سورة المؤمنون
مكية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي البحر هي مكية بلا خلاف، واستثنى منها كما يقال في الإتقان قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ [المؤمنون: ٦٤] إلى قوله سبحانه: مُبْلِسُونَ [المؤمنون: ٧٧] واستشكل الحكم على ما عداه بكونه مكيا لما فيه من ذكر الزكاة وهي إنما فرضت بالمدينة، وأجيب بأنه بعد تسليم أن ما ذكر فيه يدل على فرضيتها يقال: إن الزكاة كانت واجبة بمكة والمفروض بالمدينة ذات النصب وستسمع تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى وهي كما في كتاب العدد للداني ومجمع البيان للطبرسي مائة وثمان عشرة آية في الكوفي ومائة وسبع عشرة آية في الباقي، وقد مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم العشر الأول منها
فقد أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه والضياء في المختارة وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وارضنا ثم قال: «لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: ١]
حتى ختم العشر، ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا [المؤمنون: ١. ٢٢] لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: ٧٧] فناسب أن يحقق ذلك فقال عز قائلا:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ والفلاح الفوز بالمرام، وقيل: البقاء في الخير والإفلاح الدخول في ذلك كالإبشار الذي هو الدخول بالبشارة، وقد يجيء متعديا وعليه قراءة طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد «أفلح» بالبناء للمفعول، وقَدْ لثبوت أمر متوقع وتحققه، والظاهر أنه هنا الفلاح لأن قد دخلت على فعله وهو متوقع الثبوت من حال المؤمنين، وجعله الزمخشري الأخبار بثباته وذلك لأن الفلاح مستقبل أبرز في معرض الماضي مؤكدا بقد دلالة على تحققه فيفيد تحقق البشارة وثباتها كأنه قيل: قد تحقق أن المؤمنين من أهل الفلاح في الآخرة، وجوز أن يكون جملة قَدْ أَفْلَحَ جواب قسم محذوف وقد ذكر الزجاج في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: ٩] أنه جواب القسم المذكور قبله بتقدير اللام.
وقرأ ورش عن نافع «قد أفلح» بإلقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها لفظا لالتقاء الساكنين كما قال أبو البقاء وهما الهمزة الساكنة بعد نقل حركتها والدال الساكنة بحسب الأصل لأنه لا يعتد بحركتها العارضة.
وقرأ طلحة أيضا «وقد أفلحوا» بضم الهمزة والحاء وإلقاء واو الجمع وهي مخرجة على لغة أكلوني البراغيث، وقول ابن عطية هي قراءة مردودة مردود، وعن عيسى بن عمر قال: سمعت طلحة يقرأ «قد أفلحوا المؤمنون» فقلت له:
أتلحن؟ قال: نعم كما لحن أصحابي، ولعل مراده أن مرجع قراءتي الرواية ومتى صحت في شيء لا يكون لحنا في نفس الأمر وإن كان كذلك ظاهرا، وإثبات الواو في الرسم مروي عن كتاب ابن خالويه.
وفي اللوامح أنها حذفت في الدرج لالتقاء الساكنين وحملت الكتابة على ذلك فهي محذوفة فيها أيضا، ونظير ذلك يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ [الشورى: ٢٤] وقد جاء حذف الواو لفظا وكتابة والاكتفاء بالضمة الدالة عليها كما في قوله:
ولو أن الأطباء كان حولي | وكان مع الأطباء الاساة |
وعن علي كرّم الله تعالى وجهه ترك الالتفات
، وقال الضحاك: وضع اليمين على الشمال.
وعن أبي الدرداء إعظام المقام وإخلاص المقال واليقين التام وجمع الاهتمام، ويتبع ذلك ترك الالتفات وهو من صفحة رقم 206
الشيطان
فقد روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الالتفات في الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد».
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أنه قال في مرضه: أقعدوني أقعدوني فإن عندي وديعة أودعنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يلتفت أحدكم في صلاته فإن كان لا بدّ فاعلا ففي غير ما افترض الله تعالى عليه».
وترك العبث بثيابه أو شيء من جسده، وإنكار منافاته للخشوع مكابرة، وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول لكن بسند ضعيف
عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: «لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه»
، وترك رفع البصر إلى السماء وإن كان المصلي أعمى وقد جاء النهي عنه،
فقد أخرج مسلم وأبو داود وابن ماجة عن جابر بن سمرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم»
وكان قبل نزول الآية غير منهي عنه،
فقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فطأطأ رأسه
، وترك الاختصار وهو وضع اليد على الخاصرة وقد ذكروا أنه مكروه،
وجاء عنه صلّى الله عليه وسلّم «الاختصار في الصلاة أصل النار»
أي إن ذلك فعل اليهود في صلاتهم استراحة وهم أهل النار لا أن فيها راحة كيف وقد قال تعالى: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: ٧٥] ومن أفعالهم أيضا فيها التميل وقد جاء النهي عنه.
أخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن أسماء بنت أبي بكر عن أم رومان والدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: رآني أبو بكر رضي الله تعالى عنه أتميل في صلاتي فزجرني زجرة كدت أنصرف عن صلاتي ثم قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميل تميل اليهود فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة»
وقال في الكشاف: من الخشوع أن يستعمل الآداب وذكر من ذلك توقي كف الثوب والتمطي والتثاؤب والتغميض (١) وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك وتقلب الحصى، وفي البحر نقلا عن التحرير أنه اختلف في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين والصحيح الأول ومحله القلب اهـ، والصحيح عندنا خلافه، نعم الحق أنه شرط القبول لا الإجزاء.
وفي المنهاج وشرحه لابن حجر ويسن الخشوع في كل صلاته بقلبه بأن لا يحضر فيه غير ما هو فيه وإن تعلق بالآخرة وبجوارحه بأن لا يعبث بأحدها، وظاهر أن هذا مراد النووي من الخشوع لأنه سيذكر الأول بقوله: ويسن دخول الصلاة بنشاط وفراغ قلب إلا أن يجعل ذلك سببا له ولذا خصه بحالة الدخول.
وفي الآية المراد كل منهما كما هو ظاهر أيضا، وكان سنة لثناء الله تعالى في كتابه العزيز على فاعليه ولانتفاء ثواب الصلاة بانتفائه كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولأن لنا وجها اختاره جمع أنه شرط للصحة لكن في البعض فيكره الاسترسال مع حديث النفس والعبث كتسوية ردائه أو عمامته لغير ضرورة من تحصيل سنة أو دفع مضرة، وقيل يحرم اهـ، وللإمام في هذا المقام كلام طويل من أراده فليرجع إليه.
وتقديم الظرف قيل لرعاية الفواصل، وقيل ليقرب ذكر الصلاة من ذكر الإيمان فإنهما أخوان وقد جاء إطلاق
الإيمان عليها في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: ١٤٣] وقيل للحصر على معنى الذين هم في جميع صلاتهم دون بعضها خاشعون، وفي تقديم وصفهم بالخشوع في الصلاة على سائر ما يذكر بعد ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع، وجاء أن الخشوع أول ما يرفع من الناس، ففي خبر رواه الحاكم وصححه أن عبادة بن الصامت قال: يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلا خاشعا.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحاكم وصححه عن حذيفة قال: «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وتنتقض عرى الإسلام عروة عروة» الخبر
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ وهو ما لا يعتد به من الأقوال والأفعال، وعن ابن عباس تفسيره بالباطل، وشاع في الكلام الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا، ويقال فيه كما قال أبو عبيدة لغو ولغا نحو عيب وعاب، وأنشد. عن اللغا ورفث التكليم. مُعْرِضُونَ في عامة أوقاتهم لما فيه من الحالة الداعية إلى الإعراض عنه مع ما فيهم من الاشتغال بما يعنيهم، وهذا أبلغ من أن يقال: لا يلهون من وجوه، جعل الجملة اسمية دالة على الثبات والدوام، وتقديم الضمير المفيد لتقوي الحكم بتكريره، والتعبير في المسند بالاسم الدال كما شاع على الثبات، وتقديم الظرف عليه المفيد للحصر، وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على تباعدهم عنه رأسا مباشرة وتسببا وميلا وحضورا فإن أصله أن يكون في عرض أي ناحية غير عرضه وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ الظاهر أن المراد بالزكاة المعنى المصدري- أعني التزكية- لأنه الذي يتعلق به فعلهم، وأما المعنى الثاني وهو القدر الذي يخرجه المزكي فلا يكون نفسه مفعولا لهم فلا بد إذا أريد من تقدير مضاف أي لأداء الزكاة فاعلون أو تضمين فاعِلُونَ معنى مؤدون وبذلك فسره التبريزي إلا أنه تعقب بأنه لا يقال فعلت الزكاة أي أديتها، وإذا أريد المعنى الأول أدى وصفهم بفعل التزكية إلى أداء العين بطريق الكناية التي هي أبلغ، وهذا أحد الوجوه للعدول عن والذين يزكون إلى ما في النظم الكريم.
وجميع ما مر آنفا في بيان أبلغية وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ من والذين لا يلهون جار هنا سوى الوجه الخامس اتفاقا والرابع عند بعض لأن المقدم متعلق تعلق الجار والمجرور بما بعده كيف واللام زائدة لتقوية العمل من وجهين، تقديم المعمول، وكون العامل اسما.
وقال بعض آخر: يمكن جريان مثله حيث قدم المعمول مع ضعف عامله لا للتخصيص بل لكونه مصب الفائدة، ويجوز اعتبار التخصيص الإضافي أيضا بالنسبة إلى الإنفاق فيما لا يليق، ووصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة للدلالة على أنهم لم يألوا جهدا بالعبادة البدنية والمالية، وتوسيط حديث الإعراض بينهما لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة وإلا فأكثر ما تذكر هاتان العبادتان في القرآن معا بلا فاصل.
وعن أبي مسلم أن الزكاة هنا بمعنى العمل الصالح كما في قوله: خَيْراً مِنْهُ زَكاةً [الكهف: ٨١] واختار الراغب أن الزكاة بمعنى الطهارة واللام للتعليل، والمعنى والذين يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله تعالى أو ليزكوا أنفسهم، ونقل نحوه الطيبي عن صاحب الكشف فقال: قال صاحب الكشف: معنى الآية الذين هم لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: ١٤، ١٥] وقَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: ٩] فإن القرآن يفسر بعضه بعضا ولا ينبغي أن يعدل عن تفسير بعضه ببعض ما أمكن، وقال بعض الأجلة: إن اقتران ذلك بالصلاة ينادي على أن المراد وصفهم بأداء الزكاة الذي هو عبادة مالية، وتنظير ما نحن فيه بالآيتين بعيد لأنهما ليستا من هذا القبيل في شيء، وربما يقال: الفصل بينهما يشعر
بما اختاره الراغب ومن حذا حذوه، وأيضا كون السورة مكية والزكاة فرضت بالمدينة يؤيده لئلا يحتاج إلى التأويل بما مر فتدبر.
وأيا ما كان فالآية في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، وقول بعض زنادقة الأعاجم الذين حرموا ذوق العربية: ألا قيل مؤدون بدل فاعِلُونَ من محض الجهل والحماقة التي أعيت من يداويها فإنه لو فرض أن القرآن وحاشا لله سبحانه كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو عليه الصلاة والسلام الذي مخضت له الفصاحة زبدها وأعطته البلاغة مقودها وكان صلّى الله عليه وسلّم بين مصاقع نقاد لم يألوا جهدا في طلب طعن ليستريحوا به من طعن الصعاد، وقد جاء نظير ذلك في كلام أمية بن أبي الصلت قال:
المطعمون الطعام في السنة | الأزمة والفاعلون للزكوات |
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ وصف لهم بالعفة وهو وان استدعاه وصفهم بالإعراض عن اللغو إلا أنه جيء به اعتناء بشأنه، ويجوز أن يقال: إن ما تقدم وإن استدعى وصفهم بأصل العفة لكن جيء بهذا لما فيه من الإيذان بأن قوتهم الشهوية داعية لهم إلى ما لا يخفى وإنهم حافظون لها عن استيفاء مقتضاها وبذلك يتحقق كمال العفة، واللام للتقوية كما مر في نظيره، وعَلى متعلق بحافظون لتضمينه معنى ممسكون على ما اختاره أبو حيان والإمساك يتعدى بعلى كما في قوله تعالى: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: ٣٧] وذهب جمع إلى اعتبار معنى النفي المفهوم من الإمساك ليصح التفريغ فكأنه قيل حافظون فروجهم لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم، وقال بعضهم: لا يلزم ذلك الصحة العموم هنا فيصح التفريغ في الإيجاب، وفي الكشف الوجه أن يقال: ما في الآية من قبيل حفظت على الصبي ماله إذا ضبطه مقصورا عليه لا يتعداه، والأصل حافظون فروجهم على الأزواج لا تتعداهن ثم قيل غير حافظين إلا على الأزواج تأكيدا على تأكيد، وعلى هذا تضمين معنى النفي الذي ذكره الزمخشري من السياق واستدعاء الاستثناء المفرغ ذلك ولم يؤخذ مما في الحفظ من معنى المنع والإمساك لأن حرف الاستعلاء يمنعه انتهى وفيه ما فيه.
ويا ليت شعري كيف عد حرف الاستعلاء مانعا عن ذلك مع أن كون الإمساك مما يتعدى به أمر شائع، وقال الفراء وتبعه ابن مالك وغيره: إن عَلى هنا بمعنى من أي إلا من أزواجهم كما أن من بمعنى على في قوله تعالى:
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ [الأنبياء: ٧٧] أي على القوم، وقيل هي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير حافِظُونَ والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إلا حال كونهم والين وقوامين على أزواجهم من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان ولذا سميت المرأة فراشا أو متعلقة بمحذوف يدل على غَيْرُ مَلُومِينَ كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه، وكلا الوجهين ذكرهما الزمخشري.
واعترض بأنهما متكلفان ظاهرا فيهما العجمة وأورد على الأخير أن إثبات اللوم لهم في أثناء المدح غير مناسب مع أنه لا يختص بهم، وكون ذلك على فرض عصيانهم وهو مثل قوله تعالى: فَمَنِ ابْتَغى إلخ لا يدفعه كما توهم صفحة رقم 209
ولا يجوز أن تتعلق بملومين المذكور بعد لما قال أبو البقاء من أن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وأن المضاف إليه لا يعمل فيما قبله، والمراد مما ملكت أيمانهم السريات، والتخصيص ذلك للإجماع على عدم حل وطء المملوك الذكر، والتعبير عنهن- بما- على القول باختصاصها بغير العقلاء لأنهن يشبهن السلع بيعا وشراء أو لأنهن لأنوثتهن المنبئة عن قلة عقولهن جاريات مجرى العقلاء، وهذا ظاهر فيما إذا كن من الجركس أو الروم أو نحوهم فكيف إذا كن من الزنج والحبش وسائر السودان فلعمري إنهن حينئذ إن لم يكن من نوع البهائم فما نوع البهائم منهن ببعيد، والآية خاصة بالرجال فإن التسري للنساء لا يجوز بالإجماع، وعن قتادة (١) قال تسرت امرأة غلاما فذكرت لعمر رضي الله تعالى عنه فسألها ما حملك على هذا؟ فقالت: كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين فاستشار عمر فيها أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: تأولت كتاب الله تعالى على غير تأويله فقال رضي الله تعالى عنه: لا جرم لا أحلك لحر بعده أبدا كأنه عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها وأمر العبد أن لا يقربها، ولو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فأعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار.
وقال النخعي والشعبي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة: يبقيان على نكاحهما فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تعليل لما يفيده الاستثناء من عدم حفظ فروجهم من المذكورات أي فإنهم غير ملومين على ترك حفظها منهن.
وقيل الفاء في جواب شرط مقدر أي فإن بذلوا فروجهم لأزواجهم أو إمائهم فإنهم غير ملومين على ذلك، والمراد بيان جنس ما يحل وطؤه في الجملة وإلا فقد قالوا: يحرم وطء الحائض والأمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر وهذا مجمع عليه.
وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها أو خالتها خلاف على ما في البحر،
وذكر الآمدي في الأحكام أن عليا كرّم الله تعالى وجهه احتج على جواز الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي المذكور من الحد المتسع وهو أربع من الحرائر وما شاء من الإماء، وانتصاب وَراءَ على أنه مفعول ابْتَغى أي خلاف ذلك وهو الذي ذهب إليه أبو حيان، وقال بعض المحققين:
إن وَراءَ ظرف لا يصلح أن يكون مفعولا به وإنما هو ساد مسد المفعول به، ولذا قال الزمخشري: أي فمن أحدث ابتغاء وراء ذلك فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ الكاملون في العدوان المتناهون فيه كما يشير إليه الإشارة والتعريف وتوسيط الضمير المفيد لجعلهم جنس العادين أو جميعهم، وفي الآية رعاية لفظ (من) ومعناها ويدخل فيما وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم وهذا مما لا خلاف فيه.
واختلف في وطء جارية أبيح له وطؤها فقال الجمهور: هو داخل فيما وراء ذلك أيضا فيحرم وهو قول الحسن وابن سيرين وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عنه أنه سئل عن امرأة أحلت جاريتها لزوجها فقال: لا يحل لك أن تطأ فرجا أي غير فرج زوجتك إلا فرجا إن شئت بعت وإن شئت وهبت وإن شئت أعتقت، وعن ابن عباس أنه غير داخل فلا يحرم، فقد أخرج عبد الرزاق عنه رضي الله تعالى عنه قال: إذا أحلت امرأة الرجل أو ابنته أو أخته له جاريتها فليصبها وهي لها وهو قول طاوس، أخرج عنه عبد الرزاق أيضا أنه قال: هو أحل من الطعام فإن ولدت فولدها للذي أحلت، وهي لسيدها الأول، وأخرج عن عطاء أنه قال: كان يفعل ذلك يحل الرجل وليدته لغلامه وابنه وأخيه وأبيه والمرأة لزوجها وقد بلغني أن الرجل يرسل وليدته لصديقه وإلى هذا ذهبت
الشيعة، والآية ظاهرة في هذه لظهور أن المعارة للجماع ليست بزوجة ولا مملوكة وكذا قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: ٣] فإن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر خصوصا إذا كان المقام مقتضيا لذكر جميع ما لا يجب العدل فيه، وفي عدم وجوب العدل تكون العارية أقدم من الكل إذ لا يجب فيها ألا تحمل منة مالك الفرج فقط وكذا قوله سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. إلى قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء: ٢٥] فإنه لو جازت العارية لما كان خوف العنت والحاجة إلى نكاح الإماء وإلى الصبر على ترك نكاحهن متحققا، ونحوه قوله سبحانه:
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: ٣٣] فإنه لو كانت العارية جائزة لم يؤمر الذين لا يجدون نكاحا بالاستعفاف، ولعل الرواية السابقة عن ابن عباس غير صحيحة، وكذا اختلف في المتعة فذهبت الشيعة أيضا إلى جوازها، ويرد عليهم بما ذكرنا من الآيات الظاهرة في تحريم العارية، وأخرج عبد الرزاق وأبو داود في ناسخه عن القاسم بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: هي محرمة في كتاب الله تعالى وتلا: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الآية وقرر وجه دلالة الآية على ذلك أن المستمتع بها ليست ملك اليمين ولا زوجة فوجب أن لا تحل له أما أنها ليست ملك اليمين فظاهر وأما أنها ليست زوجة له فلأنهما لا يتوارثان بالإجماع ولو كانت زوجة لحصل التوارث لقوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النساء: ١٢] وتعقبه في الكشف بأن لهم أن يقولوا: إنها زوجة يكشف الموت عن بينونتها قبيله كما أنها تبين بانقضاء الأجل قضاء لحق التعليق والتأجيل، وحاصله منع استفسار في الملازمة إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة لم يفد وإن أريد بعد الموت فالملازمة ممنوعة فإن قيل: لا تبين بالموت كالنكاح المؤبد، أجيب بأنه قياس في عين ما افترق النكاحان به وهو فاسد بالإجماع.
وتعقب هذا شيخ الإسلام لخفاء معناه عليه بأنه ليس للترديد معنى محصل ولو قيل: إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة فالملازمة ممنوعة وإن أريد بعد الموت لم يفد لكان له وجه، وقال هو في رد الاستدلال لهم أن يقولوا إنها زوجة له في الجملة وأما إن كل زوجة ترث فهم لا يسلمونه، وقال بعضهم: الحق أن الآية دليل على الشيعة فإن ظاهر كلامهم أنها ليست بزوجة أصلا حيث ينفون عنها لوازم الزوجية بالكلية من العدة والطلاق والإيلاء والظهار وحصول الإحصان وإمكان اللعان والنفقة والكسوة والتوارث ويقولون بجواز جمع ما شاء بالمتعة ولا شك أن نفي اللازم دليل نفي الملزوم. وتعقب بأن هذا حق لو سلم أنهم ينفون اللوازم كلها لكنه لا يسلم، ونفي بعض اللوازم لا يكفي في الرد عليهم إذا قالوا: إن الزوجية قسمان كاملة وغير كاملة إذ بنفي ذلك البعض إنما ينتفي القسم الأول وهو لا يضرهم، وقيل: الذي يقتضيه الإنصاف أن الآية ظاهرة في تحريم المتعة فإن المستمتع بها لا يقال لها زوجة في العرف ولا يقصد منها ما هو السر في مشروعية النكاح من التوالد والتناسل لبقاء النوع بل مجرد قضاء الوطر وتسكين دغدغة المني ونحو ذلك، وزعم أنه يتم الاستدلال بالآية بهذا الطرز على التحريم سواء نفيت اللوازم أم لم تنف كما هو مذهب بعض القائلين بالحل كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.
ولعل الأقرب إلى الإنصاف أن يقال: متى قيل بنفي اللوازم من حصول الإحصان حرمة الزيادة على الأربع ونحو ذلك كانت الآية دليلا على الحرمة لأن المتبادر من الزوجية فيها الزوجية التي يلزمها مثل ذلك وهو كاف في الاستدلال على مثل هذا المطلب الفرعي، ومتى لم يقل بنفي اللوازم ولم يفرق بينها وبين النكاح المؤبد إلا بالتوقيت وعدمه لم تكن الآية دليلا على التحريم، هذا ولي هاهنا بحث لم أر من تعرض له وهو أنه قد ذكر في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرم المتعة يوم خيبر، وفي صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام حرمها يوم الفتح، ووافق ابن الهمام بأنها
حرمت مرتين مرة يوم خيبر ومرة يوم الفتح وذلك يقتضي أنها كانت حلالا قبل هذين اليومين، وقد سمعت آنفا ما يدل على أن هذه الآية مكية بالاتفاق فإذا كانت دالة على التحريم كما سمعت عن القاسم بن محمد وروى مثله ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها لزم أن تكون محرمة بمكة يوم نزلت الآية وهو قبل هذين اليومين فتكون قد حرمت ثلاث مرات ولم أر أحدا صرح بذلك، وإذا التزمناه يبقى شيء آخر وهو عدم تمامية الاستدلال بها وحدها على تحريم المتعة لمن يعلم أنها أحلت بعد نزولها كما لا يخفى، لا يقال: إن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة، الأول أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها سواء نزل بالمدينة أم بمكة عام الفتح أم عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار، الثاني أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة وعلى هذا تثبت الواسطة، فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني، الثالث أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة، وحينئذ يمكن أن تكون هذه الآية مكية بالاصطلاح الثاني وتكون نازلة يوم الفتح يوم حرمت المتعة في المرة الثانية ولا يكون التحريم إلا مرتين ويكون استدلال من استدلوا بها من الصحابة والتابعين وغيرهم على التحريم وإن علموا أن المتعة أحلت بعد الهجرة في بعض الغزوات مما لا غبار عليه، وإذا التزم هذا الاصطلاح في مكية جميع السورة المجمع عليها حسبما سمعت عن البحر ينحل إشكال حمل الزكاة على الزكاة الشرعية مع فرضيته بالمدينة بأن يقال: إن أوائل السورة نزلت بعد فرضية الزكاة في المدينة عام الفتح في مكة لأنا نقول: لا شبهة في أنه يمكن كون الآية مكية بالاصطلاح الثاني وكونها نازلة يوم الفتح وكذلك يمكن كون كل السورة أو أغلبها مكيا بذلك الاصطلاح وكل ما بني على ذلك صحيح بناء عليه إلا أن المتبادر من المكي والمدني المعني المصطلح عليه أولا لأن الاصطلاح الأول أشهر الاصطلاحات الثلاثة كما قال الجلال السيوطي في الإتقان.
فالظاهر من قولهم: إن هذه السورة مكية أنها نزلت قبل الهجرة بل قد صرح الجلال المذكور بأنها إلا ما استثني منها مما سمعته مكية على الاصطلاح الأول دون الثاني ولا يحرم مثله بذلك إلا عن وقوف فما ذكر مجرد تجويز أمر لا يساعد على ثبوته صريح نقل بل النقل الصريح مساعد على خلافه وهو المرجع فيما نحن فيه.
فقد قال القاضي أبو بكر في الانتصار: إنما يرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين، وكونهما قد يعرفان بالقياس على ما ذكره الجعبري وغيره مع عدم جدواه ليس بشيء. نعم إذا جعل استدلال الصحابي أو التابعي المطلع على إباحة المتعة بعد الهجرة بها قولا باستثنائها عن أخواتها من آيات السورة وحكما عليها بنزولها بعد الهجرة دونهن فالأمر واضح، وستطلع أيضا إن شاء الله تعالى على ما يوجب استثناء غير ذلك، وبالجملة متى قيل المدار في أمثال هذه المقامات صريح النقل تعين القول بأن الآية مكية بمعنى أنها نزلت قبل الهجرة، وأشكل الاستدلال بها على تحريم المتعة بعد تحليلها بعد الهجرة لكون دليل التحليل مخصصا لعمومها، ومذهب الأئمة الأربعة جواز تخصيص عموم القرآن بالسنة مطلقا وهو المختار ويحتاج حينئذ إلى دليل غيرها على التحريم، وبعد ثبوت الدليل تكون هي دليلا آخر بمعونته وهذا الدليل الأخبار الصحيحة من تحريم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياها وقد تقدم بعضها،
وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام «كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وقد حرم الله تعالى ذلك إلى يوم القيامة».
وأخرج الحازمي بسنده إلى جابر قال: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما
يلي الشام جاءت نسوة فذكرنا تمتعنا وهن يطفن في رحالنا فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إليهن وقال: من هؤلاء النسوة؟
فقلنا: يا رسول الله نسوة تمتعنا منهن فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى احمرت وجنتاه وتمعر وجهه وقام فينا خطيبا فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم نهى عن المتعة فتوادعنا يومئذ الرجال والنساء ولم نعد ولا نعود أبدا»، وقد روى تحريمها عنه عليه الصلاة والسلام أيضا عليّ كرم الله تعالى وجهه
وجاء ذلك في صحيح مسلم ووقع على ما قيل إجماع الصحابة على أنها حرام وصح عند بعض رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى القول بالحرمة بعد قوله بحلها مطلقا أو وقت الاضطرار إليها، واستدل ابن الهمام على رجوعه بما رواه الترمذي عنه أنه قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى إذا نزلت الآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. قال ابن عباس: فكل فرج سواهما فهو حرام، ولا أدري ما عنى بأول الإسلام فإن عنى ما كان في مكة قبل الهجرة أفاد الخبر أنها كانت تفعل قبل إلى أن نزلت الآية فإن كان نزولها قبل الهجرة فلا إشكال في الاستدلال بها على الحرمة لو لم يكن بعد نزولها إباحة لكنه قد كان ذلك، وإن عنى ما كان بعد الهجرة أوائلها وأنها كانت مباحة إذ ذاك إلى أن نزلت الآية كان ذلك قولا بنزول الآية بعد الهجرة وهو خلاف ما روي عنه من أن السورة مكية المتبادر منه الاصطلاح الأول ولعله يلتزم ذلك ويقال: إن استدلاله بالآية قوله باستثنائها كما مر آنفا أو يقال: إن هذا الخبر لم يصح، ويؤيدها قول العلامة ابن حجر: إن حكاية الرجوع عن ابن عباس لم تصح بل صح كما قال بعضهم عن جمع أنهم وافقوه في الحل لكن خالفوه فقالوا: لا يترتب على ذلك أحكام النكاح، وبهذا نازع الزركشي في حكاية الإجماع فقال: الخلاف محقق وإن ادعى جمع نفيه انتهى. ويفهم منه أن ابن عباس يدخل المستمتع بها في الأزواج وحينئذ لا تقوم الآية دليلا عليه فتدبر.
ونسب القول بجواز المتعة إلى مالك رضي الله تعالى عنه وهو افتراء عليه بل هو كغيره من الأئمة قائل بحرمتها بل قيل إنه زيادة على القول بالحرمة يوجب الحد على المستمتع لم يوجبه غيره من القائلين بالحرمة لمكان الشبهة.
وكذا اختلف في استمناء الرجل بيده ويسمى الخضخضة وجلد عميرة فجمهور الأئمة على تحريمه وهو عندهم داخل فيما وراء ذلك، وكان أحمد بن حنبل يجيزه لأن المني فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة، وقال ابن الهمام: يحرم فإن غلبته الشهوة ففعل إرادة تسكينها به فالرجاء أن لا يعاقب ومن الناس من منع دخوله فيما ذكر ففي البحر: كان قد جرى لي في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتح محمد بن علي ابن مطيع القشيري بن دقيق العيد فاستدل على منع ذلك بهذه الآية فقلت: إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر به في أشعارها وكان ذلك كثيرا فيهم بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات ولم يكونوا ينكرون ذلك وأما جلد عميرة فلم يكن معهودا فيهم ولا ذكره أحد منهم في شعر فيما علمناه فليس بمندرج فيما وراء ذلك انتهى، وأنت تعلم أنه إذا ثبت أن جلد عميرة كناية عن الاستمناء باليد عند العرب كما هو ظاهر عبارة القاموس فالظاهر أن هذا الفعل كان موجودا فيما بينهم وإن لم يكن كثيرا شائعا كالزنا فمتى كان ذلك من أفراد العام لم يتوقف اندراجه تحته على شيوعه كسائر أفراده، وفي الأحكام إذا كان من عادة المخاطبين تناول طعام خاص مثلا فورد خطاب عام بتحريم الطعام نحو حرمت عليكم الطعام فقد اتفق الجمهور من العلماء على إجراء اللفظ على عمومه في تحريم كل طعام على وجه يدخل فيه المعتاد وغيره وأن العادة لا تكون منزلة للعموم على تحريم المعتاد دون غيره خلافا لأبي حنيفة عليه الرحمة وذلك لأن الحجة إنما هي في اللفظ الوارد وهو مستغرق لكل مطعوم بلفظه ولا ارتباط له بالعوائد وهو حاكم على العوائد فلا تكون العوائد حاكمة عليه، نعم لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت بعرف
الاستعمال اسم الطعام بذلك كما خصصت الدابة بذوات القوائم الأربع لكان لفظ الطعام منزلا عليه دون غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب على ما هو المفهوم لهم من لغتهم.
والفرق أن العادة أولا إنما هي مطردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص فلا تكون قاضية على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام، وثانيا هي مطردة في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص فتكون قاضية على الاستعمال الأصلي اهـ، ومنه يعلم أن الاستمناء باليد إن كان قد جرت عادة العرب على إطلاق ما وراء ذلك عليه دخل عند الجمهور وإن لم تجر عادتهم على فعله وإن كان لم تجر عادتهم على إطلاق ذلك عليه وجرت على إطلاقه على ما عداه من الزنا ونحوه لم يدخل ذلك الفعل في العموم عن الجمهور.
ومن الناس من استدل على تحريمه بشيء آخر نحو ما ذكره المشايخ من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ناكح اليد معلون»
وعن سعيد بن جبير: عذب الله تعالى أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم
، وعن عطاء: سمعت قوما يحشرون وأيديهم حبالى وأظن أنهم الذين يستمنون بأيديهم والله تعالى أعلم، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله، ولا يخفى أن كل ما يدخل في العموم تفيد الآية حرمة فعله على أبلغ وجه ونظير ذلك إفادة قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: ٣٢] حرمة فعل الزنا فافهم.
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ قائمون بحفظها وإصلاحها، وأصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه، ثم استعمل في الحفظ مطلقا، والأمانات جمع أمانة وهي في الأصل مصدر لكن أريد بها هنا ما ائتمن عليه إذ الحفظ للعين لا للمعنى وأما جمعها فلا يعين ذلك إذ المصادر قد تجمع كما قدمنا غير بعيد، وكذا العهد مصدر أريد به ما عوهد عليه لذلك، والآية عند أكثر المفسرين عامة في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والأيمان والنذور والعقود ونحوها، وجمعت الأمانة دون العهد قيل لأنها متنوعة متعددة جدا بالنسبة إلى كل مكلف من جهته تعالى ولا يكاد يخلو مكلف من ذلك ولا كذلك العهد.
وجوز بعض المفسرين كونها خاصة فيما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الناس وليس بذاك، ويجوز عندي أن يراد بالأمانات ما ائتمنهم الله تعالى عليه من الأعضاء والقوى، والمراد برعيها حفظها عن التصرف بها على خلاف أمره عز وجل. وأن يراد بالعهد ما عاهدهم الله تعالى عليه مما أمرهم به سبحانه بكتابه وعلى لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد برعيه حفظه عن الإخلال به وذلك بفعله على أكمل وجه فحفظ الأمانات كالتخلية وحفظ العهد كالتحلية، وكأنه جل وعلا بعد أن ذكر حفظهم لفروجهم ذكر حفظهم لما يشملها وغيرها، ويجوز أن تعمم الأمانات بحيث تشمل الأموال ونحوها وجمعها لما فيها لمن التعدد المحسوس المشاهد فتأمل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية «لأمانتهم» بالإفراد وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ المكتوبة عليهم كما أخرج ابن المنذر عن أبي صالح وعبد بن حميد عن عكرمة يُحافِظُونَ بتأديتها في أوقاتها بشروطها وإتمام ركوعها وسجودها وسائر أركانها كما روي عن قتادة.
وأخرج جماعة عن ابن مسعود أنه قيل: إن الله تعالى يكثر ذكر الصلاة في القرآن الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ [المعارج: ٢٣] وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قال ذاك على مواقيتها قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على فعلها وعدم تركها قال: تركها الكفر، وقيل: المحافظة عليها المواظبة على فعلها على أكمل وجه. وجيء بالفعل دون الاسم كما في سائر رؤوس الآية السابقة لما في الصلاة من التجدد والتكرر ولذلك جمعت في قراءة السبعة ما
عدا الأخوين وليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أولا من الخشوع في جنس الصلاة للمغايرة التامة بين ما هنا وما هناك كما لا يخفى.
وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها، وتقديم الخشوع للاهتمام به فإن الصلاة بدونه كلا صلاة بالإجماع وقد قالوا: صلاة بلا خشوع جسد بلا روح، وقيل: تقديمه لعموم ما هنا له أُولئِكَ إشارة إلى المؤمنين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات وإيثارها على الإضمار للإشعار بامتيازهم بها عن غيرهم ونزولهم منزلة المشار إليهم حسا، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد درجتهم في الفضل والشرف أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة هُمُ الْوارِثُونَ أي الأحقاء أن يسموا وراثا دون من عداهم ممن لم يتصف بتلك الصفات من المؤمنين، وقيل: ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمها.
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ صفة كاشفة أو عطف بيان أو بدل، وإيّا ما كان ففيه بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا، والفردوس أعلى الجنان،
أخرج عبد بن حميد والترمذي وقال: حسن صحيح غريب عن أنس رضي الله تعالى عنه أن الربيع بنت نضير أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان ابنها الحارث بن سراقة أصيب يوم بدر أصابه سهم غرب فقالت: أخبرني عن حارثة فإن كان أصاب الجنة احتسبت وصبرت وإن كان لم يصب الجنة اجتهدت في الدعاء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنها جنان في جنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها»
وعلى هذا لا إشكال في الحصر على ما أشرنا إليه أولا فإن غير المتصف بما ذكر من الصفات وإن دخل الجنة لا يرث الفردوس التي هي أفضلها، وبتقدير إرثه إياها فهو ليس حقيقا بأن يسمى وارثا لما أن ذلك إنما يكون في الأغلب بعد كد ونصب، وإرثهم إياها من الكفار حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل منزلا في الجنة ومنزلا في النار.
أخرج سعيد بن منصور وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ»
وقيل الإرث استعارة للاستحقاق وفي ذلك من المبالغة ما فيه لأن الإرث أقوى أسباب الملك، واختير الأول لأنه تفسير رسول الله عليه الصلاة والسلام على ما صححه القرطبي هُمْ فِيها أي في الفردوس وهو على ما ذكره ابن الشحنة مما يؤنث ويذكر.
وذكر بعضهم أن التأنيث باعتبار أنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا، وقد تقدم لك تمام الكلام في الفردوس.
خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا، والجملة إما مستأنفة مقررة لما قبلها وإما حال مقدرة من فاعل يَرِثُونَ أو مفعوله كما قال أبو البقاء إذ فيها ذكر كل منهما، ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون منها.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ لما ذكر سبحانه أولا أحوال السعداء عقبه بذكر مبدئهم ومآل أمرهم في ضمن ما يعمهم وغيرهم وفي ذلك إعظام للمنة عليهم وحث على الاتصاف بالصفات الحميدة وتحمل مؤن التكليفات الشديدة أو لما ذكر إرث الفردوس عقبه بذكر البعث لتوقفه عليه أو لما حث على عبادته سبحانه وامتثال أمره عقبه بما يدل على ألوهيته لتوقف العبادة على ذلك ولعل الأول أولى في وجه مناسبة الآية لما قبلها، ويجوز أن يكون مجموع الأمور المذكورة، واللام واقعة في جواب القسم والواو للاستئناف.
وقال ابن عطية: هي عاطفة جملة كلام على جملة وإن تباينتا في المعاني وفيه نظر، والمراد بالإنسان الجنس، والسلالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته منه فهي ما سلّ من الشيء واستخرج منه فإن فعالة اسم لما يحصل
من الفعل فتارة تكون مقصودة منه كالخلاصة وأخرى غير مقصودة منه كالقلامة والكناسة والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسل.
وذكر الزمخشري أن هذا البناء يدل على القلة، ومن الأولى ابتدائية متعلقة بالخلق، ومن الثانية يحتمل أن تكون كذلك إلا أنها متعلقة بسلالة على أنها بمعنى مسلولة أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لسلالة، ويحتمل أن تكون على هذا تبعيضية وأن تكون بيانية، وجوز أن يكون مِنْ طِينٍ بدلا أو عطف بيان بإعادة الجار، وخلق جنس الإنسان مما ذكر باعتبار خلق أول الأفراد وأصل النوع وهو آدم عليه السلام منه فيكون الكل مخلوقا من ذلك خلقا إجماليا في ضمن خلقه كما مر تحقيقه، وقيل: خلق الجنس من ذلك باعتبار أنه مبدأ بعيد لأفراد الجنس فإنهم من النطف الحاصلة من الغذاء الذي هو سلالة الطين وصفوته، وفيه وصف الجنس بوصف أكثر أفراده لأن خلق آدم عليه السلام لم يكن كذلك أو يقال ترك بيان حاله عليه السلام لأنه معلوم، واقتصر على بيان حال أولاده. وجاء ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس، وقيل المراد بالطين آدم عليه السلام على أنه من مجاز الكون، والمراد بالسلالة النطفة وبالإنسان الجنس ووصفه بما ذكر باعتبار أكثر أفراده أو يقال كما قيل آنفا، ولا يخفى خفاء قرينة المجاز وعدم تبادر النطفة من السلالة، وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وروي ذلك عن جماعة وما ذهبنا إليه أولا أولى، والضمير في قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً عائد على الجنس باعتبار أفراده المغايرة لآدم عليه السلام، وإذا أريد بالإنسان أولا آدم عليه السلام فالضمير على ما في البحر عائد على غير مذكور وهو ابن آدم، وجاز لوضوح الأمر وشهرته وهو كما ترى أو على الإنسان والكلام على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله، وقيل يراد بالإنسان أولا آدم عليه السلام وعند عود الضمير عليه ما تناسل منه على سبيل الاستخدام، ومن البعيد جدا أن يراد بالإنسان أفراد بني آدم والضمير عائد عليه ويقدر مضاف في أول الكلام أي ولقد خلقنا أصل الإنسان إلخ، ومثله أن يراد بالإنسان الجنس أو آدم عليه السلام والضمير عائد على سُلالَةٍ والتذكير بتأويل المسلول أو الماء أي ثم صيرنا السلالة نطفة.
والظاهر أن نُطْفَةً في سائر الوجوه مفعولا ثانيا للجعل على أنه بمعنى التصيير وهو على الوجه الأخير ظاهر، وأما على وجه عود الضمير على الإنسان فلا بد من ارتكاب مجاز الأول بأن يراد بالإنسان ما سيصير إنسانا، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلق المتعدي إلى مفعول واحد ويكون نُطْفَةً منصوبا بنزع الخافض واختاره بعض المحققين أي ثم خلقنا الإنسان من نطفة كائنة فِي قَرارٍ أي مستقر وهو في الأصل من قريقر قرارا بمعنى ثبت ثبوتا وأطلق على ذلك مبالغة، والمراد به الرحم ووصفه بقوله تعالى: مَكِينٍ أي متمكن مع أن التمكن وصف ذي المكان وهو النطفة هنا على سبيل المجاز كما يقال طريق سائر، وجوز أن يقال: إن الرحم نفسها متمكنة ومعنى تمكنها أنها لا تنفصل لثقل حملها أولا تمج ما فيها فهو كناية عن جعل النطفة محرزة مصونة وهو وجه وجيه ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي دما جامدا وذلك بإفاضة أعراض الدم عليها فتصيرها دما بحسب الوصف، وهذا من باب الحركة في الكيف فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي قطعة لحم بقدر ما يمضغ لا استبانة ولا تمايز فيها، وهذا التصيير على ما قيل بحسب الذات كتصيير الماء حجرا وبالعكس، وحقيقته إزالة الصورة الأولى عن المادة وإفاضة صورة أخرى عليها وهو من باب الكون والفساد ولا يخلو ذلك من الحركة في الكيفية الاستعدادية فإن استعداد الماء مثلا للصورة الأولى الفاسدة يأخذ في الانتقاص واستعداده للصورة الثانية الكائنة يأخذ في الاشتداد ولا يزال الأول ينقص والثاني يشتد إلى أن تنتهي المادة إلى حيث تزول عنها الصورة الأولى فتحدث فيها الثانية دفعة فتتوارد هذه الاستعدادات التي هي من مقولة الكيف على موضوع واحد فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ غالبها ومعظمها أو كلها عِظاماً
صغارا وعظاما حسبما تقتضيه الحكمة وذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظاما من المضغة وهذا أيضا تصيير بحسب الوصف فيكون من الباب الأول.
وفي كلام العلامة البيضاوي إشارة ما إلى مجموع ما ذكرنا وهو يستلزم القول بأن النطفة والعلقة متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بالأعراض كالحمرة والبياض مثلا وكذا المضغة والعظام متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بنحو الرخاوة والصلابة وأن العلقة والمضغة مختلفان في الحقيقة كما أنهما مختلفان بالأعراض.
والظاهر أنه تتعاقب في جميع هذه الأطوار على مادة واحدة صور حسب تعاقب الاستعدادات إلى أن تنتهي إلى الصورة الإنسانية، ونحن نقول به إلى أن يقوم الدليل على خلافه فتدبر فَكَسَوْنَا الْعِظامَ المعهودة لَحْماً أي جعلنا ساترا لكل منها كاللباس، وذلك اللحم يحتمل أن يكون من لحم المضغة بأن لم تجعل كلها عظاما بل بعضها ويبقى البعض فيمد على العظام حتى يسترها، ويحتمل أن يكون لحما آخر خلقه الله تعالى على العظام من دم في الرحم.
وجمع الْعِظامَ دون غيرها مما في الأطوار لأنها متغايرة هيئة وصلابة بخلاف غيرها ألا ترى عظم الساق وعظم الأصابع وأطراف الأضلاع، وعدة العظام مطلقا على ما قيل مائتان وثمانية وأربعون عظما وهي عدة رحم بالجمل الكبير، وجعل بعضهم هذه عدة أجزاء الإنسان والله تعالى أعلم.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفضل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بإفراد الْعِظامَ في الموضعين اكتفاء باسم الجنس الصادق على القليل والكثير مع عدم اللبس كما في قوله: «كلوا في بعض بطنكم تعفوا». واختصاص مثل ذلك بالضرورة على ما نقل عن سيبويه لا يخلو عن نظر، وفي الإفراد هنا مشاكلة لما ذكر قبل في الأطوار كما ذكره ابن جني.
وقرأ السلمي وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني.
وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضا بجمع الأول وإفراد الثاني ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعل حيوانا ناطقا سميعا بصيرا وأودع كل عضو منه وكل جزء عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح، ومن هنا قيل:
وتزعم أنك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر
وقيل الخلق الآخر الروح والمراد بها النفس الناطقة. والمعنى أنشأنا له أو فيه خلقا آخر، والمتبادر من إنشاء الروح خلقها وظاهر العطف بثم يقتضي حدوث البدن وهو قول أكثر الإسلاميين وإليه ذهب أرسطو، وقيل إنشاؤها نفخها في البدن وهو عند بعض عبارة عن جعلها متعلقة به، وعند أكثر المسلمين جعلها سارية فيه، وإذا أريد بالروح الروح الحيوانية فلا كلام في حدوثها بعد البدن وسريانها فيه، وقيل: الخلق الآخر القوى الحساسة، وقال الضحاك ويكاد يضحك منه فيما أخرجه عنه عبد بن حميد: الخلق الآخر الأسنان والشعر فقيل له: أليس يولد وعلى رأسه الشعر؟ فقال: فأين العانة والإبط، وما أشرنا إليه من كون ثُمَّ للترتيب الزماني هو ما يقتضيه أكثر استعمالاتها، ويجوز أن تكون للترتيب الرتبي فإن الخلق الثاني أعظم من الأول ورتبته أعلى وجاءت المعطوفات الأول بعضها بثم وبعضها بالفاء ولم يجىء جميعها بثم أو بالفاء مع صحة ذلك في مثلها للإشارة إلى تفاوت الاستحالات فالمعطوف بثم مستبعد حصوله مما قبله فجعل الاستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخي والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدا وكذا جعل النطفة البيضاء السيالة دما أحمر جامدا بخلاف جعل الدم لحما مشابها له في اللون والصورة
وكذا تصليب المضغة حتى تصير عظما وكذا مد لحمها عليه ليستره كذا قيل ولا يخلو عن قيل وقال.
