القصة الثانية- قصة هود عليه السلام
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣١ الى ٤١]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)
الإعراب:
ما هذا إِلَّا بَشَرٌ ما: خبرية.
أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أَنَّكُمْ: إما بدل من الأولى، والتقدير: أيعدكم أن إخراجكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما، وإما تأكيد للأولى، وإما في موضع رفع بالظرف، وهو إِذا على قول الأخفش، وعامل إِذا مقدر، تقديره: أيعدكم وقت موتكم وكنتم ترابا إخراجكم، فيكون الظرف وما رفع به خبر (أن). ومُخْرَجُونَ: خبر أنكم الأولى.
هَيْهاتَ هَيْهاتَ اسم لبعد، وهو فعل ماض، فكان مبنيا، وفاعله مقدر، تقديره:
هيهات إخراجكم، هيهات إخراجكم.
عَمَّا قَلِيلٍ أي عن قليل، وما: زائدة، وعن: تتعلق بفعل مقدر يفسره قوله:
لَيُصْبِحُنَّ.
البلاغة:
نَمُوتُ وَنَحْيا بينهما طباق.
فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً تشبيه بليغ، أي كالغثاء في سرعة زواله، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه.
الَّذِينَ كَفَرُوا، وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ، وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أسلوب إطناب للذم وبيان أنواع القبائح.
تَتَّقُونَ، تَشْرَبُونَ، لَخاسِرُونَ، مُخْرَجُونَ، تُوعَدُونَ سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ قَرْناً: قوما أو أمة أو جماعة مجتمعة في زمان واحد، سموا بذلك لتقدمهم على من بعدهم تقدم القرن على الحيوان. والمراد بهم قوم هود، لقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف ٧/ ٦٩]. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود عليه السلام، وإنما جعل القرن موضع الإرسال ليدل على أنه لم يأتهم من مكان غير مكانهم، وإنما أوحي إليه وهو بين أظهرهم. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي بأن اعبدوا الله، أو قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا الله. أَفَلا تَتَّقُونَ عقابه فتؤمنوا.
وَقالَ الْمَلَأُ أشراف القوم ورؤساؤهم. وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ بالمصير إليها، أو لقاء ما فيها من الثواب والعقاب. وَأَتْرَفْناهُمْ نعمناهم، أي وسّعنا عليهم وجعلناهم في ترف ونعيم.
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بكثرة الأموال والأولاد. ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفة والحال. يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ تقرير للمماثلة.
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما يأمركم، أي والله لئن أطعتم، فيه قسم وشرط، وجواب أولهما، وهو مغن عن جواب الثاني هو: إِنَّكُمْ إِذاً أي إذا أطعتموه لَخاسِرُونَ مغبونون في آرائكم، حيث أذللتم أنفسكم لأمثالكم.
وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أي مجردة عن اللحوم والأعصاب. أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من الأجداث أو من العدم تارة أخرى إلى الوجود، وأنكم هذه تأكيد الأولى لما طال الفصل. هَيْهاتَ هَيْهاتَ اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي بعد بعد التصديق أو الصحة. لِما تُوعَدُونَ من الإخراج من القبور والبعث والحساب، واللام زائدة للبيان.
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا. وَنَحْيا بحياة آبائنا، يموت
بعضنا ويولد بعض. وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت. إِنْ هُوَ أي ما الرسول. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما يدعيه من الرسالة. بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين بالبعث بعد الموت.
رَبِّ انْصُرْنِي عليهم وانتقم لي منهم. بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم إياي. عَمَّا قَلِيلٍ أي بعد زمان قليل. لَيُصْبِحُنَّ ليصيرن. نادِمِينَ على كفرهم وتكذيبهم.
الصَّيْحَةُ: الصوت الشديد، وهي صيحة العذاب والهلاك، وهي صيحة جبريل، صاح عليهم صيحة هائلة تصدعت منها قلوبهم فماتوا. بِالْحَقِّ بالوجه الثابت الذي لا دافع له. غُثاءً شبههم في دمارهم بغثاء السيل، وهو ما يحمله من الورق والعيدان اليابسة، وأصل الغثاء: نبت يبس، أي صيرناهم مثله في اليبس. فَبُعْداً من الرحمة وهلاكا. لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ المكذبين.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية في هذه السورة، وهي قصة هود عليه السلام، في قول ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين لقوله تعالى في سورة الأعراف حكاية لقول هود: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء.
وقال بعضهم: المراد بهم صالح وثمود لأن قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة، والعقاب المذكور هنا هو الصيحة، فالقصة هي قصة صالح عليه السلام.
التفسير والبيان:
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ... تَتَّقُونَ أي ثم أوجدنا من بعد قوم نوح الهلكى قوما آخرين، هم عاد قوم هود عليه السلام، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم، وقيل: المراد ثمود، لقوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ. فأرسل الله تعالى فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وخالفوه وأبوا اتباعه لكونه بشرا مثلهم، فقال لهم: أفلا تتقون وتخافون عقاب الله بعبادتكم غيره من وثن أو صنم، فإن العبادة لا تنبغي إلا له، ولا يستحقها غيره؟!
