آيات من القرآن الكريم

إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ
ﰁﰂﰃﰄﰅ ﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ

فقه الحياة أو الأحكام:
كانت معجزة موسى عليه السلام العصا واليد، فألقى عصاه من يده، فانقلبت ثعبانا وهو أعظم ما يكون من الحيّات، وأدخل يده في جيبه ثم أخرجها، فإذا هي تلألأ، كأنها قطعة من الشمس، لكن كان بياضها نورانيا كالقمر.
فوصف فرعون تلك المعجزة لقومه بأنها من قبيل السحر، لا من قبيل المعجزة، وحرضهم على اتخاذ خطة للغلبة على موسى وأخيه، حتى لا يأخذ البلاد من أيديهم.
وهنا جاء دور المزايدة كما يفعل أتباع الرؤساء اليوم، فأشاروا على فرعون بجمع مهرة السحرة من أرجاء البلاد، ليقابلوه بنظير ما جاء به موسى، وتتحقق لفرعون الغلبة والنصرة عليه.
ولكن كان في هذا الجمع مفاجأة إلهية أدت إلى إيمان السحرة جميعا بإله موسى وهارون.
- ٤- إيمان السحرة بالله في المبارزة الحاسمة في مشهد عظيم
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٨ الى ٥١]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)

صفحة رقم 146

الإعراب:
قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل اشتمال من فَأُلْقِيَ أو حال بإضمار: قد.
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ بدل للتوضيح.
المفردات اللغوية:
لِمِيقاتِ ما وقت به من ساعات يوم معين، وهو وقت الضحى من يوم الزينة الذي حدده موسى عليه السلام. والميقات يطلق على الميقات الزماني كأشهر الحج، والميقات المكاني وهو مواقيت الإحرام. وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ الاستفهام للحث على مبادرتهم إلى الاجتماع.
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا، والترجي على تقدير غلبتهم، ليستمروا على دينهم، فلا يتبعوا موسى، فالمقصود الأصلي ألا يتبعوا موسى، لا أن يتبعوا السحرة، فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه السلام.
قالَ: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن غلبوا. أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ لم يرد به الأمر بالسحر والتمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة، توسلا به إلى إظهار الحق. بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أقسموا بعزة فرعون، أي قوته على أن الغلبة لهم، لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.
تَلْقَفُ تبتلع. ما يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه، بتمويههم وتزويرهم، فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق، يخيل شيئا لا حقيقة له. وإنما بدّل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله، ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم، فكأنهم أخذوا وطرحوا على

صفحة رقم 147

وجوههم، وأنه تعالى ألقاهم بما تعهدهم به من التوفيق. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ فيه إشعار بأن موجب إيمانهم ما أجراه الله على يدي موسى وهارون لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يتأتى بالسحر.
قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قال فرعون أآمنتم لموسى. آذَنَ لَكُمْ أنا. إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ إن المسؤول هو كبيركم موسى الذي علمكم شيئا دون شيء، ولذلك غلبكم، وتواطأتم على ما حدث. أراد بذلك التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم، وما ينالكم مني.
لا ضَيْرَ لا ضرر علينا في ذلك وفيما يلحقنا من عذاب الدنيا. إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي إنا راجعون في الآخرة بعد موتنا إلى الله ربنا بأي وجه كان، فالصبر على الإيمان محاء للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى. إِنَّا نَطْمَعُ نرجو. أَنْ كُنَّا بأن كنا أو لأن. أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ في زماننا.
التفسير والبيان:
أراد فرعون وقومه القبط أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، وهذا شأن الإيمان والكفر، والحق والباطل، ما تواجها وتقابلا إلا غلب الإيمان الكفر: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء ٢١/ ١٨]، وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء ١٧/ ٨١].
وهذا مشهد من مشاهد الصراع بين الحق والباطل، قال تعالى:
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ جمع السحرة وجاؤوا من أقاليم مصر، في اليوم المخصص للقاء موسى، وهو وقت الضحى من يوم الزينة (العيد) كما حدد موسى: قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه ٢٠/ ٥٩] والميقات: ما وقت به الزمان أو المكان، ومنه مواقيت الإحرام.
وكان السحرة أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك، وكانوا هم الفئة المثقفة، وكانوا جمعا كثيرا، قيل: كانوا اثني عشر ألفا، وقيل أكثر، والله أعلم

