
الإيمان بالله القادر الحكيم [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ٢٢]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
المفردات:
مِنْ سُلالَةٍ من خلاصة استلت من الطين، والسلالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء يقال: سللت الشعر من العجين والسيف من الغمد فانسل قَرارٍ

مَكِينٍ
المراد الرحم طَرائِقَ جمع طريقة والمراد السموات السبع، سميت بذلك لأن بعضها فوق بعض بِقَدَرٍ بمقدار معلوم عندنا طُورِ سَيْناءَ طور سيناء، وَصِبْغٍ كل إدام يؤتدم به فهو صبغ، وأصل الصبغ ما يصبغ به الثوب أى يلون، وشبه الإدام به لأن الخبز يلون به إذا غمس فيه.
لقد أمر الحق- تبارك وتعالى- بالإيمان وبالاتصاف بشعبه المهمة التي تكون المؤمن الصالح ببيان صفات المؤمنين التي هي سبب في فلاحهم وفوزهم. وذلك في الآيات السابقة. وهذا لا يتم إلا بعد معرفة الإله معرفة حقيقة والإيمان به والاستدلال على ذاته الكريمة وصفاته الجليلة كالقدرة والوجدانية، والعلم والحكمة وغيرها. ولذا ترى القرآن الكريم أخذ يسوق الأدلة على ذلك في خلق الإنسان، وفي تكوين السموات وفي نزول الأمطار وخروج النبات، وفي خلقه الحيوان ومنافعه.
المعنى:
ولقد خلقنا الإنسان، وقلبناه في أدوار الخلقة وأطوار الفطرة. أفلا يكون ذلك دليلا كافيا على وحدانيته تعالى: واتصافه بكل كمال، وتنزهه عن كل نقص؟ هذه الأطوار كل طور فيها لا يمت إلى الآخر بصلة.
لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ومن هو الإنسان؟ أهو آدم أم أولاده أو هو لفظ عام شامل للكل؟
أما آدم فخلق من طين لازب إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [سورة ص الآيتان ٧١ و ٧٢].
وأما أولاده فقد خلقت من منى يمنى، وهذا المنى من الدم، والغذاء سواء كان نباتا أو حيوانا مصدره الأرض، إذا الإنسان مطلقا خلق من طين كما نصت الآية وعلى ذلك نفهم قوله تعالى خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أى: صلب الرجل وترائب المرأة أى: عظام صدرها، مع قوله: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة ٧ و ٨].
تلك نظرية القرآن- كلام الله الذي خلق الإنسان من العدم- في وضوحها وهي لا تعارض بنظرية النشوء والارتقاء في تكوين الإنسان إذ أنها بنيت على الحدس والتخمين

حيث يظن أن أصل الإنسان حيوان ارتقى، والواقع لا يشجعنا على هذا على أن نظرية القرآن تكرم الإنسان على الخلق كلهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي.
ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ نعم هو قرار مكين حقا فالجنين يوضع في كيس (المشيمة) وهذا الكيس فيه ماء قليل حامل للطفل وحافظ له من الحركات العنيفة، وتقلبات الأم الشديدة، وهذا الكيس في الرحم، والرحم مغلق وهو في الحوض، أفلا يكون هذا في قرار مكين؟ ومع هذا كله فالجنين يتغذى ويتنفس بعد مدة من الزمن أما كيف يتنفس؟ فهذا دليل على القدرة التي لا تحد!.
ثم خلقنا النطفة التي هي حيوان منوي واحد من ملايين تنزل من الرجل علقة أى:
جعلناها علقة فحولنا النطفة من صفاتها إلى صفات العلقة، وهي الدم الجامد.
فخلقنا العلقة مضغة: أى جعلناها قطعة لحم قدر ما يمضغ بعد أن كانت جزءا من الدم الجامد.
فخلقنا المضغة عظاما، ومن الذي كون العظام من اللحم؟، والعظام لها طابع خاص ومكون من مواد تختلف عن مواد اللحم، إنه الخالق- سبحانه وتعالى-.
فكسونا العظام لحما، نعم قد كسى العظام باللحم والعصب. إنه نظام دقيق جدا يعرفه من مارس صنع الآلات، وحاجتها الشديدة إلى ما يشبه المفاصل في الإنسان إنه تركيب دقيق، وصنعة محكمة! والطب الحديث أثبت أن العظم يتكون أولا ثم يكسى باللحم فمن علم ذلك النبي الأمى؟! إنه الله!! ثم أنشأناه خلقا آخر، نعم ثم بعد هذا أنشأناه خلقا آخر يسمع ويتحرك ويتنفس وكان قبل هذا قطعة لحم بدون حياة كاملة ثم بعد ذلك نزل من بطن أمه للحياة يسعى ويعمل، وصار في وضع لو دخل في بطن أمه لحظة بعد خروجه لمات لساعته، سبحانك يا رب!! وانظر إلى التعبير بثم هنا، وبالفاء قبله!! فالفاء للترتيب مع التعقيب، وثم للترتيب مع التراخي فتبارك الله أحسن الخالقين. نعم تعالى الله خالق هذا الإنسان، فالبركات والخيرات والنعم كلها منه- سبحانه وتعالى- وهو المستحق للثناء والتعظيم والعبادة لا إله غيره، ولا معبود سواه.

ثم إنكم بعد ذلك لميتون الموتة الأولى، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون والبعث بعد موتكم في قبوركم ليأخذ كل جزاءه وافيا- أليس الموت في الدنيا. والبعث في الآخرة دليلا قويا على القدرة الكاملة؟!!
الأدلة الواضحة في خلق السماوات
ولقد خلقنا يا بنى آدم فوقكم سبع سموات طباقا، وما كنا عن الخلق غافلين، بل حاسبين عالمين بالغيب والشهادة:
والسموات السبع قيل: إن السماء عبارة عن الفلك الذي يدور فيه مجموعة من الكواكب مثل المجموعة الشمسية وهذه المجموعة مكونة من الشمس مثلا وكثير من الكواكب التي تنجذب إليها وتدور حولها في مدارها، وهكذا حتى تتكون سبعة أفلاك وهي السموات السبع التي هي جزء من العالم العلوي.
ولكن إذا نظرنا إلى نصوص القرآن المتعددة والمذكورة في كثير من السور مثل قوله تعالى:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً «١». وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ «٢». إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ «٣» وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ «٤». وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ «٥».
وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ «٦». أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «٧». وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً «٨». أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها «٩». إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ «١٠» إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «١١».. وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ | «١٢» أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ «١٣» وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ «١٤» هذه النصوص كلها تجعلنا نقول مع القائلين أن السماء مادة فيها الكواكب والله أعلم بهذه المادة، وإنما قيل سبع طرائق وفي آية أخرى طباقا لأنها متطارقة بعضها فوق بعض، أى متطابقة، وقيل لأنها طرائق الملائكة. |
(٢) الذاريات آية ٤٧.
(٣) الصافات آية ٦.
(٤) فصلت آية ١٢.
(٥) الطور آية ٤٤.
(٦) الحاقة آية ١٦.
(٧) نوح الآيتان ١٥ و ١٦.
(٨) النبأ آية ١٢.
(٩) النازعات الآيتان ٢٧ و ٢٨.
(١٠) الانفطار آية ١.
(١١) الانشقاق آية ١.
(١٢) البروج آية ١. [.....]
(١٣) الغاشية الآيتان ١٧ و ١٨.
(١٤) الحج آية ٦٥.

الأدلة في نزول المطر وإنبات النبات
والله- سبحانه وتعالى- أنزل من السماء ماء على هيئة المطر، وإن قصته لعجيبة تدل على كمال القدرة فالماء الذي على سطح الأرض (وما أكثره) يتبخر على شكل بخار يصعد إلى أعلى لخفته ثم إذا تجمد تحمله الرياح إلى حيث يراد نزوله، فينزل عذبا فراتا سائغا شرابه، كل هذه الأدوار والأطوار التي مر بها الماء من الذي خلقها؟ إنه الله- سبحانه وتعالى-.
الله ينزل من السّماء ماء على من يشاء من عباده ينزله بقدر معلوم، قدر لا يضر ولا يهلك، بل يقدر المصلحة العامة غالبا.
والمطر إذا نزل على الأرض تسرب فيها، وكون في باطنها ما يشبه البحيرات والأنهار، وقد أثبت البحث حديثا أن تحت القطر المصرى نهرا أكثر ماء من نهر النيل، وآية ذلك العيون والآبار التي في الصحراء وغيرها، والآلات الميكانيكية التي ترفع المياه الجوفية فيسقى بها الزرع، وتنشأ بها الجنات والبساتين.
نعم أنشأ الله بهذا الماء النازل من السماء جنات من نخيل وأعناب وغيرها من أصناف المزروعات المنتشرة الآن في العالم كله، وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما المعروفان عند العرب كثيرا، وغيرهما بالقياس.
لنا في هذه الزروع ما نتفكه به، وما نأكل منه ونشأ به شجرة تخرج في طور سيناء- وهي الصحراء القاحلة، لولا ما ينزل عليها من الأمطار- هي شجرة الزيتون ومنها الدهن والإدام الذي يؤتدم به، وفيه الشفاء لكثير من الأمراض وهو أصح من السمن في كثير من الحالات والله- سبحانه وتعالى- قادر على إذهاب المطر ومنعه، وعلى جفاف المياه الجوفية وإزالتها قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ؟! [سورة الملك آية ٣٠].
الأدلة في الأنعام وخلقها
أما الأنعام التي خلقها الله لنا، وسخرها لخدمتنا، وذللها لمنافعنا، فهي الإبل والبقر بنوعيه والضأن والماعز، وغيرها كثير:
ولنا في لبنه عبرة وعظة، وأية عبرة هذه!! إنه اللبن الذي تفرزه الغدد ويخرج من