه، وعالم غيب السموات والأرض من أمر الخلائق قاطبة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج ٢٢/ ٧٠] وقال حكاية عن لقمان: يا بُنَيَّ، إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ

فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان ٣١/ ١٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- تكرر في القرآن الكريم حكاية إنكار المشركين البعث، فهم يعدّونه من خرافات الأقدمين المتوارثة، وكانت الأنبياء يقرّبون أمر البعث مبالغة في التحذير، وكل ما هو آت قريب.
٢- وبما أن واقعة البعث أمر غيبي يحدث في المستقبل، فإن الله تعالى أجاب المنكرين له بالنظر في مصير المكذبين لرسلهم، المنكرين وقوع البعث، نظرة تأمل في القلوب والبصائر في بلاد الشام والحجاز واليمن وغيرها، هل دام لهم العز والسلطان، أم دمّر الله ديارهم بسبب كفرهم؟.
٣- كانت درجة إحساس النبي صلّى الله عليه وسلم عالية جدا، ومرهفة إرهافا مفرطا، فتألم وحزن لإعراض قومه عنه، فسرّى عنه القرآن همومه، ونهاه عن حمل الهموم والأحزان على كفار مكة إن لم يؤمنوا، كما نهاه عن الضيق أي الحرج من مكرهم وتدبيرهم وقولهم: متى أو أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا؟
٤- أجابهم الحق تعالى عن استبطاء نزول العذاب بالترهيب مرة وبالترغيب مرة أخرى، فأنذرهم بأن بعض عذابهم قد اقترب منهم ودنا من ساحتهم، وذلك في أول لقاء عسكري فاصل بينهم وبين المؤمنين في موقعة بدر، فيقتل رؤساؤهم ويؤسر أشرافهم، ورغّبهم بالتوبة والإيمان، وذكّرهم بفضله سبحانه على الناس في تأخير العقوبة وإدرار الرزق، ولكن أكثرهم لا يشكرون فضله ونعمه.
٥- وأبان لهم أن مصير خططهم ومؤامراتهم إلى الخيبة والفشل، فإن الله يعلم