صفحة رقم 148

بعددهم. قال ابن إسحاق: وكان أمرهم راجعا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم وهم:
سابور وعاذور وحطحط ومصفى.
وأراد موسى عليه السلام أن تقع تلك المبارزة يوم عيد لهم، ليكون ذلك أمام حشد عظيم، ولتظهر حجته عليهم أمام الجموع الغفيرة، وهذا كله من لطف الله تعالى في إظهار أمر موسى عليه السلام.
وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ؟ أي طلب من الناس الاجتماع، وحثهم قوم فرعون على الحضور لمشاهدة ما يحدث من الجانبين، ثقة من فرعون بالغلبة، وهم أرادوا ذلك حتى لا يؤمن أحد بموسى، وموسى عليه السلام رغب أيضا في هذا التجمع لتعلو كلمة الله، وتتغلب حجة الله على حجة الكافرين.
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي وقال قائلهم: إنا نرجو أن يتغلب السحرة، فنستمر على دينهم، ولا نتبع دين موسى. ولم يقولوا: نتبع الحق، سواء كان من السحرة أو من موسى لأن الرعية على دين ملكهم.
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. قالَ: نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي لما قدم السحرة إلى مجلس فرعون، وقد جمع حوله وزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته، قالوا: هل لنا أجر من مال أو غيره إن تغلبنا على موسى، قال: نعم لكم الأجر، وزيادة على ذلك أجعلكم من المقربين عندي ومن جلسائي، فهم ابتدؤوا بطلب الجزاء: وهو إما المال وإما الجاه، فبذل لهم كلا الأمرين.
وبعدئذ تحاوروا مع موسى على البادئ بالإلقاء، فجعلهم أولا كما قال تعالى:
قالَ لَهُمْ مُوسى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أي أذن لهم موسى بالبدء بالإلقاء، وقال: ألقوا ما تريدون إلقاءه من العصي والحبال، ثقة منه بأن الله غالبة ومؤيده، وليكون

صفحة رقم 149

ما يلقونه طعمة لعصاه، بعد أن عرضوا عليه أن يبدأ أولا بالإلقاء، فألقوا ما معهم من الحبال المطلية بالزئبق، والعصي المحشوة به، وقالوا: بعزة فرعون أي بقوته وجبروته إنا لنحن المتغلبون عليه.
فلما حميت الشمس، تحركت العصي والحبال، وامتلأت الساحة بالحيات والثعابين، وخيل إلى موسى أنها تسعى، وسحروا أعين الناس، واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم، كما قال تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه ٢٠/ ٦٦- ٦٨] وقال سبحانه: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. [الأعراف ٧/ ١١٦]. وحينئذ ابتهج فرعون وقومه، واعتقدوا أن السحرة غلبوا، وأن عصا موسى لن تفعل شيئا أمام آلاف الحيات.
فأمره الله أن يلقي عصاه:
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي فلما ألقى موسى عصاه، فإذا هي تبتلع من كل بقعة ما قلبوا صورته وزيفوا حاله بتمويههم وتخييلهم أنها حيات تسعى، فلم تدع منه شيئا، كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف ٧/ ١١٧- ١١٨].
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي فخرّ السحرة ساجدين بلا شعور لأنهم أدركوا أن ما فعله موسى فوق قدرة البشر، وأنه من فعل إليه الكون رب موسى وهارون، فلم يتمالكوا أنفسهم إلا ووجدوها ساجدة لهذا الإله، أما هم فقد بذلوا أقصى ما لديهم من علم وطاقة، وما هو منتهى فعل السحرة من تخييل وتمويه.

صفحة رقم 150

وفاعل الإلقاء في فَأُلْقِيَ أو نائب الفاعل هو الله عز وجل بما رزقهم من التوفيق، أو هو إيمانهم، أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة. ويجوز عدم تقدير فاعل لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا.
والتعبير بالإلقاء إشارة إلى الدهشة التي اعترتهم، حتى لكأنهم أخذوا فطرحوا وسقطوا ساجدين لله. ثم أعلنوا ما وقر في صدورهم:
قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ أي قال السحرة:
صدقنا واعترفنا برب العالمين الذي دعا إليه موسى وهارون، مفضلين الإيمان على الكفر، والحق على الباطل، غير عائبين بعزة فرعون وجبروته وباطله، ولا طامعين بأجره وقربته ومنافعه.
وهذا دليل على إسقاط ربوبية فرعون، وأن سبب الإيمان هو ما رأوه من معجزة الرسولين: موسى وهارون عليهما السلام.
ولما رأى فرعون ما حدث أسقط في يده، وتحير في أمره، فلجأ إلى التهديد والوعيد شأن العتاة الظالمين، حتى لا تسقط هيبته أمام شعبه، وتتداعى أركان حكمه وسلطانه، ويفعل الناس مثل فعل السحرة الكثيرين، فإنه توقع الغلبة، ففوجئ بالهزيمة المنكرة، ولكن لم تفلح تهديداته في السحرة شيئا، وأصروا على الإيمان بالله تعالى، لانكشاف الحقيقة لهم، وقال لإنقاذ موقفه:
أولا- قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ قال فرعون للسحرة: أتؤمنون بموسى قبل استئذاني، وكيف تخرجون عن طاعتي، وأنا الحاكم المطاع؟! وفي هذا إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه، وأنكم متهمون بالتواطؤ معه، فربما قصروا في إتقان السحر.
وإنما قال لَهُ لا (به) لأنه الذي يدعو إليه موسى وهارون.

