
شيء، وخضع له كل شيء، لتعلموا أن الله حي موجود قادر؟! وفيه دلالة على الزجر والتهديد.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تعريف عام بكثرة نعم الله عز وجل على عباده، فهو الذي وهبهم مفاتيح العلم والمعرفة، وأمدهم بالحواس التي تمكنهم من الاستدلال بها على كمال قدرته، وهو الذي أنشأهم وبثهم وخلقهم في الأرض لمهمة سامية هي الإعمار والتنمية، ثم يجمعون يوم القيامة للجزاء العادل، وهو الذي منحهم حق الحياة التي يعقبها الموت، حتى لا يطغى الإنسان ويستبد، فالموت يكون نعمة وراحة كالحياة نفسها، وهو الذي أوجد بيئة الحياة السلمية بخلق الليل والنهار وجعلهما متعاقبين بنظام دقيق متلائم مع مرور الفصول الأربعة.
وشأن البصير العاقل أن يتعظ ويعتبر ويفهم ويفكر في بدائع الخلق، وعظم القدرة والربوبية والوحدانية، دون أن يكون له شريك من خلقه، وأنه قادر على البعث.
إنكار المشركين البعث وإثباته بالأدلة القاطعة
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨١ الى ٩٠]
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠)

الإعراب:
قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ... جوابه: قراءة من قرأ: سيقولون الله وأما قراءة سَيَقُولُونَ لِلَّهِ فليس بجواب قوله تعالى: قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ.. وإنما هو جوابه من جهة المعنى لأن معنى قوله: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ: لمن السموات؟ فقيل في جوابه: لِلَّهِ.
ونظيره ما بعده وهو قوله تعالى: قُلْ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فقال: لله، حملا على المعنى. وهذا كثير في كلام العرب.
البلاغة:
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني عنه، حذف جواب الشرط لدلالة اللفظ عليه.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَفَلا تَتَّقُونَ استفهام بغرض الإنكار والتوبيخ.
وَهُوَ يُجِيرُ، وَلا يُجارُ عَلَيْهِ طباق السلب.
المفردات اللغوية:
بَلْ قالُوا أي كفار مكة الْأَوَّلُونَ آباؤهم ومن تبعهم قالُوا أي الأولون أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ استبعادا ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا، فخلقوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيبهم التي كتبوها، جمع أسطورة، كأحدوثة وأعجوبة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ خالقها ومالكها، أي إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك. وهذا استهانة بهم، وتقرير لفرط جهالتهم، وإلزام بما لا يمكن إنكاره ممن له شيء من العلم.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي أن العقل الصريح المجرد اضطرهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنه خالقها قُلْ بعد ما قالوه أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون، فتعلموا أن القادر على الخلق ابتداء قادر على الإحياء بعد الموت؟!

قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الكرسي، فإنها أعظم من ذلك أَفَلا تَتَّقُونَ تحذرون عقابه، فلا تشركوا به بعض مخلوقاته، ولا تنكروا قدرته على بعض مقدوراته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ملك كل شيء يُجِيرُ يغيث من يشاء ويحرسه ويمنعه من الغير وَلا يُجارُ عَلَيْهِ لا يغاث أحد ولا يمنع منه، ومعنى الجملتين: يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ يحمي ولا يحمى عليه، يقال: أجرت فلانا على فلان: أي أغثته ومنعته منه سَيَقُولُونَ لِلَّهِ جواب السؤال من جهة المعنى، وهو: من له ما ذكر؟ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ تخدعون، فتصرفون عن الرشد وطاعة الله وتوحيده، مع ظهور الأمر، وتظاهر الأدلة، أي كيف تخيل لكم أنه باطل؟! بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ بالصدق وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في نفيه.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أدلة التوحيد في الكون والأنفس، أعقبها ببيان إنكار المشركين (عبدة الأوثان) البعث والحشر مع وضوح الأدلة، وتقليدهم الأولين في الاستبعاد والتكذيب. ثم رد عليهم بأدلة ثلاثة تثبت البعث من غير شك.
التفسير والبيان:
بالرغم من زجر المشركين وتهديدهم في الآيات السابقة على تعطيل عقولهم التي ترشدهم إلى الإقرار بتوحيد الله وقدرته على البعث، فإنهم رددوا مقالة السابقين البدائيين وهي:
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي مع كل ما سبق، فإن هؤلاء المشركين أنكروا البعث واستبعدوه، وأعادوا مقالة أسلافهم الذين كذبوا رسلهم، تقليدا أعمى لهم دون برهان، وهذا تعيير بقولهم. وتفصيل تلك المقالة من وجهين:
الأول:
قالُوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي هل إذا متنا، وصرنا ترابا وعظاما بالية، نعود إلى البعث والحياة؟ فهم يستبعدون وقوع ذلك

