حالة مستدعية للحمد والشكر فلهذا قال قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ من تعلقات الكونين وآفات الوجود المجازي عَلى عِبادِهِ أَمَّنْ خَلَقَ سموات القلوب وأرض النفوس وأنزل من سماء القلب ماء نظر الرحمة فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ من العلوم والمعاني والأسرار أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ من الهوى أَمَّنْ جَعَلَ أرض النفس قَراراً في الجسد وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً من دواعي البشرية وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ من القوى والحواس وَجَعَلَ بَيْنَ بحر الروح وبحر النفس حاجِزاً القلب فإن في اختلاطهما فساد حالهما أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كما زعمت الطبائعية أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ في العدم بلسان الحال وَيَجْعَلُكُمْ مستعدين لخلافته في الأرض أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كما يزعم أرباب الحلول والاتحاد أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ بر البشرية وبحر الروحانية وإن كانت الروحانية نورانية بالنسبة إلى ظلمة البشرية والمراد يهديكم بإخراجكم من ظلمات البشرية إلى نور الروحانية، ومن ظلمات خلقته الروحانية إلى نور الربوبية وذلك حين يرسل رياح العناية بين يدي سحاب الهداية أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كما يقول المنجمون: مطرنا بنوء كذا. وكما يقوله قاصروا النظر: هدانا الشيخ والمعلم إلى كذا أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بالوجود المجازي ثُمَّ يُعِيدُهُ بالوجود الحقيقي إلى عالم الوحدة وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ من سماء الربوبية لتربية الأرواح ومن أرض بشرية الأشباح أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كائنا من كان دليله أنه لا يعلم الغيب إلا هو ومن جملته علم قيام الساعة والله أعلم.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٧ الى ٩٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦)
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١)
وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
القراآت:
أيذا أينا بياء مكسورة بعد همزة مفتوحة: ابن كثير ويعقوب غير زيد.
مثله ولكن بالمد: أبو عمرو وزيد أيذا بهمزة مفتوحة ثم ياء مكسورة إِنَّا بكسر الهمزة وبعدها نون مشددة: سهل إِذا من غير همزة الاستفهام آينا بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة: يزيد وقالون، مثله ولكن من غير مد: نافع غير قالون أَإِذا بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة إِنَّا بهمزة مكسورة بعدها نون مشددة: علي وابن عامر هشام يدخل بينهما مدة أَإِذا أَإِنَّا بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة فيهما: حمزة وخلف وعاصم. ولا يسمع بفتح الياء التحتانية الصُّمَّ بالرفع: ابن كثير وعباس وكذلك في «الروم». الآخرون بضم التاء الفوقانية وكسر الميم ونصب الصمّ وما أنت تهدي على أنه فعل العمى بالنصب وكذلك في «الروم» حمزة. الباقون بِهادِي على أنه اسم فاعل العمى بالجر أتوه مقصورا على أنه فعل ماض: حمزة وخلف وحفص والمفضل. الآخرون بالمد على أنه اسم فاعل بما يفعلون على الغيبة: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحماد والأعشى والبرجمي والحلواني عن هشام. فَزَعٍ بالتنوين: عاصم وحمزة وعلي وخلف يَوْمَئِذٍ بفتح الميم: حمزة وأبو جعفر ونافع، الباقون بكسرها تَعْمَلُونَ بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص.
الوقوف:
لَمُخْرَجُونَ هـ مِنْ قَبْلُ لا تحرزا عن الابتداء بمقول الكفار الْأَوَّلِينَ هـ الْمُجْرِمِينَ هـ يَمْكُرُونَ هـ صادِقِينَ هـ تَسْتَعْجِلُونَ هـ لا يَشْكُرُونَ هـ وَما يُعْلِنُونَ هـ مُبِينٍ هـ يَخْتَلِفُونَ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ بِحُكْمِهِ ج تعظيما للابتداء بالصفتين مع اتفاق الجملتين الْعَلِيمُ هـ ج للآية واختلاف الجملتين وللفاء واتصال المعنى
أي إذا كان الحكم لله فأسرع التوكل عَلَى اللَّهِ ط الْمُبِينِ هـ مُدْبِرِينَ هـ ضَلالَتِهِمْ ط مُسْلِمُونَ هـ تُكَلِّمُهُمْ ج لمن قرأ بكسر الألف فإنه يحتمل أن يكون الكسر للابتداء ولكونها بعد التكليم لأنه في معنى القول، ومن فتح فلا وقف إذ التقدير تكلمهم بأن لا يُوقِنُونَ هـ يُوزَعُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ لا يَنْطِقُونَ هـ مُبْصِراً ط يُؤْمِنُونَ هـ مَنْ شاءَ اللَّهُ ط داخِرِينَ هـ السَّحابِ ط كُلَّ شَيْءٍ ط تَفْعَلُونَ هـ خَيْرٌ مِنْها لا لأن ما بعده من تتمة الجزاء آمِنُونَ هـ لا لعطف جملتي الشرط فِي النَّارِ هـ تَعْمَلُونَ هـ شَيْءٍ ز للعارض وطول الكلام مع العطف الْمُسْلِمِينَ هـ لا للعطف الْقُرْآنَ ج لِنَفْسِهِ ج الْمُنْذِرِينَ هـ فَتَعْرِفُونَها ط تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
لما ذكر أن المشركين في شك من أمر البعث عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين عامة شبهتهم وهي مجرد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم ترابا عند الحس.
