- ٢- الجدل بين موسى وفرعون في إثبات وجود الله
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٣ الى ٣١]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)
البلاغة:
أَلا تَسْتَمِعُونَ صيغة تعجيب.
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ التأكيد بأنّ واللام لتشكك السامع وتردده.
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بينهما طباق.
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قال موسى ذلك في بدء مناظرته لفرعون وقومه بطريق التلطف والملاينة طمعا في إيمانهم، ثم لما رأى عنادهم ومغالطتهم وبخهم بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وهذا مقابل لقول فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ.
المفردات اللغوية:
قالَ فِرْعَوْنُ لموسى. وَما رَبُّ الْعالَمِينَ أي وما حقيقته وأيّ شيء هو الذي قلت:
إنك رسوله. قالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا لما لم يكن للخلق سبيل إلى معرفة حقيقته تعالى، وإنما يعرفونه بصفاته، أجابه موسى عليه السلام بأنه خالق السموات والأرض وما بينهما، وهو أظهر خواصه وآثاره. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنه تعالى خلق ذلك، فآمنوا به
وحده، أو إن كنتم ذوي قلوب موقنة وأبصار نافذة، والمعنى: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح، نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفع.
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ قال فرعون لأشراف قومه أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه الذي لم يطابق السؤال، سألته عن حقيقة رب العالمين، فذكر أفعاله، أو يزعم أنه رب السموات وهي متحركة بذواتها وغير محتاجة إلى مؤثر، وهذا مذهب الدهرية، وفيه تعجب من نسبة الربوبية إلى غيره.
قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قال موسى: إنه رب جميع الخلائق وإنه رب المشرق والمغرب، وهذا وإن كان داخلا فيما قبله الذي استوعب به الخلائق كلها، فإنه تخصيص بعد تعميم، لأنه أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل. إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر، وسماه رسولا على سبيل السخرية.
قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما قال موسى: إنه الرب الذي تشاهدون آثاره كل يوم، فيأتي بالشمس من المشرق، ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله، حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع ينتظم به أمور الكائنات. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ إن كان لكم عقل علمتم ألا جواب لكم فوق ذاك. إنه بقوله السابق: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لاينهم أولا، ثم لما رأى شدتهم وخشانتهم عارضهم بمثل مقالتهم.
قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قال فرعون، عدولا إلى التهديد عن المحاجة والمناظرة، وهكذا شأن المعاند المحجوج. وهذا دليل على ادعائه الألوهية وإنكاره للصانع. واللام في المسجونين للعهد، أي ممن عرفت حالهم في سجوني، فإن سجنه كان شديدا، يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده، لا يبصر ولا يسمع فيه أحدا، حتى يموت، فكان ذلك أشد من القتل.
قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي قال له موسى: أتفعل ذلك ولو جئتك ببرهان على رسالتي يعني المعجزة. والواو في قوله: أَوَواو الحال، دخلت عليها همزة الاستفهام. قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي قال فرعون له: فائت به إن كنت صادقا في أن لك بينة، أو في دعواك النبوة، فإن مدعي النبوة لا بد له من حجة.
المناسبة:
لما سمع فرعون جواب موسى عما طعن به فيه وهو القتل والتربية، ورأى أن موسى وهارون مصران على دعوتهما إلى توحيد الله، وطلبهما إخراج بني إسرائيل من مصر، شرع في الاعتراض على الدعوى، فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل
للأنبياء، علما بأن فرعون لم يقل لموسى: وما ربّ العالمين إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين، بدليل ما تقدم من قوله: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ.
التفسير والبيان:
هذه مناظرة بين موسى وفرعون حول الإله، فلما قال موسى وهارون لفرعون: إنا أرسلنا إليك من رب العالمين لهدايتك إلى الحق وتوحيد الله، وتفوّقا عليه بالحجة، لجأ إلى المعارضة، وأصرّ على جحوده وتمرده وطغيانه، فقال:
قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ أي قال فرعون لموسى: وما حقيقة رب العالمين الذي أرسلك؟ ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ وسبب السؤال أنه كان يقول لقومه: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص ٢٨/ ٣٨] فجحدوا الإله الصانع جلّ وعلا، واعتقدوا أنه لا رب لهم سوى فرعون.
فأجابه موسى عليه السلام:
قالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي قال موسى: هو خالق ومالك السموات والأرض وما فيهما من كواكب ونجوم، وبحار وجبال وأنهار وأشجار، وإنسان وحيوان ونبات، وما بينهما من الهواء والطير وما يحتوي عليه الجو، إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة، الجميع عبيد له، خاضعون ذليلون، خلق الأشياء كلها، وهو المتصرف فيها. أو إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود لذاته، فاعرفوا أنه هو الله، وأنه لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. ونظير الآية قوله: قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٢٠/ ٤٩- ٥٠].
فلم يعجبه الجواب والتفت إلى خاصته ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله:
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ أي قال فرعون لحاشيته: ألا تعجبون من قوله وزعمه أن لكم إلها غيري، وأ لا تستمعون لتخريفه وتهربه من الجواب؟
أسأله عن حقيقة رب العالمين، فيذكر أفعاله وآثاره.
فذكر موسى جوابا آخر أخص مما ذكر وأدل على المراد، لأنه واقع حسي مشاهد لهم:
قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي إنه تعالى خالقكم وخالق آبائكم المتقدمين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، والمقصود أن التغير من وجود إلى عدم وبالعكس دليل الحدوث، فأنتم محدثون، كنتم بعد العدم، وآباؤكم ماتوا بعد أن كانوا موجودين، وأنتم مثلهم على الطريق، أما الإله الواجب لذاته فهو الباقي الذي لا يطرأ عليه الفناء، ولا أول لوجوده ولا آخر، فهو إذن الإله.
فلما حار فرعون ولم يجد جوابا مقنعا، لجأ إلى عقلية الصبية والاتهام الرخيص:
قالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أي قال فرعون لقومه: إن رسولكم ليس له عقل، لا يفهم السؤال، فضلا عن أن يجيب عنه، وهو يخلط في كلامه، ويدعي أن هناك إلها غيري.
فعدل موسى إلى طريق ثالث أوضح من الجواب الثاني فقال:
قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي قال موسى:
إنه الله تعالى رب طلوع الشمس وظهور النهار، ورب غروب الشمس وزوال النهار، وهو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربا
تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع انتظام مداراتها، فهذا الذي يغير ويبدل، وينظم ويدبر تدبيرا مستمرا كل يوم هو الله، بل هو الذي يدبر الكون كله، لا أنتم، إن كان لكم عقل تدركون به ظواهر الكون، وهذا مناسب لقولهم واتهامهم بأنه مجنون. فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقا، فليعكس الأمر، وليجعل المشرق مغربا، والمغرب مشرقا.
وهذا الطريق في الاستدلال على وجود الله هو الذي سلكه إبراهيم الخليل عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة، وهو بعينه الذي أجاب به موسى هنا بقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فأجابه نمروذ بقوله:
أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة ٢/ ٢٥٨] فقال إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة ٢/ ٢٥٨] وهو الذي ذكره موسى هنا بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
ولما غلب موسى فرعون بحجته، اتجه كأهل السلطة في كل زمان ومكان إلى التهديد والوعيد باستخدام القوة والقهر والسلطان، فقال:
قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أي قال فرعون:
لئن ألّهت غيري، لجعلتك في عداد المسجونين الذين يزجّ بهم كما تعلم في قيعان السجون تحت الأرض، ويتركون حتى يموتوا، وكان سجنه أشد من القتل.
فقابل موسى التهديد والتخويف بالمعجزات الخارقة للعادة بعد أن لم تفلح الأدلة العقلية، فقال:
قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي قال موسى: أتفعل هذا وهو السجن، ولو أتيتك بحجة بيّنة، وبرهان قاطع واضح على صدق دعواي النبوة؟
وهي المعجزة الدالة على وجود الله تعالى.
قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قال فرعون: فأت بهذا الشيء الذي يشهد لك، والدليل الواضح على دعوى الرسالة، فكل من يدعي النبوة عليه تأييد دعواه، ظنا منه أنه سيعارضه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه مناظرة حاسمة في شأن إثبات وجود الله بين موسى عليه السلام وفرعون الطاغية الجبار.
يتبين منها النزعة المادية عند الماديين والملحدين، الذين يريدون رؤية الله تعالى بالعين المجردة أو لمسه بالحس المجاور، كشأن بقية المواد، لذا استفهم فرعون عن حقيقة رب العالمين، فأتى موسى عليه السلام بالصفات الدالة على الله من مخلوقاته، التي لا يشاركه فيها مخلوق لأن حقيقة الله لا يدركها أحد، ولأن المادة المجسدة محدثة، والله تعالى هو خالقها وموجدها.
وكان جواب موسى الأول أن الله هو خالق السموات والأرض وما بينهما، فهو المالك والمتصرف وخالق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيّرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات ونبات وثمار، وما بين ذلك من الهواء والطير وغيرهما.
وخلق الأشياء هو الدليل القاطع على وجود الله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل ١٦/ ١٧].
فلما أدرك فرعون عجزه عن الإيجاد والخلق، قال: أَلا تَسْتَمِعُونَ؟
مستخدما أسلوب الإغراء والتعجب من غرابة المقالة التي تصادم المقرر في عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم، كالفراعنة المتقدمين.
ثم أتى موسى عليه السلام ثانيا بدليل يفهمونه عنه من الحس والمشاهدة التي
يطلبونها، فقال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي أن الله خالقهم وخالق آبائهم الأوائل، فانحدارهم من آباء فنوا، ووجودهم بعد أن لم يكونوا، دليل على أنه لا بدّ لهم من مغيّر، فهم محدثون، ولا بد لهم من مكوّن وهم مخلوقون.
لم يجد فرعون جوابا، فلجأ إلى التهكم والاستخفاف واتهم موسى بالجنون لأنه لا يجيب عما سأله تماما.
فأجابه موسى ثالثا بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ أي إن الله هو مسيّر نظام الكون كله، ومحرك هذا العالم بأجمعه في نظام بديع لا يعرف الخلل والاضطراب، ومالك جميع أنحاء الأرض، أما فرعون فيملك بلدا واحدا، لا سلطان له على غيره، فهل من عقل يدرك هذا، وهل من إدراك يؤدي بهم إلى ضرورة الإيمان بصاحب الملك المطلق، وأن المالك الجزئي عبث وسفه وجنون أن يكون إلها، فمن إله بقية العالم؟
ولما هزم فرعون أمام حجة موسى، لم يجد بدا من استخدام السلطة الإرهابية، فتوعد موسى بالسجن، وذلك عين الضعف، مع أنه كما يروى كان سجنه أشد من القتل، وكان إذا سجن أحدا، لم يخرجه من سجنه حتى يموت، فكان مخوفا.
ولكن التأييد الإلهي أشد نفاذا وإرهابا وإقناعا، ولا يجدي معه توعد فرعون، ويهون أمامه كل مخاوف الدنيا، فحينئذ طلب موسى عليه السلام إثبات صدق دعواه النبوة بالمعجزة الخارقة للعادة التي لا تحدث إلا على يد نبي أو رسول بإحداث الله تعالى وإيجاده، فقبل فرعون إظهار تلك المعجزة، ظنا منه أنه سيبطلها، ويأتي بما يعارضها.