آيات من القرآن الكريم

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ
ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ

أَإِذا مِتْنا
فيه أن اليأس من الوصول والوصال ليس من شيم أهل الكمال فقد تقوم قيامة العشق فيبعث القلب الميت أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ملكوت كل شيء هي جهة روحانيته وَهُوَ يُجِيرُ الأشياء بقيوميته عن الهلاك ولا مانع له ممن أراد به أن لا يجيره.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩١ الى ١١٨]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥)
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
القراآت:
عالم بالرفع: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وعاصم غيره حفص إلا الخزاز. وقرأ رويس بالخفض إذا وصل وبالرفع إذا ابتدأ، الآخرون بالخفض لَعَلِّي أَعْمَلُ بسكون الياء: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. شقاوتنا حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون شِقْوَتُنا بكسر الشين وسكون القاف في غير ألف. سِخْرِيًّا بضم السين وكذلك في صاد: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي

صفحة رقم 132

وخلف والمفضل والخزاز عن هبيرة. الآخرون بكسرها إنهم بالكسر: حمزة وعلي والخزاز عن هبيرة. قل كم قل إن لبثتم على الأمر فيهما: حمزة وعلي وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل وافق ابن كثير في الأول. لا تُرْجَعُونَ على البناء للفاعل يعقوب وحمزة وعلي وخلف.
الوقوف:
عَلى بَعْضٍ ط يَصِفُونَ هـ ط لمن قرأ بالرفع إلى هو عالم ومن خفض لم يقف لأنه بدل أو وصف يُشْرِكُونَ هـ ما يُوعَدُونَ هـ لا لأن قوله «فلا» جواب للشرط وهو إما والنداء عارض الظَّالِمِينَ هـ لا لَقادِرُونَ هـ السَّيِّئَةَ ط يَصِفُونَ هـ الشَّياطِينِ هـ لا يَحْضُرُونِ هـ ارْجِعُونِ هـ لا لتعلق لعل كَلَّا ط لأنها للردع عما قبلها أي لا يرجع. وقيل: مبتدأ بها بمعنى حقا والأول أحسن قائِلُها ط يُبْعَثُونَ هـ وَلا يَتَساءَلُونَ هـ الْمُفْلِحُونَ هـ خالِدُونَ هـ كالِحُونَ هـ تُكَذِّبُونَ هـ ضالِّينَ هـ ظالِمُونَ هـ وَلا تُكَلِّمُونِ هـ الرَّاحِمِينَ هـ ج للآية والوصل أجوز لشدة اتصال المعنى وللفاء تَضْحَكُونَ هـ صَبَرُوا ط لمن قرأ أَنَّهُمْ بالكسر الْفائِزُونَ هـ سِنِينَ هـ الْعادِّينَ هـ تَعْلَمُونَ هـ لا تُرْجَعُونَ هـ الْحَقُّ هـ لا لأن ما بعده يصلح مستأنفا وحالا أي تعالى متوحدا غير مشارك إِلَّا هُوَ هـ لا لأن قوله رَبُّ الْعَرْشِ يصلح بدلا من هو وخبر مبتدأ محذوف الْكَرِيمِ ط آخَرَ لا لأن الجملة بعده صفة بِهِ لا لأن ما بعده جواب عِنْدَ رَبِّهِ ط الْكافِرُونَ هـ الرَّاحِمِينَ هـ.
التفسير:
لما أثبت لنفسه الإلهية بالدلائل الإلزامية في الآيات المتقدمة نفى عن نفسه الأنداد والأضداد بقوله مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ بقوله وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله وإبطال لأقوال اليهود والنصارى والثنوية. ثم ذكر شبه دليل التمانع بقوله إِذاً لَذَهَبَ وهو جواب لمن معه المحاجة من أهل الشرك وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق تقديره: ولو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق لا نفرد كل واحد منهم بالخلق الذي خلقه واستبد به، لأن اجتماعهم على خلق واحد لا يتصور فإن ذلك يقتضي عجز الواحد عن ذلك الخلق، وحينئذ يكون ملك كل واحد منهم متميزا عن ملك الآخرين. وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي لغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا من تمايز الممالك ومن التغالب، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم فلذلك ختم الآية بقوله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إلى قوله عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم أمر نبيه ﷺ بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلا قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فَلا تَجْعَلْنِي قريبا لهم. وقد يجوز أن يستعيذ