صفحة رقم 151

ثانيا- إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وهذا تصريح بما رمز إليه أولا، فإنكم فعلتم ذلك بتواطؤ بينكم وبينه، وقصّرتم في السحر، ليظهر أمر موسى.
وهذا تلبيس على القوم وتضليل لهم لئلا يعتقدوا أن إيمان السحرة حق، ومبالغة في التنفير عن موسى عليه السلام، ومكابرة ظاهرة الضعف، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل الموعد أصلا، فكيف يكون هو كبيرهم الذي علمهم السحر؟! ثالثا- فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم، وما ينالكم مني من عقاب.
وهذا وعيد مطلق وتهديد شديد.
رابعا- لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أي توعدهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والصلب بعد ذلك جميعا. وليس في الإهلاك أشد من ذلك.
فأجابوه بما يدل على صلابة الإيمان بوجهين:
الأول- قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ الضر والضير واحد، أي لا حرج ولا ضرر علينا من ذلك، ولا نبالي به، فكل إنسان ميت، ولو بعد حين، والمرجع إلى الله عز وجل، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء، وهذا دليل على أنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب، وإنما مقصودهم مرضاة الله تعالى، ولهذا قالوا:
الثاني- إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا إشارة منهم إلى الكفر والسحر، أي إنا نأمل أن يغفر لنا ربنا ذنوبنا وما أكرهتنا عليه من السحر، من أجل أن كنا أول المؤمنين الذين شهدوا هذا الموقف، أو بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فما كان من فرعون إلا أن قتلهم جميعا. والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين، كقول إبراهيم:

صفحة رقم 152

وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء ٢٦/ ٨٢] ويحتمل الظن لأن المرء لا يعلم ما سيحصل في المستقبل.
ونظير الآية: قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ، وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه ٢٠/ ٧٢- ٧٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
كان اجتماع السحرة مع موسى عليه السلام للمبارزة أمام فرعون وملئه في مشهد عظيم خلده التاريخ، تبين فيه موقف أهل الحق والإيمان بالله، وموقف الأفاكين والمبطلين.
اجتمع الناس يوم عيد للقبط هو يوم الزينة، كما حدد موسى عليه السلام:
قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه ٢٠/ ٥٩] وحرض بعضهم بعضا على الحضور، ورجوا أو تأملوا غلبة السحرة على موسى وأخيه هارون.
وبوادر الهزيمة كانت قائمة، فالسحرة أرادوا التفوق والغلبة لهدف دنيوي إما المال وإما الجاه، ووعدهم فرعون بالأمرين معا، وأما موسى وأخوه عليهما السلام فأرادوا نصرة الحق، وإثبات صدق النبوة والرسالة، وإعلاء كلمة الله، فأيدهما الله بنصره لأن المعجزة أمر خارق للعادة، مصدرها الإرادة الإلهية، وشتان بين قدرة الله وقدرة البشر! ومن علائم الهزيمة: ابتداء السحرة بإلقاء حبالهم وعصيهم لتكون طعمة لعصا موسى عليه السلام، بالرغم من انشداه الناس وانبهارهم بها، روي عن ابن عباس: أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم، وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق،

صفحة رقم 153

والعصي مجوفة مملوءة بالزئبق، فلما حميت اشتدت حركتها، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض، فهاب موسى عليه السلام ذلك، فقيل له: ألق ما في يمينك فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ثم فتحت فاها، فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم، حتى أكلت الكل، ثم أخذ موسى عصاه، فإذا هي كما كانت، فلما رأى السحرة ذلك قالوا لفرعون: كنا نساحر الناس، فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي، وكذلك إن غلبونا، ولكن هذا حق، فسجدوا وآمنوا برب العالمين.
أما عدد السحرة والحبال والعصي فليس فيها رواية ثابتة، والذي يدل عليه القرآن أنها كانت كثيرة، من حيث حشروا من كل بلد، ولأن فرعون اطمأن إلى الغلبة بهذا الجمع الغفير.
ومن أمارات الهزيمة: أن السحرة قالوا حين الإلقاء: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ، إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أي قطعوا بالغلبة، أما موسى فألقى باسم الله وعزته.
والمفاجأة العظمى الأخرى غير نصر المعجزة لموسى عليه السلام هي إيمان السحرة بالله عز وجل، فخروا ساجدين لله تعالى لأنهم كانوا عالمين بمنتهى السحر، فلما رأوا أن عصا موسى تبتلع كل ما صنعوا من تخييل وتمويه، وشاهدوا أن ذلك خارج عن حدّ السحر، علموا أنه ليس بسحر.
وقد أعلنوا إيمانهم الجازم بالله عز وجل غير عائبين بتهديدات فرعون الجبار العاتي، وفضلوا الموت استشهادا في سبيل هذا الإيمان، مع تقطيع الأيدي والأرجل والصلب، على العودة إلى مستنقع الكفر وضلال السحر، وخلد القرآن الكريم موقفهم الصلب الثابت رضي الله عنهم، بأمرين:
الأول- التفاني في حب الله وابتغاء مرضاته، وأنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو

صفحة رقم 154
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية