
الحق مع غيرهم وأرادوا جحوده، طلبوا التحاكم إلى غير هذا النبي من أعدائه الذين يحكمون بأهوائهم.
ففي قلوبهم مرض الكفر والنفاق، والشك والريب في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وعدله، وهم في الواقع الظالمون، أي المعاندون الكافرون الذين يريدون جحود الحقوق لإعراضهم عن حكم الله تعالى، وليس هناك أدنى جور في حكم الله والرسول.
هذه عادة الذين يتاجرون بالإسلام وتملق أهله ما دامت لهم مصلحة، فإن زالت المصلحة أو تغيرت ابتعدوا عن الإسلام وركبه.
وهذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم، فقال: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. فواجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو عداوة بينه وبين المدّعي أو المدّعى عليه.
ومن المعلوم أن القضاء يكون للمسلمين في الحكم بين المعاهد والمسلم، ولا حق لأهل الذمة فيه. أما القضاء بين الذميين فذلك راجع إليهما، فإن تراضيا وجاءا قاضي الإسلام، فإن شاء حكم، وإن شاء أعرض.
الطاعة والامتثال عند المؤمنين
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)

الإعراب:
وَيَتَّقْهِ بكسر القاف على الأصل، وقرئ بسكونها على التخفيف، مثل كتف وكتف.
طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
طاعَةٌ
خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أمرنا طاعة، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي طاعة معروفة أمثل من غيرها.
البلاغة:
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
استعارة، شبّه الأيمان المبالغ فيها والمؤكدة بمن يجهد نفسه في أمر شاقّ لا يستطيعه.
عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ مشاكلة، أي عليه التبليغ، وعليكم إثم التكذيب.
المفردات اللغوية:
إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي دعوا إلى حكم الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي القول اللائق بهم أن يعلنوا الإطاعة بالإجابة الْمُفْلِحُونَ الناجون وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يأمرانه، أو في الفرائض والسنن وَيَخْشَ اللَّهَ أي يخف الله على ما صدر عنه من الذنوب في الماضي. وَيَتَّقْهِ بأن يطيعه فيما بقي من عمره الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم في جنان الله.
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
قدر طاقتهم وأقصى غاية الأيمان لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
بالجهاد أو الخروج عن ديارهم وأموالهم لَيَخْرُجُنَ
جواب أقسموا، على الحكاية أي قائلين: لنخرجن قُلْ: لا تُقْسِمُوا
على الكذب طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
أي المطلوب منكم طاعة معروفة، لا اليمين والطاعة النفاقية المنكرة إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
فلا يخفى عليه سرائركم قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به، على الحكاية، مبالغة في تبكيتهم تَوَلَّوْا أى تتولوا وتعرضوا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي على محمد صلّى الله عليه وسلم ما حمّل من مهمه التبليغ، وعليكم ما حملتم من الامتثال والطاعة ووزر التكذيب وَإِنْ تُطِيعُوهُ في حكمه تَهْتَدُوا إلى الحق الْبَلاغُ الْمُبِينُ التبليغ الموضح لما كلفتم به.

المناسبة:
جريا على عادة الله تعالى في إتباع ذكر المحق المبطل، والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره ما لا ينبغي، فبعد حكاية قول المنافقين وفعلهم وبقائهم على النفاق ونفي الإيمان الحق، ذكر الله تعالى ما هو شأن أهل الإيمان في الطاعة والامتثال، وصفات المؤمن الكامل وما يجب أن يسلكه المؤمنون.
التفسير والبيان:
هذه صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، الممتثلين لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، فقال تعالى:
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي إن شأن المؤمنين الصادقي الإيمان وعادتهم أنهم إذا طلبهم أحد إلى حكم الله ورسوله في خصوماتهم أن يقولوا: سمعا وطاعة، لذا وصفهم تعالى بالفلاح، فأولئك هم الفائزون بنيل المطلوب، والسلامة من المرهوب، والنجاة من المخوف.
والسمع والطاعة هو محور الميثاق الأول مع المسلمين الأوائل، ففي بيعة العقبة الأولى بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا من الأنصار على السمع والطاعة في المعروف، كما
روى عبادة بن الصامت. وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي نجيح العرباض بن سارية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعظ الصحابة فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة..»
وأوصى عبادة بن الصامت ابن أخيه جنادة بن أبي أمية لما حضره الموت فقال ألا أنبئك بماذا عليك وبماذا لك؟ قال: بلى، قال: فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وألا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله، فاتبع كتاب الله.