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ... تَشْرَبُونَ أي قال أشراف قومه المتصفون بصفات ثلاث هي شر الصفات:
أولها- الكفر بالخالق وجحود وحدانية.
ثانيها- الكفر بيوم القيامة والتكذيب بالبعث والجزاء والحساب، والمعاد الجثماني.
ثالثها- الانغماس في الحياة الدنيا التي أنعم الله بها عليهم، حتى بطروا وجحدوا النعمة، وقالوا: ما هود الذي يدعي أنه رسول إلا بشر عادي مثلكم في الصفات والحال، لا ميزة له عليكم، فهو يأكل من طعامكم، ويشرب من شرابكم الذي تشربون منه، فكيف يدعي الفضل عليكم، ويزعم الرسالة من الله إليكم؟
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ، إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي وأقسموا لئن أظهرتم الطاعة لبشر مثلكم، واتبعتموه، إنكم حينئذ تخسرون عقولكم، وتغبنون في آرائكم، وتضيعون مجدكم بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم.
وبشرية الرسول هي الشبهة الأولى لإنكار هؤلاء القوم. ثم ذكروا شبهة ثانية وهي الطعن في صحة الحشر والنشر، والطعن في نبوته القائمة على إثبات ذلك، فقالوا:
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أي أيعدكم أنكم تخرجون وتبعثون من قبوركم أحياء بعد موتكم وصيرورتكم ترابا وعظاما بالية؟! ثم قرنوا بالإنكار استبعادهم الشديد وقوع ما يدعيه بقولهم:
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ أي بعد بعد ما توعدون به أيها القوم من حدوث البعث الجثماني وعودة الحياة مرة أخرى، للحساب والجزاء. ثم أكدوا إنكار البعث بقولهم:
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ أي ما الحياة إلا واحدة وهي حياة الدنيا، فالبعض يموت، والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر ولا بعث. وبعد أن طعنوا في صحة الحشر، بنوا عليه الطعن في نبوة هود، فقالوا:
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ أي ما هود الذي يدعي النبوة ويثبت البعث إلا مجرد رجل اختلق الكذب على الله، فيما جاءكم به من الرسالة والإنذار والإخبار بالمعاد، وما نحن له بمصدقين فيما يدّعي ويزعم.
ولم يجب الله تعالى عما أوردوه من الشبهتين المتقدمتين، أما كون الرسول بشرا فهو أدعى وألزم للمؤانسة، وتيسر الأخذ عنه، ومناقشته، وتكوين القناعة من أمثالهم عقلا وفكرا ومحاكمة، فليست القضية مجرد إلزام بالقول. وأما استبعاد الحشر فلضعف عقولهم، وقصور ميزانهم لأن العاقل يدرك أنه سبحانه لما كان قادرا على كل الممكنات، عالما بكل المعلومات، وجب أن يكون قادرا على الحشر والنشر، ولأن الإعادة أمر ضروري لإقامة صرح العدالة بين الناس، فلولا الإعادة لكان تسليط القوي على الضعيف في الدنيا ظلما، ولا رادع له، ولا عقاب عليه، وهو غير لائق بالحكيم، لذا قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه ٢٠/ ١٥].
ولما يئس هود من إيمان قومه بقولهم: وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ فزع إلى ربه:
قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ أي رب انصرني على قومي نصرا مؤزرا بسبب تكذيبهم إياي في دعوتي لهم إلى الإيمان بك وتوحيدك وإثبات لقائك.
فأجاب الله دعاءه:
قالَ: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ أي قال تعالى مجيبا دعاءه: ليصيرن قومك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا، وذلك حين ظهور علامات الهلاك لهم، فيحصل منهم الحسرة والندامة على ترك قبول دعوتك لهم إلى الإيمان بالله والتوحيد، وعلى مخالفتك وتكذيبك ومعاندتهم إياك.
ثم كان الجزاء والعذاب، فقال تعالى:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ، فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي أهلكوا وماتوا بصيحة جبريل الرهيبة بهم، وهي صوت شديد مرعب أدى إلى الصعقة والموت، فأصبحوا بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم صرعى هلكى، كغثاء السيل: وهو الشيء الحقير التافه الذي لا ينتفع بشيء منه، قال ابن كثير: والظاهر أنه اجتمعت عليهم الصيحة، مع الريح الصرصر العاصفة القوية الباردة.
فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي بعدا من الرحمة وهلاكا، وسحقا وتدميرا للقوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وطغيانهم وعصيان رسولهم، كقوله تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف ٤٣/ ٧٦].
وفي هذا غاية المهانة والذلة لهم، وإظهار قدرة الله عليهم، وإنذار السامعين أمثالهم من تكذيب رسولهم بأن يصيبهم من العذاب مثل ما أصابهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
العبرة واضحة من هذه القصة، فهي إنذار مخالفي الرسول صلّى الله عليه وسلم، وبيان عاقبة الكافرين الظالمين الذين ينكرون وحدانية الله، ولا يصدقون بيوم القيامة، ويعاندون رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وواضح من الآيات أن هودا عليه السلام أمر قومه بعبادة الله وحده لا شريك له إذ لا يستحق العبادة سواه، وحذرهم من الكفر، وخوفهم من عقاب الله وعذابه.