آيات من القرآن الكريم

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ
ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا
فَوَصَفَ تَعَالَى أَحَدَ مَا لِأَجْلِهِ عُذِّبُوا وَبُعِدُوا مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ مَا عَامَلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى لِأَنَّهُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ السِّينِ فِي جَمِيعِ القرآن، وقرأ الباقون بالكسر هاهنا وفي صلى اللَّه عليه وسلم قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ هُمَا لُغَتَانِ كَدُرِّيٍّ وَدِرِّيٍّ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ الْكَسْرُ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ بِالْقَوْلِ، وَالضَّمُّ بِمَعْنَى السُّخْرِيَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَضْحَكُونَ بِالْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ مِثْلِ بِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ، وَالْمَعْنَى اتَّخَذْتُمُوهُمْ هُزُوًا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بِتَشَاغُلِكُمْ بِهِمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ذِكْرِي وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَقْتَضِي فِيهِمُ الْأَسَفَ وَالْحَسْرَةَ بِأَنْ وَصَفَ مَا جَازَى بِهِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ إِنَّهُمْ بِالْكَسْرِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ فَالْكَسْرُ اسْتِئْنَافٌ أَيْ قَدْ فَازُوا حَيْثُ صَبَرُوا فَجُوزُوا بِصَبْرِهِمْ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ جَزَيْتُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا بِإِضْمَارِ الْخَافِضِ أَيْ جَزَيْتُهُمُ الْجَزَاءَ الْوَافِرَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الفائزون.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٦]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
[في قوله تعالى قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ إلى قوله فَسْئَلِ الْعادِّينَ] اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ قالَ وَهُوَ ضَمِيرُ اللَّه أَوِ الْمَأْمُورِ بسؤالهم من الملائكة، وقل فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَهُوَ ضَمِيرُ الْمَلَكِ أَوْ بَعْضِ رُؤَسَاءِ أَهْلِ النَّارِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْغَرَضُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ التَّبْكِيتُ وَالتَّوْبِيخُ، فَقَدْ كَانُوا يُنْكِرُونَ اللُّبْثَ فِي الْآخِرَةِ أَصْلًا وَلَا يَعُدُّونَ اللُّبْثَ إِلَّا فِي دَارِ الدُّنْيَا وَيَظُنُّونَ أَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ يَدُومُ الْفَنَاءُ وَلَا إِعَادَةَ فَلَمَّا حَصَلُوا فِي النَّارِ وَأَيْقَنُوا أَنَّهَا دَائِمَةٌ وَهُمْ فِيهَا مُخَلَّدُونَ سَأَلَهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ مَا ظَنُّوهُ دَائِمًا طَوِيلًا فَهُوَ يَسِيرٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا أَنْكَرُوهُ، فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ لَهُمُ الْحَسْرَةُ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ أَيْقَنُوا خِلَافَهُ، فَلَيْسَ الْغَرَضُ السُّؤَالُ بَلِ الْغَرَضُ مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَصِحُّ فِي جَوَابِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وَلَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الْكَذِبُ قُلْنَا لَعَلَّهُمْ نَسُوا ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِهَذَا النسيان حيث قالوا: فَسْئَلِ الْعادِّينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنْسَاهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ وَقِيلَ مُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ تَصْغِيرُ لُبْثِهِمْ وَتَحْقِيرُهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا وَقَعُوا فِيهِ وَعَرَفُوهُ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ واللَّه أَعْلَمُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ أَيِّ لُبْثٍ وَقَعَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لُبْثُهُمْ إِحْيَاؤُهُمْ فِي/ الدُّنْيَا وَيَكُونُ

