
أقوى، وتُرْفَعَ، قيل معناه تبنى وتعلى، قاله مجاهد وغيره فذلك كنحو قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ [البقرة: ١٢٧] وقال رسول الله ﷺ «من بنى مسجدا من ماله بنى الله له بيتا في الجنة»، وفي هذا المعنى أحاديث، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره معناه تعظم ويرفع شأنها، وذكر اسْمُهُ تعالى، هو بالصلاة والعبادة قولا وفعلا، وقرأ ابن كثير وعاصم «يسبّح» بفتح الباء المشددة، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «يسبّح» بكسر الباء، ف رِجالٌ على القراءة الأولى مرتفع بفعل مضمر يدل عليه يُسَبِّحُ تقديره يسبحه رجال، فهذا عند سيبويه نظير قول الشاعر: «لبيك يزيد ضارع لخصومة» أي يبكيه ضارع، ورِجالٌ على القراءة الثانية مرتفع ب يُسَبِّحُ الظاهر، وروي عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «تسبح» بالتاء من فوق، و «الغدو والآصال» قال الضحاك أراد الصبح والظهر، وقال ابن عباس أراد ركعتي الضحى والعصر وإن ركعتي الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص، وقرأ أبو مجلز «والإيصال»، ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم لرضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا، وقال كثير من الصحابة نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال هؤلاء الذين أراد الله تعالى بقوله: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وروي ذلك عن ابن مسعود، وَإِقامِ، مصدر من أقام يقيم أصله أقوام نقلت حركة الواو إلى القاف فبقيت ساكنة والألف ساكنة فحذفت للالتقاء، فجاء إِقامِ، بعض النحويين هو مصدر بنفسه قد لا يضاف وقيل لا يجوز أقمته إقاما، وإنما يستعمل مضافا، ذكره الرماني وقال بعضهم من حيث رأوه لا يستعمل إلا مضافا ألحقت به هاء عوضا من المحذوف فجاء إقامة، فهم إذا أضافوه حذفوا العوض لاستغنائهم عنه بأن المضاف والمضاف إليه كاسم واحد، والزَّكاةِ هنا عند ابن عباس الطاعة لله، وقال الحسن هي الزكاة المفروضة في المال، و «اليوم المخوف» الذي ذكره تعالى، هو يوم القيامة، واختلف الناس في تقلب الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ كيف هو، فقالت فرقة يرى الناس الحقائق عيانا فتتقلب قلوب الشاكين ومعتقدي الضلال عن معتقداتها إلى اعتقاد الحق على وجهه وكذلك الأبصار وقالت فرقة هو تقلبها على جمر جهنم.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومقصد الآية إنما هو وصف هول يوم القيامة، فأما القول الأول فليس يقتضي هولا وأما الثاني فليس التقلب في جمر جهنم في يوم القيامة وإنما هو بعده.
وإنما معنى الآية عندي أن ذلك اليوم لشدة هوله ومطلعه، القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلبة من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى حذر، ومن نظر في هول إلى النظر في الآخر، والعرب تستعمل هذا المعنى في الحروب ونحوها ومنه قول الشاعر: «بل كان قلبك في جناحي طائر» ومنه قول بشار كان فؤاده كرة تنزى، ومنه قول الآخر: «إذا حلق النجيد وصلصل الحديد» وهذا كثير.
قوله عز وجل:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)

اللام في قوله لِيَجْزِيَهُمُ متعلقة بفعل مضمر تقديره فعلوا ذلك ويسروا لذلك ونحو هذا، ويحتمل أن تكون متعلقة ب يُسَبِّحُ [النور: ٣٦] وقوله أَحْسَنَ ما عَمِلُوا فيه حذف مضاف تقديره ثواب أحسن ثم وعدهم عز وجل بالزيادة من فضله على ما تقتضيه أعمالهم، فأهل الجنة أبدا في مزيد، ثم ذكر أنه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ويخصه بما يشاء من رحمته دون حساب ولا تعديد، وكل تفضل لله فهو بِغَيْرِ حِسابٍ، وكل جزاء على عمل فهو بحساب، ولما ذكر الله تعالى فيما تقدم من هذه الآية حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم عقب ذلك بذكر الكفرة وأعمالهم فمثل لها ولهم تمثيلين: الأول منهما يقتضي حال أعمالهم في الآخرة من أنها غير نافعة ولا مجدية، والثاني يقتضي حالها في الدنيا من أنها في الغاية من الضلال والغمة التي مآلها ما ذكر من تناهي الظلمة في قوله أَوْ كَظُلُماتٍ، و «السراب» ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة وأوهم الناظر إليه على البعد أنه ماء، سمي بذلك لأنه ينسرب كالماء فكذلك أعمال الكافر يظن في دنياه أنه نافعته فإذا كان يوم القيامة لم يجدها شيئا فهي كالسراب الذي يظنه الرائي العطشان ماء فإذا قصده وأتعب نفسه بالوصول إليه لم يجد شيئا، و «القيعة» جمع قاع كجيرة وجار والقاع المنخفض البساط من الأرض ومنه قول النبي ﷺ في مانع زكاة الأنعام «فيبطح لها بقاع قرقر»، وقيل القيعة مفرد، وهو بمعنى القاع، وقرأ مسلم بن محارب «بقيعات»، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف «الظمآن» بفتح الميم وطرح حركة الهمزة على الميم وترك الهمزة، وقوله حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً يريد شَيْئاً نافعا في العطش، أو يريد شَيْئاً موجودا على العموم ويريد ب جاءَهُ جاء موضعه الذي تخيله فيه ويحتمل أن يعود الضمير في جاءَهُ على «السراب»، ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يدل عليه الظاهر تقديره فكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعا حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله أَعْمالُهُمْ ويكون تمام المثل في قوله ماءً ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به، وقوله وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي بالمجازاة، والضمير في عِنْدَهُ عائد على العمل، وباقي الآية بين فيه توعد وسرعة الحساب من حيث هو يعلم لا تكلف فيه وقوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على قوله كَسَرابٍ، وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا، أي إنهم من الضلال ونحوه في مثل هذه الظلمة المجتمعة من هذه الأشياء، وذهب بعض الناس إلى أن في هذا المثال أجزاء تقابل أجزاء من الممثل فقال «الظلمات» الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة، و «البحر اللجي» صدر الكافر وقلبه، و «اللجي» معناه ذو اللجة، وهي معظم الماء وغمره واجتماع ما به أشد لظلمته، و «الموج» هو الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة، و «السحاب» هو شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان وما رين به على قلبه.
صفحة رقم 187