
وأمرهم بتقوى الله عز وجل وهي امتثال أمره واجتناب نهيه، وحذرهم من إطاعة أمر كبرائهم ورؤسائهم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
فاتهموه بأنه مسحور لا عقل له، ونفوا عنه الرسالة لأنه بشر مثلهم فكيف يوحى إليه دونهم، ويكون نبيا غيرهم؟ ثم طالبوه بالإتيان بمعجزة حسية تدل على صدقه، فأيده الله بالناقة العظيمة التي لا مثيل لها، فكانت تشرب ماء نهير صغير كله في يوم، ثم تدرّ لهم الحليب، فيحلبون منها ما شاؤوا في اليوم التالي.
ولكن أبطرتهم النعمة، وأساؤوا إلى أنفسهم، وتواطؤوا على عقرها، حبّا في الإساءة ذاتها، فعقرها رجل منهم اسمه «قدار» ثم ندموا على عقرها لما أيقنوا بالعذاب، ولكن لم ينفعهم الندم عند معاينة العذاب، كما قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ... [النساء ٤/ ١٨] فأهلكهم الله بالزلزلة والصيحة بسوء فعلهم وقبح كفرهم.
القصة السادسة قصة لوط عليه السلام مع قومه
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٠ الى ١٧٥]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)

الإعراب:
نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ على حذف مضاف، أي عقوبة ما يعملون من الفاحشة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
البلاغة:
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ.
قالَ مِنَ الْقالِينَ جناس ناقص، الأول من القول، والثاني من القلى مصدر قلى:
أبغض بغضا شديدا.
المفردات اللغوية:
أَخُوهُمْ الذي يعايشهم في السكن والبلد، لا في الدين والنسب لأنه ابن أخي إبراهيم من أرض بابل الذُّكْرانَ الذكور مِنَ الْعالَمِينَ من الناس لَكُمْ لأجل استمتاعكم مِنْ أَزْواجِكُمْ أي أقبالهن عادُونَ متجاوزون الحدود الشرعية والعقلية والفطرية السليمة من الحلال إلى الحرام لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن إنكارك علينا مِنَ الْمُخْرَجِينَ المطرودين المنفيين من بلدنا الْقالِينَ المبغضين لفعلكم غاية البغض أو أشد البغض مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من عذاب أو عقوبة أو شؤم عملهم.
وَأَهْلَهُ أي أهل بيته والمتبعين له على دينه، أخرجه الله من بينهم وقت حلول العذاب بهم إِلَّا عَجُوزاً هي امرأة لوط فِي الْغابِرِينَ الباقين في العذاب، أصابها حجر في الطريق فأهلكها لأنها كانت مائلة إلى القوم، راضية بفعلهم، وقيل: كانت فيمن بقي في القرية، فإنها لم تخرج مع لوط دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم أشد إهلاك وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً قيل: أمطر الله عليهم حجارة، فأهلكهم فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مطرهم، واللام فيه للجنس، حتى يصح وقوع المضاف إليه فاعل (ساء) والمخصوص بالذم محذوف، وهو مطرهم.

المناسبة:
هذه قصة أخرى كسابقاتها للعبرة والعظة، هي قصة لوط بن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، بعثه الله تعالى إلى أمة عظيمة في عهد إبراهيم، تسكن من قطاع الأردن سدوم وأعمالها التي أهلكها الله وهي عمورة وثلاثة مدن أخرى، وجعل مكانها بلاد الغور المتاخمة لجبال بيت المقدس، والمحاذية لبلاد وجبال الكرك والشوبك، والمجاورة للبحر الميت «بحيرة لوط» فدعاهم إلى عبادة الله عز وجل وحده، لا شريك له، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله، وارتكاب ما ابتدعوه من الفواحش، مما لم يسبقهم إليه أحد من العالمين، من إتيان الذكور دون الإناث.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي إن قوم لوط كذبوا نبيهم المرسل إليهم ومن كذّب رسولا فقد كذب جميع المرسلين، حين قال لهم لوط عليه السلام: ألا تتقون عذاب الله بترك معاصيه، فإني رسول لكم مؤتمن على تبليغ رسالته، فاتقوا الله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وأطيعوني فيما آمركم به من عبادة الله وحده، وإتيان النساء بالزواج وما أنهاكم عنه من ارتكاب الفواحش، ولا أطلب منكم أجرا أو جزاء على تبليغ رسالتي، فما جزائي إلا على الله رب الإنس والجن وجميع العوالم في الأرض والسماء.
ثم وبخهم وقرعهم وأنكر عليهم ظاهرة الفحش الشنيعة قائلا: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي كيف تقدمون على شيء شاذ جدا، أترتكبون هذه المعصية الشنيعة؟ وهو إتيان

