القصة الثالثة قصة صالح عليه السلام مع قومه
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٥ الى ٥٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِتَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
الإعراب:
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأن اعبدوا الله. وأَخاهُمْ مبتدأ، وفَرِيقانِ خبر المبتدأ، وإذا:
خبر ثان، أي فبالحضرة هم فريقان. ويَخْتَصِمُونَ جملة فعلية في موضع نصب حال من ضمير فَرِيقانِ.
اطَّيَّرْنا أصله: تطيرنا، فأبدلت التاء طاء، وسكنت وأدغمت الطاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل وكسرت لسكون ما بعدها.
تَقاسَمُوا فعل أمر، أمر بعضهم بعضا بالتقاسم والتحالف على أن يبيتوه وأهله. وقرئ بالياء «يقاسموا» على أنه فعل ماض لأنه إخبار عن غائب.
مَهْلِكَ أَهْلِهِ بمعنى الهلاك، وقرئ: مَهْلِكَ وأراد به الإهلاك مصدر «أهلك» وقرئ «مهلك» وأراد به الهلاك من «هلك» والمشهور في المصدر الفتح، والكسر قليل لأن الكسر يكون في المكان والزمان، فيكون «مهلك» بالكسر كالمرجع بمعنى الرجوع.
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ أَنَّا بتقدير حذف حرف الجر، أي لأنا دمرناهم، فتكون كانَ ناقصة، أو عاقِبَةُ: اسمها، وكَيْفَ: خبرها. ومن قرأ بالكسر إنا فعلى الابتداء، وعاقِبَةُ اسم كانَ، وكَيْفَ خبرها، وجملة أَنَّا دَمَّرْناهُمْ خبر مقدم لأن الاستفهام له صدر الكلام. ويحتمل أن تكون كانَ تامة أي وقع، وعاقِبَةُ فاعل، ولا تفتقر إلى خبر، وكَيْفَ في موضع نصب على الحال، أي انظر على أي حال وقع أمر عاقبة مكرهم، ثم بين العاقبة بقوله: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ.
خاوِيَةً حال من بُيُوتُهُمْ وعامله ما في فَتِلْكَ من معنى الإشارة أي أشير إليها خاوية، وتقرأ بالرفع على أنها خبر للبيوت، أو خبر ثان، أو خبر لمبتدأ مقدر أي هي خاوية، أو بدل من «البيوت» أو خبر تلك، وبُيُوتُهُمْ عطف بيان على فَتِلْكَ.
البلاغة:
بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةِ طباق. وتسمية العذاب أو العقاب بالسيئة مجاز.
يُفْسِدُونَ وَلا يُصْلِحُونَ طباق.
تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ للتحضيض.
اطَّيَّرْنا طائِرُكُمْ جناس اشتقاق.
وَمَكَرُوا وَمَكَرْنا مشاكلة، سمى تعالى إهلاكهم مكرا على سبيل المشاكلة.
المفردات اللغوية:
أَخاهُمْ من القبيلة. أَنِ اعْبُدُوا بأن وحدوا الله. فَإِذا هُمْ ففاجئوا التفرق.
فَرِيقانِ فريق مؤمن وفريق كافر. يَخْتَصِمُونَ يتنازعون ويجادل بعضهم بعضا. قالَ:
يا قَوْمِ
قال صالح للمكذبين. لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالعذاب قبل الرحمة، أو بالعقوبة التي تسوء صاحبها قبل التوبة، حيث قلتم: إن كان ما أتيتنا به حقا فأتنا بالعذاب.
هلا. تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ من الشرك. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبول التوبة فلا تعذبوا، فإنها لا تقبل عند نزول العذاب.
اطَّيَّرْنا تشاءمنا بك حيث فرقتنا، والطيرة: تعليق الخير أو الشر على طيران الطائر يمينا أو شمالا. بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ من المؤمنين، حيث قحطوا المطر وجاعوا. طائِرُكُمْ شؤمكم أي ما يصيبكم من الخير أو الشر. عِنْدَ اللَّهِ أي هو قدره أتاكم به، أو عملكم المكتوب عنده.
تُفْتَنُونَ تختبرون بالخير والشر أو تعاقب السراء والضراء.
فِي الْمَدِينَةِ مدينة ثمود وهي الحجر. تِسْعَةُ رَهْطٍ تسعة رجال، والرهط: من الثلاثة إلى العشرة، وأما النفر فهو من الثلاثة إلى التسعة. يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي شأنهم الإفساد الخالص عن شوائب الصلاح، والإفساد: بالمعاصي كاقتطاع جزء من الدراهم والدنانير، والصلاح: بالطاعة. قالُوا قال بعضهم لبعض. تَقاسَمُوا احلفوا. لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ لنباغتن صالحا وأهله الذين آمنوا به ليلا، أي نقتلهم ليلا. لِوَلِيِّهِ لولي دمه وهو من له حق القصاص من ذوي قرابته إذا قتل. ما شَهِدْنا ما حضرنا. مَهْلِكَ هلاك، وقرئ مَهْلِكَ أي إهلاك، أي فلا ندري من قتلهم.
