ثم أوجز الله تعالى العبرة من هذه القصة بتلك العبارة التي ختمت بها فقال:
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي انظر يا محمد كيف كان مصير أو آخر أمر الكافرين الظالمين، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه، ولينظر أيضا كل عاقل، وليعتبر بالنتائج الحادثة بأسباب تؤدي إليها في سنة الله ونظامه.
القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما السلام
- ١- نعم الله الجليلة عليهما
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
الإعراب:
قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ خاطبهم مخاطبة من يعقل لما وصفهم بصفات من يعقل.
لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ لا الناهية، ولهذا دخلت النون المشددة في يَحْطِمَنَّكُمْ.
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ جملة حالية.
البلاغة:
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه حسن الاعتذار والالتفات.
يا أَيُّهَا النَّمْلُ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه نداء، وتنبيه، وأمر بالدخول، وبيان الملجأ والمأمن، والتحذير، وتخصيص سليمان، ثم التعميم، والاعتذار الحسن.
المفردات اللغوية:
عِلْماً هو علم الشرائع والأحكام والقضاء بين الناس ومنطق الطير وغير ذلك.
وَقالا شكرا لله، وعطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة، كأنه قال: ففعلا شكرا له ما فعلا، وقالا: الحمد لله الَّذِي فَضَّلَنا.. بالنبوة والعلم وتسخير الجن والإنس والشياطين على من لم يؤت علما. وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله، حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل، ولم يعتبروا ما دونه من الملك. وفيه أيضا تحريض للعالم على أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله وأن يتواضع.
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ النبوة والعلم أو الملك دون باقي أولاده الذين كانوا تسعة عشر عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي علمنا فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، والمنطق والنطق: الصوت المعبر عما في النفس. وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تؤتاه الأنبياء والملوك، وفيه التحدث بنعمة الله، ودعوة الناس إلى التصديق بالمعجزة التي هي علم الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه. إِنَّ هذا المؤتى. لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ البيّن الظاهر. يُوزَعُونَ يكفّون، ويجمعون بأن يوقف أوائلهم لتلحقهم أواخرهم من الوزع: الكف والمنع. وَحُشِرَ جمع. وادِ النَّمْلِ واد في بلاد الشام كثير النمل، وقيل: في بلاد اليمن. قالَتْ نَمْلَةٌ هي ملكة النمل، وقد رأت جند سليمان.
لا يَحْطِمَنَّكُمْ أصله: لا يحتطمنكم، وهو نهي لهم عن الحطم أي عن التوقف بحيث يحطمونها
ويكسرونها، وهو مثل قولهم: لا أرينك هاهنا. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنهم يحطمونكم، إذ لو شعروا لم يفعلوا، كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإيذاء. وقد نزل النمل منزلة العقلاء، في الخطاب بخطابهم.
فَتَبَسَّمَ سليمان. ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها تعجبا من تحذيرها واهتدائها إلى مصالحها أو سرورا بما خصه الله به من إدراك همسها وفهم غرضها. أَوْزِعْنِي ألهمني. وَعَلى والِدَيَّ أدرج في دعائه ذكر والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها، فإن النعمة عليهما نعمة عليه، والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ تماما للشكر واستدامة للنعمة. فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي أدخلني في عدادهم الجنة، وهم الأنبياء والأولياء.
المناسبة:
هذه قصة ثانية بعد قصة موسى عليه السلام تبين آثار حكمة الله، وتعليمه، وإنزال القرآن، وأنه من حكيم عليم، ففيها يخبر الله تعالى عما أنعم به على داود وسليمان من النعم الجليلة والصفات الجميلة، وما جمع لهما من سعادة الدنيا والآخرة بإيتاء النبوة والملك معا.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أي ولقد أعطينا كلا من داود وابنه سليمان طائفة من العلم هو علم الشرائع والأحكام والقضاء بين الناس، وعلمنا داود صنعة دروع الحرب، وعلمنا سليمان منطق الطير، فشكرا الله تعالى على نعمه، وقالا: الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من العباد المؤمنين بهذه العلوم والمعارف الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، ولم يؤتهم مثلنا.
وهذا دليل على فضل العلم الذي لم يكن الملك إلا دونه، وعلى رفع مرتبة العلم والعلماء، كما قال سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجاتٍ
[المجادلة ٥٨/ ١١] وهو حث للعالم على شكر النعمة وعلى التواضع، فلم يفضلا أنفسهما على الكل، وإنما على الكثير، وتذكير بأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل على الكثير أناس مثله. وأشرف مراتب العلم: العلم بالله وبصفاته. روي ابن أبي حاتم أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب: إن الله لم ينعم على عبده نعمة، فيحمد الله عليها، إلا كان حمده أفضل من نعمه، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل، قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً، وَقالا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام.
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي خلف سليمان أباه داود بعد موته في ميراث النبوة والعلم والملك، وليس المراد وراثة المال، لأنه خصص بهذا الإرث عن بقية أولاد داود الكثر، ولأن الأنبياء لا تورث أموالهم، كما أخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم في
قوله فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة: نحن معاشر الأنبياء «لا نورث، ما تركنا صدقة».
وكان داود أكثر تعبدا من سليمان، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله، وكان أعظم ملكا من أبيه، فقد أعطي ما أعطي داود، وزيد له تسخير الريح والشياطين، ومعرفة لغة الطيور، كما أخبر تعالى معددا بعض نعم الله عليه:
١- تعليمه منطق الطير:
وَقالَ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي قال سليمان متحدثا بنعمة الله عليه أن ربه علّمه لغة الطير والحيوان إذا صوّت، فأستطيع التمييز بين مقاصده من نوع تصويته. وربما فهم بعض الناس الذين يقدمون خدمات للحيوان بعض أصوات الحيوانات، كالخيول والبغال والحمير والأبقار والإبل والقطط، فيدركون رغبتها في الأكل أو الشرب، ويفهمون تألمها عند المرض أو
الضرب. وأدرك أناس في العصر الحديث كثيرا من لغات الطيور حال الحزن أو الفرح أو الحاجة إلى الطعام والشراب والاستغاثة وغير ذلك بالتجربة والملاحظة وتشابه النغمات في حال واحدة، كما حاولوا معرفة لغات الحشرات كالنمل والنحل.
قال البيضاوي: ولعل سليمان عليه السلام كان إذا سمع صوت حيوان، علم بقوّته الحدسية التخيل الذي صوّته، والغرض الذي توخاه به، ومن ذلك ما حكي: أنه مرّ ببلبل يصوّت ويرقص، فقال سليمان: إنه يقول: «إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء» وصاحت فاختة «١»، فقال: إنها تقول: «ليت الخلق لم يخلقوا» فلعل صوت البلبل كان عن شبع وفراغ بال، وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب.
وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي وأعطينا خيرا كثيرا من كل شيء في الدين والدنيا من ملك وثروة. وهذا الأسلوب كما ذكر الزمخشري يراد به كثرة ما أوتي كما تقول: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، تريد كثرة قصّاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه، ومثله قوله تعالى في مقال الهدهد عن بلقيس:
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل ٢٧/ ٢٣].
والضمير في عُلِّمْنا، وَأُوتِينا لسليمان ولأبيه، أو له وحده، على عادة الملوك، لمراعاة قواعد السياسة.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي إن هذا المؤتى من الخيرات والنعم من النبوة والملك والحكم، لهو الفضل الإلهي الظاهر البيّن الذي لا يخفى على أحد، وهو فضل الله علينا. وهو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة، كما
قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر»
أي أقول هذا القول شكرا، ولا أقوله فخرا.
٢- جنود سليمان:
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير، أي ركب فيهم في أبّهة وعظمة، تليه الإنس، ثم الجن، ثم الطير، فإن كان حرّ أظلته منه بأجنحتها، فهم يجمعون بترتيب ونظام، بأن يوقف أوائلهم لتلحقهم أواخرهم، ويردّ أو يكفّ أولهم على آخرهم، لئلا يتقدم أحد عن منزلته ومرتبته، وليكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد. وهذا يدل على مسيرته في جيش عظيم منظم له عرفاء، ليس جيشا من الناس فقط، وإنما معه الجن، والطير.
قال مجاهد: جعل على كل صنف وزعة (عرفاء)، يردون أولاها على أخراها، لئلا يتقدموا في المسير، كما يفعل الملوك اليوم. وعلى هذا فكلمة يُوزَعُونَ من الوزع وهو الكف والمنع، قال عثمان بن عفان: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن أي من الناس. وقال الحسن البصري: لا بد للناس من وازع، أي سلطان يكفّ ويمنع.
وهذا دليل على أن سليمان عليه السلام جمع بين النبوة والسلطات كلها، والملك الذي لم يتوافر لأحد بعده، فضلا من الله واستجابة لدعائه: قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص ٣٨/ ٣٥- ٣٧]. وقال تعالى: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ ٣٤/ ١٢- ١٣].
وبه يتبين أن الله تعالى سخر لسليمان الإنس، فكان له عساكر كثيرون منهم، والجن لصناعة المباني الضخمة والأواني الواسعة والقدور السابغة، والطير، كما سيأتي في قصة الهدهد.
٣- قصة النملة:
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي حتى إذا قدم سليمان ومن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل، وهي- كما يقال ولم يثبت- واد بالشام أو بغيره كثير النمل، نادت نملة هي ملكة النمل، كما فهم سليمان: يا أيها النمل، ادخلوا بيوتكم، حتى لا يكسرنكم سليمان وجنوده، دون أن يشعروا بذلك.
وقوله: لا يَحْطِمَنَّكُمْ كما جاء في الكشاف: يحتمل أن يكون جوابا للأمر، أي ادخلوا لا يحطمنكم، مثل: اجتهد لا ترسب، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر، أي في معنى: لا تكونوا حيث أنتم، فيحطمكم، على طريقة: لا أرينك هاهنا.