قال النحويون: العامل في «إذا» ما دل عليه أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ وهو نخرج والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة. وإنما ذهبوا إلى هذا التكلف بناء على أن ما بعد همزة الاستفهام وكذا ما بعد «أن» واللام لا يعمل فيما قبلها لأن هذه الأشياء تقتضي صدر الكلام، وتكرير حرف الاستفهام في «إذا» و «أن» جميعا إنكار على إنكار. والضمير في «أنا» لهم ولآبائهم جميعا وقد مر في سورة المؤمنين تفسير قوله لَقَدْ وُعِدْنا وبيان المتشابه فليدّكر. ثم أوعدهم على عدم قبول قول الأنبياء بالنظر في حال الأمم السالفة المكذبة. ولم تؤنث «كان» لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي، أو لأن المراد كيف كان عاقبة أمرهم. والمراد بالمجرمين الكافرون لأن الكفر جرم مخصوص وفيه تنبيه على قبح موقع الجرم أياما كان فعلى المؤمن أن يتخوّف عاقبتها ويترك الجرائم كلها كيلا يشارك الكفرة في هذا الاسم الشنيع. ومعنى قوله وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الآية. قد مر في آخر «النحل». وفي هذه الآي تسلية لرسول الله ﷺ على ما كان يناله من قومه. ثم إنهم استعجلوا العذاب الموعود على سبيل السخرية فأمره أن يقول لهم عَسى أَنْ يَكُونَ وهذه على قاعدة وعد الملوك ووعيدهم يعنون بذلك القطع بوقوع ذلك الأمر مع إظهار الوقار والوثوق بما يتكلمون. وإن كان على سبيل الرجاء والطمع ولمثل هذا قال رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي دون أن يقول «ردف لكم الذي». واللام زائدة للتأكيد كالباء في وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة:
١٩٥] أو أريد أزف لكم ودنا لكم بتضمن فعل يتعدى باللام ومعناه تبعكم ولحقكم. وقال بعضهم: المقتضي للعذاب والمؤثر فيه حاصل في الدنيا إلا أن الشعور به غير حاصل كما للسكران أو النائم، فتمام العذاب إنما يحصل بعد الموت وإن كان طرف منه حاصلا في
الدنيا فلهذا ذكر البعض. ثم ذكر أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة في الدنيا ولكنهم لا يشكرون هذه النعمة فيستعجلون وقوع العقاب بجهلهم، وفيه دليل على أن نعمة الله تعم الكافر والمؤمن. ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم مما يخفون كالقصود والدواعي وعلى ما يظهرون من أفعال الجوارح وغيرها، ولعل الغرض أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله ﷺ ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك. ثم أكد ذلك بأن المغيبات كلها ثابتة في اللوح المحفوظ، والعاقبة إما مصدر كالعافية، وإما اسم غير صفة كالذبيحة والربيئة، وإما صفة والتاء للمبالغة كالراوية في قولهم «ويل للشاعر من راوية السوء» كأنه قيل: وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وهو مثبت في الكتاب الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة. ثم بين لدفع شبه القوم إعجاز القرآن المطابق قصصه لما في التوراة والإنجيل مع كونه ﷺ أميا، والمطابق غرضه لما هو الحق في نفس الأمر، وقد حرفه بنوا إسرائيل وجهه كاختلافهم في شأن المسيح في كثير من الشرائع والأحكام، وذكر أنه هدى ورحمة لمن آمن منهم وأنصف أو منهم ومن غيرهم.