صفحة رقم 298

الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أُمْهِلُوا حَتَّى تَمْكَّنُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فَأَجَابُوا بِأَنَّ قَدْرَ لُبْثِهِمْ كَانَ يَسِيرًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، وَهَذَا الْقَائِلُ احْتَجَّ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنْ لَا حَيَاةَ سِوَاهَا، فَلَمَّا أحياهم اللَّه تعالى في النار وعذبوا سألوا عَنْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِأَنَّهُ إِلَى التَّوْبِيخِ أَقْرَبُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُرَادُ اللُّبْثُ فِي حَالِ الْمَوْتِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْأَرْضِ يُفِيدُ الْكَوْنَ فِي الْقَبْرِ وَمَنْ كَانَ حَيًّا فَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ:
٥٦]، الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الرُّومِ: ٥٥] ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ قَوْلَهُمْ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الرُّومِ:
٥٦].
المسألة الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ مَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَوْلُهُ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ زَمَانَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً فَوْقَ الْأَرْضِ وَزَمَانَ كَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا فِي بَطْنِ الْأَرْضِ فَلَوْ كَانُوا مُعَذَّبِينَ فِي الْقَبْرِ لَعَلِمُوا أَنَّ مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ طَوِيلَةٌ فَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوَابَ لَا بُدَّ وأن يكون بحسب السؤال، وإنما سألوا عَنْ مَوْتٍ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَذَابِ القبر والثاني: يحتمل أن يكونوا سألوا عَنْ قَدْرِ اللُّبْثِ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَقَدُّمُ مَوْتِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُمْ لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عِنْدَ أَنْفُسِنَا.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَسْئَلِ الْعادِّينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: الْمُرَادُ بِهِمُ الْحَفَظَةُ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُحْصُونَ الْأَعْمَالَ وَأَوْقَاتَ الْحَيَاةِ وَيَحْسِبُونَ أَوْقَاتَ مَوْتِهِمْ وَتَقَدُّمَ مَنْ تَقَدَّمَ وَتَأَخُّرَ مَنْ تَأَخَّرَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عِكْرِمَةَ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ أَيْ الَّذِينَ يَحْسِبُونَ وَثَانِيهَا: فَاسْأَلِ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يَعُدُّونَ أَيَّامَ الدُّنْيَا وَسَاعَاتِهَا وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى سَلْ مَنْ يَعْرِفُ عَدَدَ ذَلِكَ فَإِنَّا قَدْ نَسِينَاهُ وَرَابِعُهَا: قُرِئَ الْعَادِينَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ الظَّلَمَةَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ مِثْلَ مَا قُلْنَا وَخَامِسُهَا:
قُرِئَ الْعَادِيِّينَ أَيْ الْقُدَمَاءِ الْمُعَمِّرِينَ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَقْصِرُونَهَا فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ؟
أَمَّا قَوْلُهُ: لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّا لَبِثْنَا فِي الدُّنْيَا قَلِيلًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ صَدَقْتُمْ مَا لَبِثْتُمْ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا إِلَّا أَنَّهَا انْقَضَتْ وَمَضَتْ، فَظَهَرَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ تَعْرِيفُ قِلَّةِ أَيَّامِ الدُّنْيَا فِي مُقَابَلَةِ أَيَّامِ الْآخِرَةِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَبَيَّنَ فِي هَذَا الوجه أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ قَلِيلٌ لَوْ عَلِمْتُمُ الْبَعْثَ وَالْحَشْرَ، لَكِنَّكُمْ لَمَّا أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ تُعِدُّونَهُ طَوِيلًا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا هُوَ فِي التَّوْبِيخِ أَعْظَمُ بِقَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَبَثاً حَالٌ أَيْ عَابِثِينَ كَقَوْلِهِ: لاعِبِينَ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ مَا خَلَقْنَاكُمْ لِلْعَبَثِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ صِفَاتِ الْقِيَامَةِ خَتَمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِهَا وَهِيَ أَنَّهُ لَوْلَا الْقِيَامَةُ لَمَا تَمَيَّزَ الْمُطِيعُ مِنَ الْعَاصِي وَالصِّدِّيقُ مِنَ الزِّنْدِيقِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ خَلْقُ هَذَا الْعَالَمِ عَبَثًا، وَأَمَّا

صفحة رقم 299
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية