
البقاء على الضلال والنفاق بالرغم من البيان الشافي
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
المفردات اللغوية:
وَيَقُولُونَ أي المنافقون. آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ صدقنا بتوحيد الله وبالرسول محمد.
وَأَطَعْنا رضينا فيما حكما به. يَتَوَلَّى يعرض ويمتنع عن قبول حكمه. وَما أُولئِكَ المعرضون. بِالْمُؤْمِنِينَ الصادقي الإيمان التي توافق قلوبهم ألسنتهم.
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي ليحكم بينهم النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنه الحاكم الدنيوي ظاهرا، وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه في الحقيقة حكم الله. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي فاجأ فريق بالإعراض عن المجيء إليك إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ لهم الحكم لا عليهم إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ طائعين منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم، وتقديم إِلَيْهِ للاختصاص. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر أو ميل إلى الظلم.
ارْتابُوا شكوا في نبوتك، فزالت ثقتهم بك. يَحِيفَ يجور ويظلم في الحكم. بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي لا، بل هم الذين يريدون ظلم الناس وإنكار حقوقهم بالإعراض عنك.
سبب النزول:
قال المفسرون: هذه الآيات نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمدا يحيف علينا. وقد سبق بيان قصتهما في سورة النساء.

وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحسن البصري قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو محق، أذعن، وعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يظلم، فدعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أعرض، فقال: انطلق إلى فلان، فأنزل الله: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي لأنه صاحب الحق، فلم يرض المنافق بقضائه صلّى الله عليه وسلم. وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي:
قضى لي النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال:
بلى، فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته، وخرج بسيفه، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم «١».
المناسبة:
بعد بيان أدلة التوحيد، ذمّ الله تعالى قوما وهم المنافقون اعترفوا بالدين بألسنتهم، ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم، فيقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ ثم يفعلون نقيض ذلك.
التفسير والبيان:
هذه صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، فقال تعالى:
وَيَقُولُونَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ

أي ويقول المنافقون أمام الناس: صدقنا بالله ربا وبمحمد صلّى الله عليه وسلم رسولا، وأطعنا الله فيما قضى، والرسول صلّى الله عليه وسلم فيما حكم به، ثم يعرض فريق منهم عن قبول حكمه، فيخالفون أقوالهم بأعمالهم، ويقولون ما لا يفعلون، ويرجعون بعدئذ إلى الباقين منهم، فيظهرون الرجوع عما أعلنوه، والحقيقة أن أولئك المنافقين ليسوا بالفعل من أهل الإيمان، وإنما مردوا على النفاق.
وهذا دليل واضح على أن الإيمان لا يكون بالقول، إذ لو كان به، لما صح أن ينفي عنهم كونهم مؤمنين. ومن مظاهر نفاقهم وذبذبتهم:
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي وإذا طلبوا إلى تحكيم كتاب الله واتباع هداه، وإلى الرسول صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينهم في خصوماتهم، أعرضوا عن قبول حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم، واستكبروا عن اتباع حكمه. وهذا ترك للرضا بحكم الرسول صلّى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً [النساء ٤/ ٦٠- ٦١].
وفي الآية دلالة على أن حكم الرسول صلّى الله عليه وسلم هو حكم الله القائم على الحق والعدل.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أي إذا كان الحكم في صالحهم جاؤوا إليه سامعين مطيعين لعلمهم بأنه لا يحكم إلا بالحق. وهذا دليل واضح على انتهازيتهم وإرادتهم النفع المعجل، فهم يعرضون عن حكم النبي صلّى الله عليه وسلم متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكّوا، فأما إذا عرفوه لأنفسهم أسرعوا إلى قبول الحكم النبوي والرضا به.

ثم حلّل القرآن الكريم نفسيتهم فقال تعالى:
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ «١» أي أن ترددهم وذبذبتهم بين قبول حكم النبي صلّى الله عليه وسلم تارة والإعراض عنه تارة أخرى لأحد الأسباب التالية: وهي إما أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق، والمرض ملازم لهم، وإما أنهم شكوا في الدين وفي نبوته صلّى الله عليه وسلم، وإما أنهم يخافون أن يجور الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم عليهم في الحكم.
وأيا كان هو السبب فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم وبصفاتهم. لذا قال تعالى: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي بل هم الظالمون الفاجرون، يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، لا أنهم يخافون أن يحيف الرسول صلّى الله عليه وسلم عليهم لمعرفتهم بأمانته وعدله في حكمه وصونه عن الجور.
فقه الحياة أو الأحكام:
الإيمان بالمبدأ أو الاعتقاد لا يعرف إلا واجهة واحدة هي واجهة الصراحة في القول، والحزم والجزم بالعقيدة، ومطابقة القول العمل. أما أولئك المنافقون في صدر الإسلام وفي كل عصر الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، فهم كفرة جبناء يطعنون في الإسلام من الخلف، ويريدون في الواقع هدمه، والتنصل من أحكامه وقواعده.
وهذه صورة مخزية لهم عرضها القرآن الكريم، تراهم إذا أحسوا بأن الحق في جانبهم قبلوا بحكم النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه كما أثبت الواقع لا يحكم إلا بالحق. وإن عرفوا
ألستم خير من ركب المطايا | وأندى العالمين بطون راح |