واستدل الإمام أبو حنيفة بقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ إلخ على أن من غصب بيضة فأفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر، قال في الكشف: وفي هذا الاستدلال نظر على أصل مخالفيه لأن مباينته للأول لا تخرجه عن ملكه عندهم، وقال صاحب التقريب: إن تضمينه للفرخ لكونه جزءا من المغضوب لا لكونه عينه أو مسمى باسمه، وفي هذا بحث وفي المسألة خلاف كثير وكلام طويل يطلب من كتب الفروع المبسوطة.
وقال الإمام: قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام: إن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه تعالى بين فيها أن الإنسان مركب من هذه الأشياء، وعلى بطلان قول الفلاسفة: إن الإنسان لا ينقسم وإنه ليس بجسم وكأنهم أرادوا أن الإنسان هو النفس الناطقة والروح الأمرية المجردة فإنها التي ليست بجسم عندهم ولا تقبل الانقسام بوجه وليست داخل البدن ولا خارجه فَتَبارَكَ اللَّهُ فتعالى وتقدس شأنه سبحانه في علمه الشامل وقدرته الباهرة، و (تبارك) فعل ماض لا يتصرف والأكثر إسناده إلى غير مؤنث، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة والإشعار بأن ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية وللإيذان بأن حق كل من سمع ما فصل من آثار قدرته عز وجل أو لاحظه أن يسارع إلى التكلم به إجلالا وإعظاما لشؤونه جل وعلا أَحْسَنُ الْخالِقِينَ نعت للاسم الجليل، وإضافة أفعل التفضيل محضة فتفيده تعريفا إذا أضيف إلى معرفة على الأصح.
وقال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون نعتا لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض عن- من- وهكذا جميع باب أفعل منك وجعله بدلا وهو يقل في المشتقات أو خبر مبتدأ مقدر أي هو أحسن الخالقين والأصل عدم التقدير، وتميز أفعل محذوف لدلالة الخالقين عليه أي أحسن الخالقين خلقا فالحسن للخلق قيل: نظيره
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال»
أي جميل فعله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا فاستتر، والخلق بمعنى التقدير وهو وصف يطلق على غيره تعالى كما في قوله تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [المائدة: ١١٠] وقول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
وفي معنى ذلك تفسيره بالصنع كما فعل ابن عطية، ولا يصح تفسيره بالإيجاد عندنا إذ لا خالق بذلك المعنى غيره تعالى إلا أن يكون على الفرض والتقدير. والمعتزلة يفسرونه بذلك لقولهم بأن العبد خالق لأفعاله وموجد لها استقلالا فالخالق الموجد متعدد عندهم، وقد تكفلت الكتب الكلامية بردهم.
ومعنى حسن خلقه تعالى إتقانه وإحكامه، ويجوز أن يراد بالحسن مقابل القبح وكل شيء منه عز شأنه حسن لا يتصف بالقبح أصلا من حيث إنه منه فلا دليل فيه للمعتزلة بأنه تعالى لا يخلق الكفر والمعاصي كما لا يخفى.
روي أن عبد الله بن سعيد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأملى عليه صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ حتى إذا بلغ عليه الصلاة والسلام ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ نطق عبد الله بقوله تعالى: فَتَبارَكَ اللَّهُ إلخ قبل إملائه فقال له عليه الصلاة والسلام: هكذا نزلت فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ فارتد
ولحق بمكة كافرا ثم أسلم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام وحسن إسلامه، وقيل: مات كافرا، وطعن بعضهم في صحة هذه الرواية بأن السورة مكية وارتداده بالمدينة كما تقتضيه الرواية، وأجيب بأنه يمكن الجمع بأن تكون الآية نازلة بمكة واستكتبها صلّى الله عليه وسلّم إياه بالمدينة فكان ما كان أو يلتزم كون الآية مدنية لهذا الخبر، وقوله: إن السورة مكية باعتبار الأكثر وعلى هذا يكون اقتصار الجلال السيوطي على استثناء قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ إلى
قوله سبحانه: مُبْلِسُونَ قصورا فتذكر. وتروى هذه الموافقة عن معاذ بن جبل.
أخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: أملى عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله: خَلْقاً آخَرَ فقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: «بها ختمت» ورويت أيضا عن عمر رضي الله عنه
، أخرج الطبراني، وأبو نعيم في فضائل الصحابة وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى آخر الآية قال عمر رضي الله تعالى عنه: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فنزلت كما قال. وأخرج ابن عساكر، وجماعة عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يفتخر بذلك ويذكر أنها إحدى موافقاته الأربع لربه عز وجل، ثم إن ذلك من حسن نظم القرآن الكريم حيث تدل صدور كثير من آياته على إعجازها، وقد مدحت بعض الأشعار بذلك فقيل:
قصائد إن تكن تتلى على ملإ | صدورها علمت منها قوافيها |
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عند النفخة الثانية تُبْعَثُونَ من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب، ولم يؤكد سبحانه أمر البعث تأكيده لأمر الموت مع كثرة المترددين فيه والمنكرين له اكتفاء بتقديم ما يغني عن كثرة التأكيد ويشيد أركان الدعوى أتم تشييد من خلقه تعالى الإنسان من سلالة من طين ثم نقله من طور إلى طور حتى أنشأه خلقا آخر يستغرق العجائب ويستجمع الغرائب فإن في ذلك أدل دليل على حكمته وعظيم قدرته عز وجل على بعثه وإعادته وأنه جل وعلا لا يهمل أمره ويتركه بعد موته نسيا منسيا مستقرا في رحم العدم كأن لم يكن شيئا، ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأتقنه بالغ سبحانه عز وجل في تأكيد الجملة الدالة على موته مع أنه غير منكر لما أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه أشد استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه من لم يشاهده وسمع أن الله جل جلاله أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الإتقان، وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في الجملة الدالة على الموت وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث لم أر أني سبقت إليه، وقيل في ذلك: إنه تعالى شأنه لما ذكر في الآيات السابقة من التكليفات ما ذكر نبه على أنه سبحانه أبدع خلق الإنسان وقلبه في الأطوار حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله وبه يصح تكليفه بنحو تلك التكليفات وهو كونه حيا عاقلا سميعا بصيرا وكان ذلك مستدعيا لذكر طور يقع فيه الجزاء على ما كلفه تعالى به وهو أن يبعث يوم القيامة فنبه سبحانه عليه بقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ فالمقصود الأهم بعد بيان خلقه وتأهله للتكليف بيان بعثه لكن وسط حديث الموت لأنه برزخ بين طوره الذي تأهل به للأعمال التي تستدعي الجزاء وبين بعثه فلا بد من قطعه للوصول إلى ذلك فكأنه قيل: أيها المخلوق العجيب الشأن إن ماهيتك وحقيقتك تفنى وتعدم ثم إنها صفحة رقم 219
بعينها من الأجزاء المتفرقة والعظام البالية والجلود المتمزقة المتلاشية في أقطار الشرق والغرب تبعث وتنشر ليوم الجزاء لإثابة من أحسن فيما كلفناه به وعقاب من أساء فيه، فالقرينة الثانية وهي الجملة الدالة على البعث لم تفتقر إلى التوكيد افتقار الأولى وهي الجملة الدالة على الموت لأنها كالمقدمة لها وتوكيدها راجع إليها، ومنه يعلم سر نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب انتهى، وفيه من البعد ما فيه.
وقيل: إنما بولغ في القرينة الأولى لتمادي المخاطبين في الغفلة فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك وأخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها، قال الطيبي: هذا كلام حسن لو ساعد عليه النظم الفائق، وربما يقال: إن شدة كراهة الموت طبعا التي لا يكاد يسلم منها أحد نزلت منزلة شدة الإنكار فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه، وأما البعث فمن حيث إنه حياة بعد الموت لا تكرهه النفوس ومن حيث إنه مظنة للشدائد تكرهه فلما لم يكن حاله كحال الموت ولا كحال الحياة بل بين بين أكدت الجملة الدالة عليه تأكيدا واحدا، وهذا وجه للتأكيد لم يذكره أحد من علماء المعاني ولا يضر فيه ذلك إذا كان وجيها في نفسه، وتكرير حرف التراخي للإيذان بتفاوت المراتب، وقد تضمنت الآية ذكر تسعة أطوار ووقع الموت فيها الطور الثامن ووافق ذلك أن من يولد لثمانية أشهر من حمله قلما يعيش، ولم يذكر سبحانه طور الحياة في القبر لأنه من جنس الإعادة وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ إن لخلق ما يحتاج إليه بقاؤهم إثر بيان خلقهم، وقيل: استدلال على البعث أي خلقنا في جهة العلو من غير اعتبار فوقيتها لهم لأن تلك النسبة إنما تعرض بعد خلقهم سَبْعَ طَرائِقَ هي السماوات السبع، وطَرائِقَ جمع طريقة بمعنى مطروقة من طرق النعل والخوافي إذ وضع طاقاتها بعضها فوق بعض قاله الخليل والفراء والزجاج، فهذا كقوله تعالى: طِباقاً [الملك: ٣، نوح: ١٥] ولكل من السبع نسبة وتعلق بالمطارقة فلا تغليب، وقيل: جمع طريقة بمعناها المعروف وسميت السماوات بذلك لأنها طرائق الملائكة عليهم السلام في هبوطهم وعروجهم لمصالح العباد أو لأنها طرائق الكواكب في مسيرها.