وَمَكَرُوا مَكْراً بهذا التواطؤ على الاغتيال، والمكر: التدبير الخفي لعمل الشر.
وَمَكَرْنا مَكْراً جازينا بتعجيل عقوبتهم. لا يَشْعُرُونَ بذلك. دَمَّرْناهُمْ أهلكناهم.
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ بصيحة جبريل، أو برمي الملائكة بحجارة يرونها ولا يرونهم. خاوِيَةً خالية. بِما ظَلَمُوا بظلمهم أي كفرهم. لَآيَةً لعبرة وموعظة. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قدرتنا فيتعظون. وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بصالح، وهم أربعة آلاف. وَكانُوا يَتَّقُونَ الشرك أو الكفر والمعاصي، فلذلك خصوا بالنجاة.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة موسى وداود وسليمان، وهم من بني إسرائيل، ذكر قصة من هو من العرب، وهم ثمود أي عاد الأولى، وصالح أخوهم في النسب، بقصد تذكير قريش والعرب وتنبيههم أن من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله بالعبادة، ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة، وأن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
وكل هذه القصص من التاريخ الغابر دليل على أن محمدا رسول الله، وأنه يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم، وإنذار وتهديد لكل كافر أو مشرك.
التفسير والبيان:
لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي وتالله لقد بعثنا إلى قبيلة ثمود العربية أخاهم في النسب والقبيلة بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له، فانقسموا فريقين: فريق مؤمن مصدق برسالته وبما جاء به من عند ربه، وفريق كافر مكذّب بما جاء به.
وأصبح الفريقان يتجادلان ويتنازعان في الدين، كل فريق يقول: الحق معي، وغيري على الباطل، كما قال تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [الأعراف ٧/ ٧٥- ٧٦].
قالَ: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؟ أي قال صالح:
يا قومي، لم تطلبون أو تتعجلون نزول العقاب أو العذاب قبل أن تطلبوا من الله رحمته أو ثوابه إن عملتم بما دعوتكم إليه وآمنتم بي، والمقصود: أن الله مكنكم من التوصل إلى رحمة الله تعالى وثوابه بالإيمان، فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه؟ وكان هذا جوابا لهم حينما توعدهم صالح عليه السلام بالعذاب إن لم يؤمنوا بالله وحده، فقالوا: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف ٧/ ٧٧].
تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي هلا تطلبون من الله المغفرة وتتوبون إليه من كفركم لكي ترحموا!! لأنه إذا نزل العذاب لم تنفعكم التوبة فكان جوابهم:
قالُوا: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي قال قومه بغلظة وشدة: لقد تشاءمنا منك وممن آمن معك ولم نر خيرا منكم إذ تتابعت علينا الشدائد، ووقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم، وكانوا لشقائهم لا يصاب أحد منهم بسوء إلا قالوا: هذا من قبل صالح وأصحابه. قال مجاهد: تشاءموا بهم.
وهذا كما قال الله تعالى إخبارا عن قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف ٧/ ١٣١].
وسمي التشاؤم تطيرا من عادة العرب بزجر الطير أي رميه بحجر ونحوه، فإن تحول يمينا تفاءلوا، وسموه السانح، وإن اتجه يسارا تشاءموا وسموه البارح.
قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي قال صالح: شؤمكم وتفاؤلكم وما يصيبكم من شر أو خير هو قدر الله أتاكم به، وهو مكتوب عند الله، والله يجازيكم على ذلك، فهو إن شاء رزقكم، وإن شاء حرمكم. وسمي القضاء والقدر طائرا لسرعة نزوله بالإنسان. وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء ٤/ ٧٨].
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي بل إنكم قوم تختبرون بالطاعة والمعصية، حين أرسلني الله إليكم، فإن أطعتم أجزل الله لكم الثواب، وإن عصيتم حل بكم العقاب. وقال ابن كثير: والظاهر أن المراد بقوله: تُفْتَنُونَ أي تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال. وعلى أي حال، فإن القصد بيان أن سبب نزول الشر بهم هو عصيانهم.
ثم أخبر الله تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم، وعن كون مدينة ثمود مرتع الفساد الكثير فقال:
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي وكان في مدينة ثمود وهي الحجر تسعة نفر أوغلوا في الفساد الذي لا أثر للصلاح فيه، فكانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح، وهم الذين تواطؤوا على عقر الناقة وعلى قتل صالح ومن آمن به، فقال تعالى:
قالُوا: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي قال بعضهم لبعض في المشاورة بشأن صالح بعد أن عقروا الناقة: احلفوا لنباغتنه وأهله الذين آمنوا معه ليلا، فنقتلنهم، فهذا تحالف على قتل نبي الله صالح عليه السلام ليلا قتل غيلة، ثم تحالفوا على أن يقولوا لأولياء الدم أو القصاص إذا مات: ما حضرنا هلاكهم، ولا ندري من قتلهم، وإنا لصادقون في قولنا، أي إننا لم نحضر هلاك أحد الجانبين وهو أهل صالح، وإن فعلوا الأمرين معا. قال الزمخشري: وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم.
