
وهذا مذهب أهل التفسير (١).
وجعل الفراء هذه الآية من باب حذف المضاف؛ فقال: يقول: أعبادة الله خير أم عبادة الأصنام (٢). وأحسن من هذا أن يقال: الله خير لمن عبده أم الأصنام؛ يدل على صحة هذا أن هذا ذُكر بعد ذكر هلاك الكفار وسلامة المؤمنين، إلزامًا للحجة على المشركين، فقيل لهم بعد ما ذُكر هلاك الكفار: الله خير أم الأصنام. والمعنى: أن الله نجَّى مَنْ عبده من الهلاك، والأصنامُ لم تغن شيئاً عن عابديها عند نزول العذاب. وهذا معنى ما ذهب إليه المفسرون؛ وإن لم يبينوا هذا البيان.
وقال أهل المعاني: يجوز في الخير الذي لا شر فيه، والشر الذي لا خير فيه إذا كان يتوهم بعض الجهال الأمر على خلاف ما هو به أن يقال: هذا الخير خير من الشر، فلما كان المشركون يتوهمون في الأصنام وفي عبادتها خيرًا، قيل لهم احتجاجًا عليهم: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (٣).
٦٠ - قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ (٤) تقدير الكلام: أما تشركون خير أم من خلق السموات والأرض، فحذف ذكر الأول لقرب
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٧.
(٣) ذكر معناه النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢١٧. وسبق الحديث عن هذه المسألة في سورة الفرقان عند قوله تعالى: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ [١٥].
(٤) قال الأخفش: مَنْ، هاهنا ليست باستفهام على قوله: ﴿خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ إنما هي بمنزلة: الذي. "معاني القرآن" ٢/ ٦٥٠.

ذكره في قوله: ﴿أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وهذا معنى قول أبي حاتم (١).
وقوله: (حَدَائِقَ) قال الليث: الحديقة: أرض ذات شجر مثمر، والحديقة من الرياض: كل روضة قد أحدق بها حاجزٌ، أو أرضٌ مرتفعة، وأنشد لطرفة:
تَرَبعت القُفَّين في الشَّول ترتعي | حدائق مَولِيِّ الأسرةِ أَغْيدِ (٢) |
وقال أبو عبيدة: الحديقة والجنة في الدنيا مثل الحائط (٤).
قال الفراء: إنما يقال حديقة لكل بستان عليه حائط، وما لم يكن عليه حائط لا يقال له: حديقة (٥).
(٢) البيت من معلقة طرفة، ومعنى: تربعت: أقامت زمن الربيع، القُفَّين: مثنى القف؛ وهو حجارة مترادف بعضها إلى بعض، لا يخالطها من اللين والسهولة شيء. والمراد هنا: موضع في نجد إذا أخصب ربعت العرب فيه لسعته واتساعه. والشول عند الناقة: فترة تمتد من انتهاء إرضاعها إلى حملها التالي، وهو فترة تنشط فيها الناقة، المولي: المكان الذي يصيبه الولي؛ وهو المطر الثاني، الأسرة: جمع السر؛ وهو من الوادي أفضل مكان فيه. أغيد: النبات الأغيد؛ هو الناعم المتثني، ويكون كذلك لنضرته ووفرة الماء في منبته. أراد طرفة بهذا البيت أن يعلل قوة هذه الناقة بحسن تغذيتها. شرح ديوان طرفة ٩٣.
(٣) "العين" ٣/ ٤١ (حدق)، ونقله عنه الأزهري، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٤. وليس فيهما إنشاد هذا البيت.
(٤) لم أجده في كتاب المجاز، وإنما فيه: أي: جنانًا من جنان الدنيا، واحدتها: حديقة. "مجار القرآن" ٢/ ٩٥.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٩٧. وذكره ابن جرير ٢٠/ ٣، ولم ينسبه. وقال الزجاج ٤/ ١٢٨: الحديقة: البستان، وكذلك الحائط، وقيل: القطعة من النخل.

وقال ابن قتيبة: إنما يقال حديقة؛ لأنها يُحدَق عليها، أي: يُحْظَر (١).
قال ابن عباس: يريد الأجنة والشجر (٢).
وقال مقاتل: يعني حيطان النخل والشجر (٣).
وقال الكلبي: الحدائق من البساتين: ما أحيط عليه حائط (٤).
قوله: ﴿ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ قال الكلبي: ذات منظر حسن (٥).
وقال ابن عباس ومقاتل: ذات حُسن (٦).
وقال قتادة: النخل الحسان (٧).
والبهجة: الحُسْن يبتهج به مَنْ رآه، أي: يُسر.
قوله: ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ أي: ما ينبغي لكم ذلك؛ لأنكم لا تقدرون عليها (٨).
(٢) ذكره الزجاج ٤/ ١٢٨، ولم ينسبه.
(٣) هكذا في نسخة (ج): حيطان، وكذا عند مقاتل ٦١ أ، وفي نسخة (أ)، (ب): حظار النخل والشجر. وقال عكرمة: الحدائق: النخل. "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٢١٧.
(٤) ذكره الهواري ٣/ ٢٦٠، عنه بلفظ قريب من قول مقاتل، حيث قال: الحديقة: الحائط من الشجر والنخل. وفي "تنوير المقباس" ٣٢٠: بساتين؛ ما أحيط عليها من النخل والشجر.
(٥) "تنوير المقباس" ٣٢٠. وذكره ابن جرير ٢٠/ ٣، ولم ينسبه.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٦١. وأخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٧، عن الضحاك. وهو قول ابن قتيبة، "غريب القرآن" ٣٢٦. والزجاج ٤/ ١٢٨.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٨٥. وعه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩٠٧.
(٨) قال الثعلبي٨/ ١٣٣ ب: (ما): هي ما النفي، بمعنى: ما قدر عليه.