بعد البلى، كما قال تعالى: يَقُولُونَ: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات ٧٩/ ١٠- ١٤] وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا، وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ، وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس ٣٦/ ٧٧- ٧٨].
والثاني:
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ أي إن هذا الوعد بالبعث الذي يخبر به محمد صلّى الله عليه وسلم قد وعد به قديما الأنبياء السابقون، ثم لم يوجد ذلك مع طول العهد، وكأنهم لغباوتهم يظنون أن الإعادة تكون في دار الدنيا.
إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الوعد بالبعث إلا أكاذيب المتقدمين وأباطيلهم وترهاتهم، قد توارثناها دون وعي، ودون دليل مثبت لصحتها، كما يزعمون.
ثم رد الله تعالى عليهم لإثبات البعث ببراهين ثلاثة هي:
١- قُلْ: لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي قل أيها النبي لمنكري الآخرة: من مالك الأرض الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وغير ذلك من المخلوقات إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك؟ وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ استهانة بهم وتأكيد لجهلهم.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي سيعترفون بما دل عليه العقل بداهة بأن ذلك كله لله وحده ملكا وخلقا وتدبيرا، فإذا كان ذلك:
قُلْ: أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي قل لهم أفلا تتعظون وتتدبرون أن من خلق

هذا ابتداء قادر على إعادته، وأنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره؟! وقوله هذا معناه الترغيب في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه.
وهذا البرهان القاطع يصلح للرد على منكري الإعادة وعلى عبدة الأوثان المشركين العابدين مع الله غيره، المعترفين له بالربوبية، ولكنهم أشركوا معه في الألوهية، فعبدوا غيره، مع اعترافهم أن معبوداتهم لا يخلقون شيئا ولا يملكون شيئا، وإنما اعتقدوا أنهم يقربونهم إلى الله زلفى: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر ٣٩/ ٣].
٢- قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي قل لهم أيضا: من خالق السموات وما فيها من الكواكب والملائكة، ومن خالق العرش العظيم الكبير الذي هو سقف المخلوقات، كما قال: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة ٢/ ٢٥٥] وكما
جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «شأن الله أعظم من ذلك، إن عرشه على سمواته هكذا» وأشار بيده مثل القبة
، وفي الحديث الآخر: «ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة».
فالعرش يجمع بين الصفتين: العظمة والكبر في الاتساع والعلو: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ والحسن والبهاء في الجمال، كما قال في آخر السورة: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي الحسن البهي.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي إنهم سيعترفون فورا بأنه لله وحده، ولا جواب سواه.
قُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟ أي إذا كنتم تعترفون بذلك، أفلا تخافون عقاب الله وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟!

وكما أن العالمين السفلي والعلوي ملك لله تعالى، فله أيضا تدبير شؤونهما، كما قال:
٣- قُلْ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي بيده الملك والتصريف والتدبير، كما قال: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها [هود ١١/ ٥٦] أي متصرف فيها.
وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي وهو السيد الأعظم الذي يغيث من يشاء ويحمي من يشاء، ولا يغيث ولا يحمي أحد منه أحدا، فلا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، إن كنتم من أهل العلم بذلك.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي سيعترفون أن المالك المدبر هو الله لا غيره، فلا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه. وقرئ الله في هذا وما قبله، ولا فرق في المعنى لأن قولك: من ربه، ولمن هو؟ في معنى واحد.
قُلْ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟ أي قل لهم مستغربا وموبخا: فأنى تخدعون عن توحيده وطاعته، والخادع: هو الشيطان والهوى، أو فكيف تتقبل عقولكم عبادتكم مع الله غيره، مع اعترافكم وعلمكم بذلك وتصريحكم بأنه الخالق المالك المدبر؟.
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي بل جئناهم بالقول الحق، والدليل الصدق، والاعلام الثابت بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلة الصحيحة القاطعة على ذلك، وإنهم مع ذلك لكاذبون في إنكار الحق، وفي عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم عليها، كما قال في آخر السورة: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فهؤلاء المشركون لا يفعلون ذلك عن دليل، وإنما اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال.

وفي هذا توعد وتهديد على ادعائهم أن لله ولدا وأن معه شريكا، فنسبة الولد إليه محال، والشرك باطل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- ليس للمشركين ومنكري الآخرة دليل عقلي مقبول، وكل ما لديهم من بضاعة هو ترداد أقوال المتقدمين، وتقليد الآباء والأسلاف.
٢- إنهم اعترفوا صراحة بأن الله تعالى هو مالك الأرض (العالم السفلي) ومالك السماء (العالم العلوي) ومدبر كل شيء، وبيده مقاليد كل شيء، وهو المتصرف في كل شيء، والقادر على كل شيء.
ومن كان هذا شأنه، ألا يكون هو المستحق وحده للعبادة، والقادر على الإحياء والبعث والإعادة؟! ويكون ما أتى به القرآن من الأدلة المثبتة للوحدانية والقدرة والبعث هو الحق الثابت الذي لا مرية ولا شك فيه، وهو القول الصدق، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك، ونفي البعث.
٣- دلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار، وإقامة الحجة عليهم، ونبّهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع، والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة.
٤- إن تذييل الآيات بقوله تعالى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَفَلا تَتَّقُونَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ يعد حملة شديدة على المشركين للإقلاع عما هم عليه من الشرك، فقوله تعالى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ معناه