ثم ذكر أن من لم ينصف منهم فالله يقضي بينهم بحكمه أي بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكما وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب فيما يريد الْعَلِيمُ بما يحكم وبمن يحكم لهم أو عليهم. ثم أمره بالتوكل وقلة المبالاة بأعداء الدين وعلل ذلك بأمرين: أحدهما أنه على الحق الأبلج وفيه أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بنصرة الله، وثانيهما قوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى لأنه إذا علم أن حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى أو كحال الصم الذين لا يسمعون ولا يفهمون والعمي الذين لا يبصرون ولا يهتدون، صار ذلك سببا قويا في إظهار مخالفتهم وعدم الاعتداد بهم. وقوله إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ تأكيد لأن الأصم إذا توجه إلى الداعي لم يرج منه سماع فكيف إذا ولى مدبرا وهداه عن الضلالة كقولك «سقاه عن العمية». ثم بين أن إسماعه لا يجدي إلا على الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي مخلصون منقادون لأمر الله بالكلية.
ثم هدد المكلفين بذكر طرف من أشراط الساعة وما بعدها فقال وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ أي دنا وشارف أن يحصل مؤاده ومفهومه عَلَيْهِمْ وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ وهي الجساسة. وقد تكلم علماء الحديث فيها من وجوه:
أحدها في مقدار جسمها. فقيل: إن طولها ستون ذراعا. وقيل: إن رأسها يبلغ السحاب.
وعن أبي هريرة: ما بين قرنيها فرسخ للراكب. وثانيها في كيفية خلقتها فروي لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن
أيل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هر وذنب كبش وخف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعا. وثالثها في كيفية خروجها
عن علي رضي الله عنه أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها.
وعن الحسن: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. ورابعها مكان خروجها،
سئل النبي ﷺ من أين تخرج الدابة؟ فقال: من أعظم المساجد حرمة على الله
يعني المسجد الحرام. وقيل: تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية.
وخامسها في عدد خروجها روي أنها تخرج ثلاث مرات تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية، ثم تكمن دهرا طويلا فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة. وسادسها فيما يصدر عنها من الآثار والعجائب فظاهر الآية أنها تكلم الناس، وفحوى الكلام أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ قال جار الله: معناه أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأن خروجها من الآيات. ومن قرأ (إن) مكسورة فقولها حكاية قول الله فلذلك قالت بِآياتِنا أو المعنى بآيات ربنا فحذف المضاف أو سبب الإضافة اختصاصها بالله كما يقول بعض خاصة الملك: خيلنا وبلادنا. وإنما هي خيل مولاه وبلاده. عن السدي: تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر:
تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المشرق ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك.
روي بينا عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون وإذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه ويكتب بين عينيه «مؤمن» وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه ويكتب بين عينيه «كافر».
وروي أنها تقول لهم: يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار. وقيل: تكلمهم من الكلم على معنى التبكيت والمراد به الجرح وهو الوسم بالعصا والخاتم.
ثم ذكر طرفا مجملا من أهوال يوم القيامة قائلا وَيَوْمَ أي واذكر يوم نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً أي جماعة كثيرة مِمَّنْ يُكَذِّبُ هذه للتبيين والأولى للتبعيض وقوله بِآياتِنا يحتمل معجزات جميع الرسل أو القرآن خاصة. وقد مر معنى قوله فَهُمْ يُوزَعُونَ في وصف جنود سليمان أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وعن ابن عباس: الفوج أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. والواو في قوله وَلَمْ
تُحِيطُوا
للحال كأنه قيل: أكذبتم بآياتي بادي الرأي من غير الوقوف على حقيقتها وأنها جديرة بالتصديق أو بالتكذيب. ويجوز أن تكون الواو للعطف والمعنى أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتفهمها، فقد يجحد المكتوب إليه كون الكتاب من عند من كتبه ومع ذلك لا يدع تفهم مضمونه وأن يحيط بمعانيه. قال جار الله: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ للتبكيت لا غير لأنهم لم يعملوا إلا التكذيب ولم يشتهر من حالهم إلا ذلك. وجوّز أن يراد ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك كأنكم لم تخلقوا إلا لأجله. وقال غيره: أراد لما لم يشتغلوا بذلك العمل المهم وهو التصديق فأيّ شيء يعملونه بعد ذلك؟ لأن كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل. قال المفسرون: يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها وذلك قوله وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار. ثم بعد أن خوّفهم بأهوال القيامة وأحوالها ذكر ما يصلح أن يكون دليلا على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال أَلَمْ يَرَوْا الآية.