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها، وَقالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي فتبسم شارعا في الضحك بعد أن فهم قولها، تعجبا من تحذيرها، أو سرورا بما خصه الله به من فهم غرضها، وقال: ربّ ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي من تعليمي منطق الطير والحيوان وعلى والدي بالإسلام لك والإيمان بك، وأن أعمل عملا تحبه وترضاه قياما بواجب الشكر على النعمة، واجعلني إذا توفيتني في الجنة في زمرة الصالحين من الأنبياء والأولياء الصلحاء.
وإنما أدرج ذكر والديه لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين، خصوصا نعمة الدين، فإن الولد إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته، وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له.
وهذا دليل على أن نعمة العلم وحدها كافية في وجوب الشكر، مستحقة للحمد والثناء على المتفضل المنعم بها. وفيه الدليل على البر بالوالدين والدعاء لهما بعد موتهما.
ومن وقائع فهم سليمان كلام النمل: ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: «خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غنى بنا عن سقياك، وإلا تسقنا تهلكنا، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن نعمة العلم من أجل النعم وأشرفها وأرفعها رتبة، وإن من أوتي العلم فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين، كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة ٥٨/ ١١].
٢- كان إرث سليمان من والده داود عليهما السلام هو النبوة والملك، وليس وراثة مال، وإلا لكان جميع أولاد داود التسعة عشر فيه سواء. والمقصود أنه صار إليه ذلك بعد موت أبيه، فسمي ميراثا تجوزا، كما
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي الدرداء مرفوعا: «العلماء ورثة الأنبياء»
أي ورثتهم في العلم والحكمة وفهم أمور الدين والدنيا على حقيقتها. ودليل ذلك
قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: إنا معشر الأنبياء «لا نورث».
٣- تقتضي نعمة العلم وغيره شكر المنعم وحمده على فضله وإحسانه، كما فعل داود وسليمان عليهما السلام، ودل قولهما على تواضع العلماء والاعتقاد بأنه وإن فضلا على كثير، فقد فضل عليه أناس مثلهما، وهذا مشابه لقول عمر رضي الله عنه: كل الناس أفقه من عمر.
٤- عدد الله في القصة نعما ثلاثا على سليمان عليه السلام: هي تعليمه منطق الطير وإيتاؤه الخير الكثير، وتسخير الجن والإنس والطير، وفهمه خطاب النملة. وأصوات الطيور والبهائم هو منطقها، وفي مناطقها معاني التسبيح وغير ذلك، كما أخبر تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء ١٧/ ٤٤].
٥- بدأ سليمان عليه السلام في تعداد هذه النعم قائلا: يا أَيُّهَا النَّاسُ وهذا تشهير لنعمة الله، وتنويه بها، واعتراف بمكانها، ودعوة الناس إلى التصديق برسالته بذكر المعجزة وهي علم منطق الطير وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور.
٦- اشتمل دعاء سليمان عليه السلام على طلب الإلهام من الله شكر ما أنعم به عليه، وعلى توفيقه لزيادة العمل الصالح والتقوى، فهو عليه السلام بعد أن سأل ربه شيئا خاصا وهو شكر النعمة، سأل شيئا عاما وهو أن يعمل عملا يرضاه الله تعالى.
٧- دل قوله: فَهُمْ يُوزَعُونَ على جواز اتخاذ الإمام والحكام وزعة (أي عرفاء) يكفّون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم.
هذا.. وقد علّق ابن العربي على قول عثمان: «ما يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن» فقال:
وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن. وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ووضعه لخلقه، فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافّة قائمة لقوام الخلق، لا زيادة عليها ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظلمة خاسوا بها،
وقصّروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية منها، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها، فلم يرتدع الخلق بها.
ولو حكموا بالعدل، وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور «١».
٨- ما حكاه تعالى من قول النملة: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حسن اعتذار، وبيان عدل سليمان ورأفته وتدينه وفضله وفضل جنوده، فهم لا يحطمون نملة أو لا يدوسون على نملة فما فوقها إلا خطأ غير مقصود لا يشعرون به. وقد قيل: إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها، ولذلك أكد التبسم بقوله ضاحِكاً إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، وتبسم الضحك إنما هو عن سرور، وسرور النبي بأمر الآخرة والدين، لا بأمر الدنيا.
٩- أفهم الله تعالى النملة هذا الكلام لتكون معجزة لسليمان عليه السلام.
١٠- أودع الله في كل حيوان غرائز معينة، يهتدي بها إلى ما ينفعه، ويمتنع بها عما يضره. ومن درس طبائع الحيوانات وعرف خصائصها، أدرك فيها عجائب مثيرة، وإلهامات غريبة، وذلك يدعو إلى الإيمان بالله الخالق الموجد الملهم، وسبحانه أبدع كل شيء، وأحسن كل شيء خلقه. وقد أجاب موسى عليه السلام فرعون حينما قال له ولأخيه هارون: قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى [طه ٢٠/ ٤٩- ٥٠].