
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ إِلَى قَوْلِهِ:
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ.
وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: بَلْ كُنْتُمْ عَادِينَ، مُبَالَغَةٌ فِي تَحْقِيقِ نِسْبَةِ الْعُدْوَانِ إِلَيْهِمْ. وَفِي جَعْلِ الْخَبَرِ قَوْمٌ عادُونَ دُونَ اقْتِصَارٍ عَلَى عادُونَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعُدْوَانَ سَجِيَّةٌ فِيهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَالْعَادِي: هُوَ الَّذِي تَجَاوَزَ حَدَّ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، يُقَالُ: عَدَا عَلَيْهِ، أَيْ ظَلَمَهُ، وَعُدْوَانُهُمْ خُرُوجُهُمْ عَنِ الْحَدِّ الْمَوْضُوعِ بِوَضْعِ الْفِطْرَةِ إِلَى مَا هُوَ مُنَافٍ لَهَا مَحْفُوفٌ بِمَفَاسِدِ التَّغْيِير للطبع.
[١٦٧- ١٧٣]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٦٧ إِلَى ١٧٣]
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣)
قَوْلُهُمْ كَقَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ لِنُوحٍ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ فَهَدَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ مَدِينَتِهِمْ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَلْ كَانَ مُهَاجِرًا بَيْنَهُمْ وَلَهُ صِهْرٌ فِيهِمْ.
وَصِيغَةُ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أَبْلَغُ مِنْ: لَنُخْرِجِنَّكَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٦]. وَكَانَ جَوَابُ لُوطٍ عَلَى وَعِيدِهِمْ جَوَابُ مُسْتَخِفٍّ بِوَعِيدِهِمْ إِذْ أَعَادَ الْإِنْكَارَ قَالَ: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أَيْ مِنَ الْمُبْغِضِينَ. وَقَوْلُهُ: مِنَ الْقالِينَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ قَالٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧]. وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْجِنَاسِ لِأَنَّهُ يَكُونُ جِنَاسًا تَامًّا فَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ قالَ وَبَيْنَ الْقالِينَ جِنَاسٌ مُذَيَّلٌ وَيُسَمَّى مُطَرَّفًا.

وَأَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُنْجِيَهُ وَأَهْلَهُ مِمَّا يَعْمَلُ قَوْمُهُ، أَيْ مِنْ عَذَابِ مَا يَعْمَلُونَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَنَجَّيْناهُ. وَلَا يَحْسُنُ جَعْلُ الْمَعْنَى: نَجِّنِي مِنْ أَنْ أَعْمَلَ عَمَلَهُمْ، لِأَنَّهُ يَفُوتُ مَعَهُ التَّعْرِيضُ بِعَذَابٍ سَيَحِلُّ بِهِمْ. وَالْقِصَّةُ تَقَدَّمَتْ فِي الْأَعْرَافِ وَفِي هُودٍ وَالْحَجَرِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَنَجَّيْناهُ لِلتَّعْقِيبِ، أَيْ كَانَتْ نَجَاتُهُ عَقِبَ دُعَائِهِ حَسْبَمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ أَسْرَعِ مُدَّةٍ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْخُرُوجِ بِأَهْلِهِ إِلَى قَرْيَةِ «صُوغَرَ».
وَالْعَجُوزُ: الْمَرْأَةُ الْمُسِنَّةُ وَهِيَ زَوْجُ لُوطٍ، وَقَوْلُهُ: فِي الْغابِرِينَ صِفَةُ عَجُوزاً.
وَالْغَابِرُ: الْمُتَّصِفُ بِالْغُبُورِ وَهُوَ الْبَقَاءُ بَعْدَ ذَهَابِ الْأَصْحَابِ أَوْ أَهْلِ الْخَيْلِ، أَيْ بَاقِيَةٌ فِي الْعَذَابِ بَعْدَ نَجَاةِ زَوْجِهَا وَأَهْلِهِ وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. وَذَلِكَ أَنَّهَا لَحِقَهَا الْعَذَابُ مِنْ دُونِ أَهْلِهَا فَكَانَ صِفَةً لَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قِصَّتِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ إِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ أَجْدَرُ بِأَنْ يُذْكَرَ فِي مَقَامِ الْمَوْعِظَةِ مِنْ ذِكْرِ إِنْجَاءِ لُوطٍ الْمُؤمنِينَ.
وَالتَّدْمِيرُ: الْإِصَابَةُ بِالدَّمَارِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اسْتُؤْصِلُوا بِالْخَسْفِ وَإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ.
وَالْمَطَرُ: الْمَاءُ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ السَّحَابِ عَلَى الْأَرْضِ. وَالْإِمْطَارُ: إِنْزَالُ الْمَطَرِ، يُقَالُ: أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ. وَسُمِّيَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْحِجَارَة مَطَرا لِأَن نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجَوِّ.
وَقِيلَ هُوَ مِنْ مَقْذُوفَاتِ بَرَاكِينٍ فِي بِلَادِهِمْ أَثَارَتْهَا زَلَازِلُ الْخَسْفِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
وَ (سَاءَ) فِعْلُ ذَمٍّ بِمَعْنَى بِئْسَ. وَفِي قَوْلِهِ: الْمُنْذَرِينَ تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أُنْذِرُوا فَلم ينتذروا.