
صاحبه اعتبارٌ واستدلال على قدرته، ومتسع لذكره، وطاعته أيضًا (١). وهذا قول المفسرين كما حكينا عنهم في القول الأول في الخلفة. وعلى قول جاهد، الظاهر أنه أراد بالتذكير: الاعتبار، والاستدلال على قدرته، لا الذكر الذي هو التسبيح، والتنزيه (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ الشُكُور: مصدر شَكَر يَشْكُر، شُكْرًا وشُكُورًا، كما يقال: كَفَر يَكْفُر، كُفْرًا وكُفُورًا، قال الله تعالى: ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: ٩] قال ابن عباس في هذه الآية: يريد لمن أراد أن يتعظ، ويطيعني (٣). وقال مجاهد: يشكر نعمة ربه عليه فيهما (٤).
٦٣ - قوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ قال الليث (٥): الهون: مصدر الهَيِّن في معنى (٦) السكينة والوقار. تقول: هو يمشي هَوْنًا، وجاء عن علي رضي الله عنه: (أحبب حبيبك هونًا ما) (٧).
(٢) أخرج بسنده ابن أبي حاتم ٨/ ٢٧١٩، عن مجاهد: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ﴾ يتعظ.
(٣) "تنوير المقباس" ص ٣٠٥.
(٤) "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٥٥. وأخرجه عنه ابن جرير ١٩/ ٣٢، وابن أبي حاتم ٨/ ٢٧١٩.
(٥) (الليث) في (ج).
(٦) (معنى) ساقطة من النسخ الثلاث، وهي في "تهذيب اللغة" ٤/ ٩٢ (هون).
(٧) كتاب "العين" ٤/ ٩٢ (هون)، بنصه. و"تهذيب اللغة" ٦/ ٤٤٠ (هان)، وفيهما: مصدر الهين، في معنى السكينة والوقار. والأثر ذكره الثعلبي ٨/ ١٠١ ب، مرفوعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- بدون إسناد، ولفظه: "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيظك يوماً ما، وأبغض بغيظك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما". وأخرجه الترمذي ٦/ ٣١٤، مرفوعاً، كتاب البر والصلة رقم: ١٩٩٧. وقال: حديث غريب. وصححه الألباني مرفوعاً، في "غاية المرام" ٢٧٣، وذكر له طرقاً. وأما الموقوف =

قال شمِر في تفسيره: الهَوْنُ: الرِّفق، والدَّعَة، والهِينَة، يقول: لا تُفرط في حُبه ولا بغضه (١)، وأنشد:
تَهادَى في رِداءِ المِرْط هَونًا (٢)
قال ابن عباس: يريد بالسكينة والوقار (٣). وهو لفظ مجاهد (٤).
(١) "تهذيب اللغة" ٦/ ٤٤١ (هان)، وفيه: قاله في تفسير حديث علي. قال ابن القيم: الهَون، بالفتح في اللغة: الرفق واللين. والهُون، بالضم: الهوان. فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان. والمضموم: صفة أهل الكفران، وجزاؤهم من الله النيران. مدارج السالكين ٢/ ٣٢٧. قال ابن كثير ٦/ ١٢٢: وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعًا ورياءً، فقد كان سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع... وإنما المراد بالهَون هنا السكينة والوقار.
(٢) "تهذيب اللغة " ٦/ ٤٤١ (هان)، ولم ينسبه، وصدره:
مررت على الوَرِيقَةِ ذات يوم
ولم يسم الأزهري من أنشد هذا البيت. وأورده في "لسان العرب" ١٣/ ٤٣٩، وصدره:
مررت على الوديعة ذات يوم
فلعل: الوريقة تصحيف: الوديعة. والله أعلم. تهادى مأخوذ من التهويد، وهو: المشي الرُّوَيد، مثل الدبيب ونحوه. "تهذيب اللغة" ٦/ ٣٨٨ (هاد). المرط: جمعه: مروط، وهي أكسية من صوف أو خز، كان يؤتزر بها. "تهذيب اللغة" ١٣/ ٣٤٥ (مرط).
(٣) أخرج بسنده ابن جرير ١٩/ ٣٣، عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق علي بن أبي طلحة: بالطاعة والعفاف والتواضع، وكذا ابن أبي حاتم ٨/ ٢٧١٩. واختاره الزجاج ٤/ ٧٤، واقتصر عليه، ولم ينسبه. واقتصر عليه في "الوجيز" ٢/ ٧٨٣.
(٤) "تفسير مجاهد" ٢/ ٤٥٥. وبسنده ذكره الفراء ٢/ ٢٧٢، ونسبه لعكرمة أيضًا. =