وقال ابن عطية: يجوز أن يكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الحديد مثلا إذا بسطته وهذا لا ينافي القول بكريتها، وقيل: سميت طرائق لأن كل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى، وأنت تعلم أن الظاهر أن الهيئة واحدة، نعم أودع الله تعالى في كل سماء ما لم يودعه سبحانه في الأخرى فيجوز أن تكون تسميتها طرائق لذلك وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ أي عن جميع المخلوقات التي من جملتها السماوات السبع غافِلِينَ مهملين أمره بل نفيض على كل ما تقتضيه الحكمة، ويجوز أن يراد بالخلق الناس، والمعنى أن خلقنا السماوات لأجل منافعهم ولسنا غافلين عن مصالحهم، وأل على الوجهين للاستغراق وجوز أن تكون للعهد على أن المراد بالخلق المخلوق المذكور وهو السماوات السبع أي وما كنا عنها غافلين بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها، والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأنها، وإفراد الخلق على سائر الأوجه لأنه مصدر في الأصل أو لأن المتعدد عنده تعالى في حكم شيء واحد.
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر عند كثير من المفسرين، والمراد بالسماء جهة العلو أو السحاب أو معناها المعروف ولا يعجز الله تعالى شيء، وكان الظاهر على هذا- منها- بدل السَّماءِ ليعود الضمير على الطرائق إلا أنه عدل عنه إلى الإضمار لأن الإنزال منها لا يعتبر فيه كونها طرائق بل مجرد كونها جهة العلو، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله تعالى: بِقَدَرٍ صفة ماءً أي أنزلنا ماء متلبسا بمقدار ما يكفيهم في حاجهم ومصالحهم أو بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم، وجوز على هذا أن
يكون في موضع الحال من الضمير، وقيل: هو صفة لمصدر محذوف أي إنزالا متلبسا بذلك، وقيل: في الجار والمجرور غير ذلك فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه ثابتا قارا فيها ومن ذلك ماء العيون ونحوها، ومعظم الفلاسفة يزعمون أن ذلك الماء من انقلاب البخار المحتبس في الأرض ماء إذا مال إلى جهة منها وبرد وليس لماء المطر دخل فيه، وكونه من السماء باعتبار أن لأشعة الكواكب التي فيها مدخلا فيه من حيث الفاعلية.
وقال ابن سينا في نجاته: هذه الأبخرة المحتبسة في الأرض إذا انبعث عيونا أمدت البحار بصب الأنهار إليها ثم ارتفع من البحار والبطائح وبطون الجبال خاصة أبخرة أخرى ثم قطرت ثانيا إليها فقامت بدل ما يتحلل منها على الدور دائما. وما في الآية يؤيد ما ذهب إليه أبو البركات البغدادي منهم فقد قال في المعتبر: إن السبب في العيون والقنوات وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وإن استحالة الأهوية والأبخرة المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء فلو كان ذلك سبب استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة انتهى، واختار القاضي حسين المبيدي أن لكل من الأمرين مدخلا، واعترض على دليل أبي البركات بأنه لا يدل إلا على نفي كون تلك الاستحالة سببا تاما وأما على أنها لا مدخل لها أصلا فلا.
والحق ما يشهد له كتاب الله تعالى فهو سبحانه أعلم بخلقه، وكل ما يذكره الفلاسفة في أمثال هذه المقامات لا دليل لهم عليه يفيد اليقين كما أشار إليه شارح حكمة العين، وقيل: المراد بهذا الماء ماء أنهار خمسة،
فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنزل الله تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض»
وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر من ركن البيت ومقام إبراهيم عليه السلام وتابوت موسى عليه السلام بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قول الله تعالى: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة. ولا يخفى على المتتبع أن هذا الخبر أخرجه ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف، نعم حديث أربعة أنهار من الجنة سيحان وجيحان وهما غير سيحون وجيحون لأنهما نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس وسيحون وجيحون نهرا الهند وبلخ كما سمعت على ما قاله ابن عبد البر والفرات والنيل صحيح لكن الكلام في تفسير الآية بذلك. وعن مجاهد أنه حمل الماء على ما يعم ماء المطر وماء البحر وقال ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء، وأنت تعلم أن الأوفق بالأخبار وبما يذكر بعد في الآية الكريمة كون المراد به ما عدا ماء البحر.
إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته بإخراجه عن المائية أو بتغويره بحيث يتعذر استخراجه أو بنحو ذلك لَقادِرُونَ كما كنا قادرين على إنزاله، فالجملة في موضع الحال وفي تنكير ذَهابٍ إيماء إلى كثرة طرقه لعموم النكرة وإن كانت في الإثبات وبواسطة ذلك تفهم المبالغة في الإثبات، وهذه الآية أكثر مبالغة من قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الملك: ٣٠].
وذكر صاحب التقريب ثمانية عشر وجها للأبلغية، الأول أن ذلك على الفروض والتقدير، وهذا الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع، الثاني التوكيد بأن الثالث اللام في الخبر الرابع أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم الخامس أن الغائر قد يكون باقيا بخلاف الذاهب السادس ما في
تنكير ذَهابٍ من المبالغة السابع اسناده هاهنا إلى مذهب بخلافه تمت حيث قيل غَوْراً. الثامن ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة التاسع ما في «قادرون» من الدلالة على القدرة عليه والفعل الواقع من القادر أبلغ. العاشر ما في جمعه. الحادي عشر ما في لفظ بِهِ من الدلالة على أن ما يمسكه فلا مرسل له، الثاني عشر إخلاؤه من التعقيب بأطماع وهنالك ذكر الإتيان المطمع. الثالث عشر تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلق له أو متعلقة على المذهبين البصري والكوفي. الرابع عشر ما بين الجملتين الاسمية والفعلية من التفاوت ثباتا وغيره.
الخامس عشر ما في لفظ «أصبح» من الدلالة على الانتقال والصيرورة. السادس عشر أن الإذهاب هاهنا مصرح به.
وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام. السابع عشر أن هنالك نفي ماء خاص أعني المعين بخلافه هاهنا. الثامن عشر اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكدا. ثم قال: هذا ما يحضرنا الآن والله تعالى أعلم اهـ. وفي النفس من عد الأخير وجها شيء.
وقد يزاد على ذلك فيقال: التاسع عشر إخباره تعالى نفسه به من دون أمر للغير هاهنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك. العشرون عدم تخصيص مخاطب هاهنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك. الحادي والعشرون التشبيه المستفاد من جعل الجملة حالا كما أشرنا إليه فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمت. الثاني والعشرون إسناد القدرة إليه تعالى مرتين، وقد زاد بعض أجلة أهل العصر المعاصرين سلاف التحقيق من كرم أذهانهم الكريمة أكرم عصر أعني به ثالث الرافعي والنواوي أخي الملا محمد أفندي الزهاوي فقال: الثالث والعشرون تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ذهب به يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك. الرابع والعشرون أنه ليس الوقت للذهاب معينا هنا بخلافه في إِنْ أَصْبَحَ فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي أصبح ناقصا. الخامس والعشرون أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل. السادس والعشرون أن الإيعاد هنا بما لم يبتلوا به قط بخلافه بما هنالك. السابع والعشرون إن الموعد به هنا إن وقع فهم هالكون البتة. الثامن والعشرون أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفا في تأميل امتناع الموعد به وهناك حيث أسند الإصباح غورا إلى الماء ومعلوم أن الماء لا يصبح غورا بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم أيضا احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنعة المقدم فيأمنوا وقوعه. التاسع والعشرون أن الموعد به هنا يحتمل في بادي النظر وقوعه حالا بخلافه هناك فإن المستقبل متعين لوقوعه لمكان إِنْ وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون. الثلاثون أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى، ويؤيده ما سن بعده من قول الله ربنا ورب العالمين انتهى فتأمل ولا تغفل والله تعالى الهادي لأسرار كتابه.
واختيرت المبالغة هاهنا على ما قاله بعض المحققين لأن المقام يقتضيها إذ هو لتعداد آيات الآفاق والأنفس على وجه يتضمن الدلالة على القدرة والرحمة مع كمال عظمة المتصف بهما ولذا ابتدئ بضمير العظمة مع التأكيد بخلاف ما تمت فإنه تتميم للحث على العبادة والترغيب فيها وهو كاف في ذلك فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بذلك الماء وهو ظاهر فيما عليه السلف، وقال الخلف: المراد أنشأنا عنده جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ قدمهما لكثرتهما وكثرة الانتفاع بهما لا سيما في الحجاز والطائف والمدينة لَكُمْ فِيها أي في الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكهون بها وتتنعمون زيادة على المعتاد من الغذاء الأصلي، والمراد بها ما عدا ثمرات النخيل والأعناب.
وَمِنْها أي من الجنات والمراد من زروعها وثمارها، ومن ابتدائية وقيل إنها تبعيضية ومضمونها مفعول تَأْكُلُونَ والمراد بالأكل معناه الحقيقي.
وجوز أن يكون مجازا أو كناية عن العيش مطلقا أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته، وجوز أن يعود الضميران للنخيل والأعناب أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والدبس من كل منهما وغير ذلك وطعام تأكلونه فثمرتها جامعة للتفكه والغذاء بخلاف ثمرة ما عداهما وعلى هذا تكون الفاكهة مطلقة على ثمرتهما.