ووجه دلالته على التوحيد أن التقليب من النور إلى الظلمة وبالعكس لا يتم إلا بقدرة قاهرة، ودلالته على الحشر أن النوم يشبه الموت والانتباه يشبه الحياة، ودلالته على النبوّة أن كل هذا لمنافع المكلفين وفي بعثة الرسل إلى الخلق أيضا منافع جمة، فما المانع لمفيض الخيرات من إيصال بعض المنافع دون البعض، أو من رعاية بعض المصالح دون البعض؟
ووصف النهار بالإبصار إنما هو باعتبار صاحبه وقد مر في «يونس». والتقابل مراعى في الآية من حيث المعنى كأنه قيل: ليسكنوا فيه وليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب. ثم عاد إلى ذكر علامة أخرى للقيامة فقال وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وقد تقدم تفسيره في «طه» و «المؤمنين». وقوله فَفَزِعَ كقوله وَنادى [الأعراف: ٤٨] وَسِيقَ [الزمر: ٧٣] والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال أهل التفسير: إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة. وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وقيل: هم الشهداء. وعن الضحاك: الحور وخزنة النار وحملة العرش. وعن جابر أن منهم موسى لأنه صعق مرة. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة فَفَزِعَ موافقة لقوله وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وفي «الزمر» قال فَصَعِقَ [الزمر: ٦٨] لأن معناه فمات وقد سبق إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: ٣٠].
ومعنى داخِرِينَ صاغرين أذلاء. وقيل: معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية. وجوّز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له. قال أهل المناظرة: إن الأجسام
الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر أنها واقفة مع أنها تمر مرا حثيثا، فأخبر الله سبحانه أن حال الجبال يوم القيامة كذلك تجمع فتسير كما تسير الريح السحاب، فإذا نظر الناظر حسبها جامدة أي واقفة في مكان واحد. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ قال جار الله صُنْعَ اللَّهِ من المصادر المؤكدة كقوله «وعد الله» إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ل يَوْمَ يُنْفَخُ والمعنى يوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت، أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين صنع الله، فجعل الإثابة والمعاقبة من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب. قلت: لا يبعد أن يكون الناصب ل يَوْمَ يُنْفَخُ هو «اذكر» مقدرا، ويكون صُنْعَ اللَّهِ مصدرا مؤكدا لنفسه أي صنع تسيير الجبال ومرها صنع الله. قال القاضي عبد الجبار: في قوله أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه. وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض فإن الأعراض لا يمكن وصفها بالإتقان وهو الإحكام لأنه من أوصاف المركبات. قلت: ولو سلم وصف الأعراض بالإتقان فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص، ولو سلم فالإجماع المذكور لعله ممنوع يؤيده قوله إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ وإذا كان خبيرا بكل أفعال العباد على كل نحو يصدر عنهم وخلاف معلومه يمتنع أن يقع فقد صحت معارضة الأشعري، وعلى مذهب الحكيم وقاعدته صدور الشر القليل من الحكيم لأجل الخير الكثير لا ينافي الإتقان والله أعلم. ثم فصل أعمال العباد وجزاءها بقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها إلى آخر الآيتين. وبيان الخيرية بالأضعاف وبأن العمل منقض والثواب دائم، وبأن فعل السيد بينه وبين فعل العبد بون بعيد على أن الأكل والشرب إنما هو جزاء الأعمال البدنية، وأما الأعمال القلبية من المعرفة والإخلاص فلا جزاء لها سوى الالتذاذ بلقاء الله والاستغراق في بحار الجمال والجلال جعلنا الله أهلا لذلك. وقيل: المراد فله خير حاصل منها. وعن ابن عباس: أن الحسنة كلمة الشهادة التي هي أعلى درجات الإيمان. واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يعاقب مسلم.
وأجيب بأنه يكفي في الخيرية أن لا يكون عقابه مخلدا. ثم وعد المحسنين أمرا آخر وهو قوله وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وآمن يعدّى بالجار وبنفسه. والتنوين في فزع في إحدى القراءتين إما للنوع وهو فزع نوع العقاب فإن فزع الهيبة والجلال يلحق كل مكلف وهو الذي أثبته في قوله فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وإما للتعظيم أي من فزع شديد لا يكتنهه الواصف وهو خوف النار آمنون. وأما حال العصاة فأن تكب في النار فعبر عن الجملة بالوجه لأنه أشرف أو لأنهم يلقون في الجحيم منكوسين. وقوله هَلْ
تُجْزَوْنَ
الخطاب فيه إما على طريقة الالتفات وإما على سبيل الحكاية بإضمار القول أي يقال لهم عند الكب هذا القول. ثم ختم السورة بخلاصة ما أمر به رسوله وذلك أشياء منها:
عبادة الرب سبحانه. ثم وصف الرب بأمرين احترازا من أرباب أهل الشرك أولهما كونه ربا لما هو أقرب في نظر قريش وهو بلدة مكة حرسها الله. وفيه نوع منة عليهم كقوله حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٦٧] وثانيهما عام وهو قوله وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ومنها أمره بالإسلام وهو الإذعان الكلي لأوامر الله بجميع أعضائه وجوارحه. ومنها أمره بتلاوة القرآن أي بتلوّه أي أتباعه وقد قام رسول الله ﷺ بكل ما أمر به أتم قيام حتى خوطب بقوله ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: ٢] ثم لما بين سيرته ذكر أن نفع الاهتداء ووبال الضلال لا يعود إلا إلى المكلف أو عليه وليس على الرسول إلا البلاغ والإنذار. ثم جعل ختم الخاتمة الأمر بالحمد كما هو صفة أهل الجنة وبعد أمره بالحمد على نعمة النبوة والرسالة هدّد أعداءه بما سيريهم في الآخرة من الآيات الملجئة إلى الإقرار وذلك حين لا ينفعهم الإيمان. قاله الحسن. وعن الكلبي: هي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من العقوبات في الدنيا. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ولكنه من وراء جزاء العاملين.