وقال الحسن، وعطاء، والضحاك، ومقاتل: حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد (١)
وقال قتادة: ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ تواضعًا لله لعظمته (٢).
وروى أسامة بن زيد، عن أبيه، قال: لا يشتدون (٣).
وقال ابن وهب: لا يتكبرون على الناس، ولا يتجبرون (٤).
وانتصب ﴿هَوْنًا﴾؛ لأنه صفة مصدر محذوف، أي: يمشون مشيًا
(١) "تفسير مقاتل" ص ٤٧ أ. وأخرجه بسنده عن الحسن، عبد الرزاق، في تفسيره ٢/ ٧١، وعنه ابن جرير ١٩/ ٣٤، ولفظه عندهما: حلماء علماء لا يجهلون. وأخرجه أيضًا الثعلبي ٨/ ١٠١ ب. وأخرج ابن أبي حاتم ٨/ ٢٧١٩، عن ابن عباس رضي الله عنهما: علماء حلماء.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٨/ ٢٧٢١.
(٣) أخرجه ابن جرير ١٩/ ٣٤.
أسامة بن زيد بن أسلم العمري المدني، ضعيف، ليس له في الكتب الستة سوى حديث واحد عند ابن ماجه. "سير أعلام النبلاء" ٦/ ٣٤٣، و"تقريب التهذيب" ص ١٢٣، وأما أبوه زيد بن أسلم فهو مولى عمر رضي الله عنه، ثقة عالم، وكان يرسل. ت: ١٣٦. "سير أعلام النبلاء" ٥/ ٣١٦، و"تقريب التهذيب" ص ٣٥٠.
(٤) أخرجه ابن جرير ١٩/ ٣٤، فقال: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ قال: لا يتكبرون على الناس، ولا يتجبرون، ولا يفسدون. وقرأ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: ٨٣]. وأخرجه ابن أبي حاتم ٨/ ٢٧٢١، دون ذكر الآية. قال الزمخشري ٣/ ٢٨٣: ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، ولقوله: ﴿وَيَمْشِي في الْأَسْوَاقِ﴾.