وقال أبو الدرداء: لا إسلام إلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة.
ثم أبان الله تعالى أن كل طاعة لله ورسوله محققة الفوز، فقال:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أي ومن يطع الله ورسوله فيما أمراه به، وترك ما نهياه عنه، وخاف الله فيما مضى من ذنوبه، واتقاه فيما يستقبل من أيامه، فأولئك هم الذين فازوا بكل خير، وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة.
ثم قارن الله تعالى موقف هؤلاء بموقف أولئك المنافقين، وهم كثيرون في كل زمان، فعاد إلى كشف موقفهم من الطاعة بعد بيان كراهيتهم لحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ
أي كان أهل النفاق يحلفون للرسول صلّى الله عليه وسلم مغلّظين الأيمان، مبالغين فيها إلى غايتها: لئن أمرتهم بالجهاد والخروج مع المجاهدين، ليخرجن كما طلبت، فقالوا: والله لئن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا.
فرد الله تعالى عليهم مبينا أكاذيبهم بقوله:
قُلْ: لا تُقْسِمُوا، طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
قل يا محمد لهم: لا تحلفوا، فإن المطلوب منكم طاعة معروفة، صدق باللسان، وتصديق بالقلب والأفعال.
وقيل: معناه طاعتكم طاعة معروفة لنا، فهي مجرد طاعة باللسان فحسب من غير تصديق قلبي، وقول لا فعل معه، وكلما حلفتم كذبتم، كما قال تعالى:
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التوبة ٩/ ٩٦] وقال سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [المجادلة ٥٨/ ١٦].

وهذا نهي عن القسم القبيح الكاذب إذ لو كان قسمهم كما يجب لم يجز النهي عنه، فتبين أن قسمهم كان لنفاقهم وأن باطنهم خلاف ظاهرهم.
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
أي أن الله مطلع على أعمالكم الظاهرة والباطنة، خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي، يعلم بأيمانكم الكاذبة وبكل ما في ضمائر عباده من الكفر والنفاق وخداع المؤمنين، فيجازيكم على كل عمل سيء.
وهذا تهديد ووعيد.
ثم رغبهم الله ورهبهم فقال:
قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ قل لهم أيها الرسول: اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله، وهذا دليل على أنهم لم يطيعوا ما فيهما.
فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي فإن تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم أو إن تولوا عن طاعة الله وطاعة رسوله، فإن الذي عليه أي الرسول إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، وعليكم بقبول ذلك وبطاعته فيما أمر، وتعظيمه، فما حملتم هو الطاعة.
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اي وإن تطيعوا هذا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه، تهتدوا إلى الحق لأنه يدعو إلى صراط مستقيم، وما على الرسول إلا التبليغ البين والواضح والموضح لما تحتاجون إليه، كقوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد ١٣/ ٤٠] وقوله سبحانه: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢١- ٢٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
قارن الله تعالى في هذه الآيات بين المؤمنين والمنافقين في شأن الطاعة:

طاعة الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلم في الأمر والنهي، فإن المؤمنين الصادقين وهم عند نزول الآيات المهاجرون والأنصار كانوا إذا دعوا إلى كتاب الله تعالى وحكم رسوله صلّى الله عليه وسلم، قالوا: سمعا وطاعة، دون تمهل ولا تردد.
وهم في هذا القول لم يخسروا، وإنما حققوا لأنفسهم الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، فمن يطع أوامر الله تعالى ويلتزم بحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمره، ويخف عذاب الله على ذنوبه الماضية، ويتق الله في مستقبل عمره، فهو من الفائزين بكل خير، البعيدين عن كل شر.
ذكر أسلم أن عمر رضي الله عنه بينما هو قائم في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه، وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت لله، قال:
هل لهذا سبب؟ قال: نعم! إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله، فأسلمت، قال: ما هذه الآية؟ قال: قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في الفرائض وَرَسُولَهُ في السنن وَيَخْشَ اللَّهَ فيما مضى من عمره وَيَتَّقْهِ فيما بقي من عمره فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ والفائز: من نجا من النار، وأدخل الجنة. فقال عمر: قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي: «أوتيت جوامع الكلم».
وأما المنافقون فيقسمون بالله تعالى أغلظ الأيمان، وطاقة ما قدروا أن يحلفوا على أنهم يجاهدون مع النبي صلّى الله عليه وسلم في المستقبل ويطيعونه فيما أمر، ولكن أيمانهم كاذبة، لذا نهاهم الله تعالى عن هذا القسم القبيح الكاذب، وأمرهم بالطاعة المعروفة المعتادة لدى المؤمنين، وهي النابعة من إخلاص القلب، ولا حاجة بعدئذ إلى اليمين، فإن الله خبير بما يعملون من الطاعة بالقول، والمخالفة بالفعل.