وهذا من الزمخشري على طريقة المعتزلة في أن العقل يدرك الحسن والقبح قبل الشرع، والكذب قبيح عقلا.
وكان تآمرهم على قتل صالح بعد أن توعدهم على عقرهم الناقة فقال لهم:
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود ١١/ ٦٥].
ولكن الله كادهم وأحبط مؤامرتهم وجعل الدائرة عليهم، فقال: وَمَكَرُوا مَكْراً، وَمَكَرْنا مَكْراً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي ودبروا مؤامرة وكادوا كيدا خفيا، ولكنا جازيناهم وأهلكناهم، وعجلنا لهم العقاب، دون أن يشعروا بمجيئه، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ أي فتأمل أيها الرسول وكل سامع كيف كان مصير تأمرهم أنا أهلكناهم وقومهم جميعا، ولم نبق أحدا منهم إلا الذين آمنوا بصالح عليه السلام.
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي وكان من آثار إنزال العذاب بهم أن أصبحت مساكنهم خالية بسبب ظلمهم أنفسهم، إن في هذا العقاب لعبرة وموعظة لأناس أهل معرفة وعلم، يعلمون بسنة الله في خلقه، وبأن النتائج مرتبطة بالأسباب، فالويل كل الويل لمن كفر بالله وكذب رسله، ولم يقلع عن طغيانه وعناده وكفره.
أما المؤمنون فهم دائما ناجون كما قال سبحانه:
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ أي ونجينا من العذاب صالحا النبي ومن آمن به إذ ساروا إلى بلاد الشام ونزلوا بالرملة من فلسطين لأن الإيمان واتقاء عذاب الله بطاعته سبب دائم للنجاة من عذاب الدنيا والآخرة.
والمقصود تذكير قريش والعرب وتحذيرهم بأنهم إن استمروا في كفرهم وعنادهم عذبوا كما عذّب أمثالهم، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين المصدقين برسالته ينجيهم الله برحمة منه وفضل.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- من البداهة أن ينقسم الناس بعد النبوة إلى فريقين: فريق مؤمن وفريق كافر، وليس هذا شرا، وإنما هو أثر طبيعي من آثار الرسالة النبوية، وهو حجة على الكافرين وليس ذريعة لهم في معاداة الأنبياء.
٢- المخاطبون بالرسالة الإلهية هم المخطئون المقصرون بتفويت فرصة الخير على أنفسهم، لذا قال صالح عليه السلام لقوله: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب، وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب، فكانوا يقولون لفرط الإنكار: ايتنا بالعذاب. وهم لم يدركوا أن الإيمان سبب للرحمة، والكفر سبب للعذاب.
٣- لقد استبد الجهل والعناد بقوم صالح فقالوا بغلظة: لقد تشاءمنا منك وممن آمن بك، والشؤم: النحس، ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطّيرة أي التشاؤم، ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء، أو يدفع مقدورا فقد جهل. وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة، وكانت إذا أرادت سفرا نفّرت طائرا، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت،
فنهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال فيما رواه أبو داود والحاكم عن أم كرز: «أقرّوا الطير على وكناتها»
أي أعشاشها ولا تنفروها،
وفي رواية: «مكناتها».
ورد صالح على قومه: قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي مصائبكم عند ربكم، وأنتم قوم تمتحنون، وقيل: تعذبون بذنوبكم.
٤- إن قادة السوء ودعاة الكفر من أشد الناس عذابا يوم القيامة، ويضاعف لهم العذاب، لذا خصص القرآن التنديد بتسعة رجال من أبناء مدينة صالح وهي الحجر، وكانوا عظماء المدينة، وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد، ويدعون قومهم إلى الكفر والضلال. وكان قدار بن سالف الذي عقر الناقة أحد هؤلاء التسعة زعماء الاجرام. وزاد من طغيانهم أنهم عقروا الناقة، وتآمروا على قتل نبي الله صالح عليه السلام، فكانوا عتاة قوم صالح، مع أنهم كانوا من أبناء أشرافهم.
٥- إن كل مكر أو تدبير خفي أو مؤامرة دنيئة كالتآمر على قتل نبي، ذو عاقبة سيئة، فلا يحيق المكر السيء إلا بأهله، لذا كان عقاب قبيلة ثمود بسبب كفرهم وطغيانهم التدمير والإهلاك بصيحة جبريل عليه السلام وبإمطار الملائكة عليهم حجارة قاتلة قتلتهم. قال القرطبي: والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد، ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة.
٦- بقيت آثار الدمار شاهدة على سوء أفعال ثمود، فصارت بيوتهم خالية من