هونًا (١). قال المفسرون: هذا من صفة خواص عباد الله، أضافهم إليه لاصطفائه إياهم، كما يقال: بيت الله، وناقة الله (٢).
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ﴾ قال مقاتل: يعني السفهاء (٣) ﴿قَالُوا سَلَامًا﴾ يقول: إذا سمعوا الأذى من كفار مكة، ردوا معروفًا (٤). قال الكلبي: نسختها آية القتال (٥).
وقال ابن عباس: ردوا سدادًا من القول (٦)، لا يجهلون مع من يجهل. وهذا قول مجاهد؛ قال: قالوا سدادًا (٧).
وقال الحسن: إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا (٨).
(٢) "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٣١٥. من قوله: أضافهم إليه.. قال البغوي ٦/ ٩٣: الإضافة هنا للتخصيص، والتفضيل، وإلا فالخلق كلهم عباد الله.
(٣) "تفسير مقاتل" ص ٤٧ أ. وأخرج ابن أبي حاتم ٨/ ٢٧٢٢، عن سعيد بن جبير: يعني: السفهاء من الكبار.
(٤) "تفسير مقاتل" ص ٤٧ أ. و"تنوير المقباس" ص ٣٠٥.
(٥) ذكره الثعلبي ٨/ ١٠٢ أعن أبي العالية، والكلبي، ولفظه: هذا قبل أن يؤمروا بالقتال ثم نسختها آية القتال. ولفظ الفراء يشعر بميله لهذا القول؛ قال ٢/ ٢٧٢: كان أهل مكة إذا سبوا المسلمين ردوا عليهم رداً جميلاً قبل أن يؤمروا بقتالهم. ونسبه للكلبي، السمرقندي ٢/ ٤٦٥. وذكره عنهما البغوي ٦/ ٩٣.
(٦) "تنوير المقباس" ص ٣٠٥.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٧١، وعنه ابن جرير ١٩/ ٣٥. وأخرجه ابن أبي حاتم ٨/ ٢٧٢٢. وذكره عنه الثعلبي ٨/ ١٠٢ أ.
(٨) أخرجه ابن جرير ١٩/ ٣٥. وذكر الثعلبي عن الحسن ٨/ ١٠٢ أ، قولا آخر؛ ولفظه: سلموا عليهم، دليله قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [القصص: ٥٥]. وأخرج عنه ابن أبي حاتم ٨/ ٢٧٢٢، دون ذكر الآية. وذكر الماوردي ٤/ ١٥٥، عن الضحاك، قالوا: وعليك السلام. ولم =

وقال قتادة. كانوا لا يجاهلون أهل الجاهلية (١) والجهل (٢).
(١) (الجاهلية) في (ج).
(٢) ذكره السيوطي، "الدر المنثور" ٦/ ٢٧٢، ونسبه لابن أبي حاتم، ولكني لم أجده عنده.

وقال مقاتل بن حيان: ﴿قَالُواْ سَلَمًا﴾ أي: قولًا يسلمون فيه من الإثم (١).
قال أبو إسحاق، وأبو علي: نتسلم منكم سلامًا لا نجاهلكم كأنهم قالوا: تسلمًا منكم لا نتلبس بشيء من أمركم (٢).
وقال أبو الهيثم: معناه: سدادًا من القول، وقصدًا لا لغو فيه (٣). وهو معنى قول ابن حيان. وذكرنا معنى: السلام فيما تقدم (٤). والأولى أن لا تكون هذه الآية منسوخة؛ لأنها صفة لخواص من عباد الله، لا يجهلون، ولا يرفثون، بل يحلمون (٥).
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٧٤. وذهب إلى هذا المبرد؛ فقال: تأويله المتاركة، أي: لا خير بيننا وبينكم ولا شر. المقتضب ٣/ ٢١٩، وسبقه إلى هذا سيبويه، "الكتاب" ١/ ٣٢٤.
(٣) "تهذيب اللغة" ١٢/ ٤٤٨ (سلم).
(٤) قال الواحدي: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ﴾ [النساء: ٩٤] وقرئ: ﴿السَّلَمَ﴾ فمن قرأ بالألف واللام فله معنيان؛ أحدهما: أن يكون السلام الذي هو تحية المسلمين؛ أي: لا تقولوا لمن حياكم بهذه التحية: إنما قالها متعوذًا، فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا بماله، ولكن كفوا عنه، واقبلوا منه ما أظهره. والثاني: أن يكون المعنى: لا تقولوا لمن اعتزلكم، وكف يده عنكم فلم يقاتلكم: لست مؤمناً.. وأصل هذا من السلامة؛ لأن المعتزل طالب للسلامة.
(٥) قال السمرقندىِ ٢/ ٤٦٥، بعد أن ذكر قول الكلبي، في أن الآية منسوخة: وقال بعضهم: هذا خطأ؛ لأن هذا ليس بأمر، ولكنه خبر من حالهم، والنسخ يجرى =