الذكور من الناس، وهو كناية عن وطء الرجال، وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء، وسماه الله تعالى فاحشة، فقال: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [الأعراف ٧/ ٨٠] وتتركون إتيان نسائكم اللاتي جعلهن الله للاستمتاع الطبيعي بهن، كما قال تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة ٢/ ٢٢٢].
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي لكن أنتم قوم متجاوزون الحد في الظلم وفي جميع المعاصي، ومنها هذه الفعلة الشنيعة.
وقوله: بَلْ إضراب، بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء، لا أنه إبطال لما سبق من الإنكار عليهم وتقبيح أفعالهم. والمراد: بل أنتم أحق بأن توصفوا بالعدوان، حيث ارتكبتم مثل هذه الفاحشة.
ولما نهاهم عن هذا الفعل القبيح توعدوه وهددوه:
قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي قال قوم لوط له:
لئن لم تنته عن دعواك النبوة، وعن الإنكار علينا فيما نأتيه من الذكور، وهو ما جئتنا به، لنطردنك وننفينك من هذه البلدة التي نشأت فيها، ونبعدنك من بيننا، كما أبعدنا من نهانا قبلك، كما قال تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل ٢٧/ ٥٦].
فأجابهم بأن إبعاده لا يمنعه من الإنكار عليهم والتبرؤ منهم لما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه، وأنهم مستمرون على ضلالتهم، فقال:
إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي إني من المبغضين بغضا شديدا لعملكم، فلا أرضاه ولا أحبه، وإني بريء منكم، وإن هددتموني وأوعدتموني بالطرد. وكونه بعض القالين يدل على أنه يبغض هذا الفعل ناس غيره، هو بعضهم، وقوله:
مِنَ الْقالِينَ أبلغ من أن يقول: إني لعملكم قال.

وفيه تنبيه على أن هذا الفعل موجب للبغض، حتى يبغضه الناس.
ثم دعا الله بإنجائه من سوء فعلهم قائلا:
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي يا ربّ، خلّصني من عقوبة ما يعملون من المعاصي، ونجني من شؤم أعمالهم.
والخلاصة: أنهم لما توعدوه بالإخراج، أخبرهم ببغض عملهم، ثم دعا ربّه بالنجاة من سوء فعلهم. فأجاب الله دعاءه:
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ أي فنجيناه وأهل بيته ومن آمن به جميعا ليلا من عقوبة عملهم ومعاصيهم، إلا امرأة عجوزا هي امرأته، وكانت عجوز سوء لم تؤمن بدين لوط، بقيت مع القوم ولم تخرج، فهلكت، كما قال سبحانه: إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ [هود ١١/ ٨١] لأنها كانت راضية بسوء أفعالهم، وتنقل إليهم الأخبار.
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي ثم أهلكنا القوم الآخرين الباقين الذين انغمسوا في المنكرات، وكفروا بالله الذي خلقهم، ولم يؤمنوا برسله، وأنزلنا عليهم العذاب الذي عمّ جميعهم، وأمطرنا عليهم حجارة من سجّيل منضود، فبئس هذا المطر مطر المهلكين المنذرين بالهلاك. قال قتادة: أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم.
وقال مقاتل: خسف الله بقوم لوط، وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية، ولم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط. وقال وهب بن منبّه: أنزل الله عليهم الكبريت والنار، أي فجر الله فيها البراكين النارية. والْمُنْذَرِينَ لم يرد بهم قوما بأعيانهم، إنما هو للجنس، والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم.
والخلاصة: أن عقابهم كان زلزالا شديدا جعل بلادهم عاليها سافلها، وكان

مصحوبا بكبريت ونار وحجارة من السماء، فأحرقت قراهم، كما قال تعالى:
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود ١١/ ٨٢] فالعقوبة: هي الزلزال والبركان.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وهذه هي العبرة والخاتمة التي ختمت بها القصة، كما ختمت بها قصص الأنبياء المتقدمين، والمعنى: إن في تلك القصة لعبرة وعظة لكل متأمل، حيث أهلك الله العصاة الموغلين في المعصية، وهم اللوطيون، ونجى المؤمنين الصالحين الذين أنكروا تلك الفاحشة، وكانت امرأة لوط من الهالكين لتواطؤها مع قومها، ومحبتها فعلهم، ولم تنفعها صلتها بالنبي لوط عليه السلام لأن لكل امرئ ما اكتسب من الإثم، وما كان أكثر هؤلاء القوم بمؤمنين، بل كانوا وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين التائبين.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الكفر بالله تعالى ورسله، والشذوذ الجنسي (اللواط) وترك الاستمتاع الطبيعي الحلال من طريق الزواج بالنساء، مدعاة للانتقام الإلهي، والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة.
ومهمة النبي لوط عليه السلام كانت صعبة جدا في علاج هذا الأمر المتأصل المستعصي في قومه، فأنكر عليهم أشد الإيمان، ووبّخهم أشد التوبيخ، ووصفهم بأنهم قوم موغلون في العدوان وتجاوز حدود الله، وأعلن بغضه الشديد لعملهم، بالرغم من تهديدهم له بالطرد والإبعاد من بلدهم.
ولما يئس لوط عليه السلام من إيمان هؤلاء القوم بالله، والتطهر من فعل الفاحشة الشنيعة، دعا ربه بأن ينجيه وأهله من عذاب عملهم، وألا يصيبه من عذابهم، وهذا يتضمن الدعاء عليهم، ولا يدعو النبي على قومه إلا بإذن من ربه.