التأويل:
قُلْ سِيرُوا في أرض البشرية فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ لأن خواص نفوسهم أنموذج من جهنم كما أن خواص أهل القلوب أنموذج من الجنة وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ لأنه خمر طينة آدم بيديه أربعين صباحا ونفخ فيه من روحه فهو مطلع على قالبه وعلى قلبه ولهذا قال وَما مِنْ غائِبَةٍ من الخواص في سماء القلب وأرض القالب إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وهو علم الله تعالى أن هذا القرآن يقص لأن كل كتاب كان مشتملا على شرح مقام ذلك النبي ولم يكن لنبي مقام في القرب مثل نبينا، فلا جرم لم يكن في كتبهم من الحقائق مثل ما في القرآن ولهذا قال إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين هذه الأمة وبين أمة كل نبي بحكمه أي بحكمته بأن يبلغ متابعي كل نبي إلى مقام نبيهم ويبلغ متابعي نبينا ﷺ إلى مقام المحبة. فاتبعوني يحببكم الله وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لعزته لا يهدي كل مثمن إلى مقام حبيبه الْعَلِيمُ بمن يستحق هذا المقام. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ في دعوة الخلق إلى الله وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ وذلك بعد البلوغ ومضى زمان الرعي في مراتع البهيمية أَخْرَجْنا لَهُمْ من تحت أرض البشرية دَابَّةً تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ وهي النفس الناطقة فإنها إلى الآن كانت موصوفة بصفة الصمم والبكم بتبعية النفس الأمارة التي لا توقن هي وصفاتها بالدلائل. وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ
من كلامه وهي صفات الروح والقلب وذلك بعد التصفية والمداومة على الذكر والفكر، حتى إذا رجعوا إلى الحضرة قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بعد أن كنتم مصدقيها عند خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: ١٧٢] وهذا خطاب فيه استبطاء وعتاب وقع قول يحبهم عليه بدل ما ظلموا فهم لا ينطقون
كقوله «من عرف الله كل لسانه»
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً جعلنا ليل البشرية سببا لاستجمام القلب ونهار الروحانية بتجلي شمس الربوبية مبصرا يبصر به الحق من الباطل. وَيَوْمَ يُنْفَخُ إسرافيل المحبة في صور القلب فَفَزِعَ من في سموات الروح من الصفات الروحانية ومن في أرض البشرية من الصفات النفسانية إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ من أهل البقاء الذين أحيوا بحياته وأفاقوا بعد صعقة الفناء وهي النفخة الأولى في بداية تأثير العناية للهداية وإلقاء المحبة التي تظهر القيامة في شخص المحب. وفزع الصفات هيجانها للطلب بتهييج أنوار المحبة إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وهو الخفي وهي لطيفة في الروح بالقوة وإنما تصير بالفعل عند طلوع شموع الشواهد وآثار التجلي فلا يصيبه الفزع بالنفخة الأولى ولا تدركه الصعقة بالنفخة الثانية وَتَرَى جبال الأشخاص جامِدَةً على حالها وَهِيَ تَمُرُّ بالسير في الصفات وتبديل الأخلاق مَرَّ السَّحابِ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ وهي القلب والرب هو الله كما أن رب بلدة القالب هو النفس الأمارة وأنه تعالى حرم بلدة القلب على الشيطان كما قال يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: ٥] دون أن يقول «في قلوب الناس» سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها فيه إذا لم ير الآيات لم يمكن عرفانها اللهم اجعلنا من العارفين واكشف عنا غطاءنا بحق محمد وآله صلى الله وسلم عليهم.