وذكر الراغب في الفاكهة قولين: الأول أنها الثمار كلها، والثاني أنها ما عدا العنب والرمان، وصاحب القاموس اختار الأول وقال: قول مخرج التمر والرمان منها مستدلا بقوله تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: ٦٨] باطل مردود، وقد بينت ذلك مبسوسا في اللامع المعلم العجاب اهـ وأنت تعلم أن للفقهاء خلافا في الفاكهة فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنها التفاح والبطيخ والمشمش والكمثرى ونحوها لا العنب والرمان والرطب، وقال صاحباه:
المستثنيات أيضا فاكهة وعليه الفتوى، ولا خلاف كما في القهستاني نقلا عن الكرماني في أن اليابس منها كالزبيب والتمر وحب الرمان ليس بفاكهة.
وفي الدر المختار أن الخلاف بين الإمام وصاحبيه خلاف عصر فالعبرة فيمن حلف لا يأكل الفاكهة العرف فيحنث بأكل ما يعد فاكهة عرفا ذكر ذلك الشمني وأقره الغزي، ولا يخفى أن شيئا واحدا يقال له فاكهة في عرف قوم ولا يقال له ذلك في عرف آخرين، ففي النهر عن المحيط ما روي من أن الجوز واللوز فاكهة فهو في عرفهم أما في عرفنا فإنه لا يؤكل للتفكه اهـ، ثم إني لم أر أحدا من اللغويين ولا من الفقهاء عد الدبس فاكهة فتدبر ولا تغفل.
وَشَجَرَةً بالنصب عطف على جَنَّاتٍ، وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، والأولى تقديره مقدما أي أنشأنا لكم شجرة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهو جبل موسى عليه السلام الذي ناجى ربه سبحانه عنده وهو بين مصر وأيلة، ويقال لها اليوم العقبة، وقيل بفلسطين من أرض الشام، ويقال له طور سينين، وجمهور العرب على فتح سين سيناء والمد. وبذلك قرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ويعقوب وأكثر السبعة هو اسم للبقعة والطور اسم للجبل المخصوص أو لكل جبل وهو مضاف إلى سَيْناءَ كما أجمعوا عليه، ويقصد تنكيره على الأول كما في سائر الأعلام إذا أضيفت وعلى الثاني يكون طور سيناء كمنارة المسجد.
وجوز أن يكون كامرىء القيس بمعنى أنه جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما على ذلك العلم، وقيل سيناء اسم لحجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. وروي هذا عن مجاهد وفي الصحاح طور سيناء جبل بالشام وهو طور أضيف إلى سيناء وهو شجر وقيل هو اسم الجبل والإضافة من إضافة العام إلى الخاص كما في جبل أحد.
وحكي هذا القول في البحر عن الجمهور لكن صحح القول بأنه اسم البقعة وهو ممنوع من الصرف للألف الممدودة فوزنه فعلاء كصحراء، وقيل: منع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: للعلمية والتأنيث بتأويل البقعة ووزنه فيعال لا فعلال إذ لا يوجد هذا الوزن في غير المضاعف في كلام العرب إلا نادرا كخزعال لظلع الإبل حكاه الفراء ولم يثبته أبو البقاء والأكثرون على أنه ليس بعربي بل هو أما نبطي أو حبشي وأصل معناه الحسن أو المبارك، وجوز بعض أن يكون عربيا من السناء بالمد وهو الرفعة أو السنا بالقصر وهو النور.
وتعقبه أبو حيان بأن المادتين مختلفتان لأن عين السناء أو السنا نون وعين سيناء ياء. ورد بأن القائل بذلك يقول
إنه فيعال ويجعل عينه النون وياءه مزيدة وهمزته منقلبة عن واو، الحرميان وأبو عمرو والحسن «سيناء» بكسر السين والمد وهي لغة لبني كنانة وهو أيضا ممنوع من الصرف للألف الممدودة عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث: وعند البصريين ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق بفعلال كعلباء وحزباء وهو ملحق بقرطاس وسرداح وهمزته منقلبة عن واو أو ياء لأن الإلحاق يكون بهما، وقال أبو البقاء: همزة سيناء بالكسر أصل مثل حملاق وليست للتأنيث إذ ليس في الكلام مثل حمراء والياء أصل إذ ليس في الكلام سناء، وجوز بعضهم أن يكون فيعالا كديماس، وقرأ الأعمش «سينا» بالفتح والقصر، وقرىء «سناء» بالكسر والقصر فألفه للتأنيث إن لم يكن أعجميا، والمراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون وتخصيصه بالذكر من بين سائر الأشجار لاستقلالها بمنافع معروفة. وقد قيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وتعمر كثيرا، ففي التذكرة أنها تدوم ألف عام ولا تبعد صحته لكن علله بقوله: لتعلقها بالكوكب العالي وهو بعيد الصحة. وفي تفسير الخازن قيل تبقى ثلاثة آلاف سنة وتخصيصها بالوصف بالخروج من الطور مع خروجها من سائر البقاع أيضا وأكثر ما تكون في المواضع التي زاد عرضها على ميلها واشتد بردها وكانت جبلية ذا تربة بيضاء أو حمراء لتعظيمها أو لأنه المنشأ الأصلي لها. ولعل جعله للتعظيم أولى فيكون هذا مدحا لها باعتبار مكانها.
وقوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ مدحا لها باعتبار ما هي عليه في نفسها، والباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قولك: جاء بثياب السفر وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الشجرة أي تنبت ملتبسة بالدهن وهو عصارة كل ما فيه دسم، والمراد به هنا الزيت وملابستها به باعتبار ملابسة ثمرها فإنه الملابس له في الحقيقة.
وجوز أن تكون الباء متعلقة بالفعل معدية له كما في قولك: ذهبت بزيد كأنه قيل: تنبت الدهن بمعنى تتضمنه وتحصله، ولا يخفى أن هذا وإن صح إلا أن إنبات الدهن غير معروف في الاستعمال.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري «تنبت» بضم التاء المثناة من فوق وكسر الباء على أنه من باب الافعال، وخرج ذلك على أنه من أنبت بمعنى نبت فالهمزة فيه ليست للتعدية وقد جاء كذلك في قول زهير:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم | قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل |
وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز «تنبت» بضم أوله وفتح ما قبل آخره مبنيا للمفعول والجار والمجرور في موضع الحال، وقرأ زر بن حبيش «تنبت» من الافعال «الدهن» بالنصب وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب «بالدهان» جمع دهن كرماح جمع رمح، وما رووا من قراءة عبد الله تخرج الدهن وقراءة أبي تثمر بالدهن محمول على التفسير ما في البحر لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور.
وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ معطوف على الدهن، ومغايرته له التي يقتضيها العطف باعتبار المفهوم وإلا فذاتهما واحدة عند كثير من المفسرين، وقد جاء كثيرا تنزيل تغاير المفهومين منزلة تغاير الذاتين، ومنه قوله: صفحة رقم 224
إلى الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم طبخ له لسان شاة بزيت فأكل منه
وأخرج أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلوا الزيت وادهنوا به فإنه شفاء من سبعين داء منها الجذام»
وأخرج الترمذي في الأطعمة عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة»
لكن قال بعضهم: هذا الأمر لمن قدر على استعماله ووافق مزاجه وهو كذلك فلا اعتراض على من لم يوافق مزاجه في عدم استعماله بل الظاهر حرمة استعماله عليه إن أضر به كما قالوا بحرمة استعمال الصفراوي للعسل ولا فرق في ذلك بين الأكل والادهان فإن الأدهان به قد يضر كالأكل، قال ابن القيم: الدهن في البلاد الحارة كالحجاز من أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن وهو كالضروري لأهلها وأما في البلاد الباردة فضار وكثرة دهن الرأس بالزيت فيها فيه خطر على البصر انتهى.
وقرأ عامر بن عبد الله «وصباغا» وهو بمعنى صبغ كما مرت إليه الإشارة ومنه دبغ ودباغ ونصبه بالعطف على موضع بِالدُّهْنِ وفي تفسير ابن عطية وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعا للآكلين وهو محمول على التفسير.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً بيان للنعم الواصلة إليهم من جهة الحيوان إثر بيان النعم الفائضة من جهة الماء والنبات وقد بين أنها مع كونها في نفسها نعمة ينتفعون بها على وجوه شتى عبرة لا بد من أن يعتبروا بها ويستدلوا بأحوالها على عظم قدرة الله عز وجل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه، وخص هذا بالحيوان لما أن محل العبرة فيه أظهر.
وقوله تعالى: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها تفصيل لما فيها من مواقع العبر. وما في بطونها عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الأجواف فإن اللبن في الضروع أو عن العلف الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها. وأيا ما كان فضمير بُطُونِها للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل لا للإناث منها على استخدام لأن عموم ما بعده يأباه، وقرىء بفتح النون وبالتاء أي تسقيكم الأنعام.
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ غير ما ذكر من أصوافها وأشعارها وأوبارها وَمِنْها تَأْكُلُونَ الظاهر أن الأكل على معناه الحقيقي ومن تبعيضية لأن من أجزاء الأنعام ما لا يؤكل، وتقديم المعمول للفاصلة أو للحصر الإضافي بالنسبة إلى الحمير ونحوها أو الحصر باعتبار ما في تَأْكُلُونَ من الدلالة على العادة المستمرة، وكان هذا بيان لانتفاعهم بأعيانها وما قبله بيان لانتفاعهم بمرافقها وما يحصل منها ويجوز عندي ولم أر من صرح به أن يكون الأكل مجازا أو كناية عن التعيش مطلقا كما سمعت قبل أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم. صفحة رقم 225