صفحة رقم 133

العبد بالله مما علم أنه لا يفعله إظهارا للعبودية واستكانة له ويؤيده تكرار رب مرتين. وكانوا ينكرون العذاب ويسخرون منه فأكد وقوعه بقوله وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ قيل: فيه دليل على أن القدرة تصح على المعدوم لأنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك ثم أمره بالصفح عن سيئاتهم ومقابلتها بما يمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه كان أحسن لأنها حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. أو نقول: المكافأة حسنة ولكن العفو أحسن. عن ابن عباس هي شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك. وعن مجاهد هي أن يسلم عليه إذا لقيه. قيل: هي منسوخة بآية السيف والأولى أن يقال: هي محكمة لأن المداراة مستحبة ما لم تؤد إلى محذور نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ مما ليس فيك من المثالب والمراد أنه أقدر على جزائهم فعليه أن يفوض أمرهم إلى الله ويدفع أذاهم بالكلام الجميل والسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه. ثم أتبع هذا التعليم ما يقويه على ذلك وهو الاستعاذة بالله من همزات الشياطين. والهمز النخس ومنه «مهماز الرائض» وذلك أنهم يحثون الناس على المعاصي بأنواع الوساوس كما يحث الرائض الدابة على المشي بالمهماز وهي حديدة تكون في مؤخر خفه.
عن الحسن أنه ﷺ كان يقول بعد استفتاح الصلاة «اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفخه ونفثه» «١»
فهمزه الجنون ونفثه الشعر ونفخه الكبر. ثم أمره بالتعوّذ من أن يحضروه أصلا كما يقال: أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك. وعن ابن عباس أراد الحضور عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة عند النزع والأولى العموم
عن النبي ﷺ وقد اشتكى إليه رجل أرقا به فقال: إذا أردت النوم فقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون.
قوله حَتَّى إِذا جاءَ قيل: متعلق بقوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وقيل:
ب يَصِفُونَ أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما اعتراض وتأكيد للإغضاء عنهم مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم. والمراد بمجيء الموت أماراته التي تحقق عندها الموت وصارت المعرفة ضرورية فحينئذ يسأل الرجعة ولا ينافي هذا السؤال الرجعة عند معاينة النار كقوله وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ [الانعام: ٢٧] والأكثرون على أنهم الكفار. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها تشمل من لم يزك ولم يحج لقوله وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي [المنافقون: ١٠] وأما وجه الجمع في قوله ارْجِعُونِ مع وحدة المنادي

(١) رواه أبو داود في كتاب الطب باب ١٩. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٣. الموطأ في كتاب الشعر حديث ٩. أحمد في مسنده (٢/ ١٨١) (٤/ ٥٧).

صفحة رقم 134

فقيل: إن الجمعية راجعة إلى الفعل كأنه قال: ارجع مرات ونظيره أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق:
٢٤] أي ألق ألق. وقيل رَبِّ للقسم والخطاب للملائكة القابضين للأرواح أي بحق الله ارجعون والأقرب أن الجمع للتعظيم كقول الشاعر:
ألا فارحموني يا إله محمد وقوله:
فإن شئت حرمت النساء سواكم
عن النبي ﷺ «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا فيقول: إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله. وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت»
قال جار الله: أي لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحا كما تقول لعلي أبني على أس تريد أؤسس أسا وأبني عليه. وقيل: أي فيما خلفت من المال والأولى العموم فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه ويطيعوا فيما عصوا. قيل: كيف سألوا الرجعة وقد علموا صحة الدين بالضرورة ومن الدين أن لا رجعة؟ والجواب بعد تسليم أنهم عرفوا كل الدين أن الإنسان قد يتمنى شيئا مع علمه بتعذره كقول القائل «ليت الشباب يعود» والاستغاثة بجنس هذه المسألة قد تحسن.
قولهم لَعَلِّي ليس المراد به الشك وإنما هو كقول المقصر «مكنوني لعلي أتدارك» مع كونه جازما بأنه سيتدارك. ويحتمل أنهم وإن كانوا جازمين بذلك إلا أن أمر المستقبل مبني على الظن والتخمين دون اليقين فلذلك أوردوا الكلام بصورة الترجي. ثم ردعهم بقوله كَلَّا أي ليس الأمر على ما توهموه من إمكان الرجعة إِنَّها كَلِمَةٌ والمراد بها طائفة من الكلام منتظم بعضها مع بعض وهي قوله ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً هُوَ قائِلُها لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والحيرة عليه وهو قائلها وحده لإيجاب إليها ولا تسمع منه وَمِنْ وَرائِهِمْ الضمير لكل المكلفين أي أمامهم بَرْزَخٌ حائل بينهم وبين الجنة أو النار وبين الجزاء التام إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وذلك البرزخ هو مدة ما بين الموت إلى البعث، ولعل بعض الحجب من الأخلاق الذميمة يندفع في هذه المدة. وقال في الكشاف: حائل بينهم وبين الرجعة ومعناه الإقناط الكلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. ثم وصف يوم البعث بقوله فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ قد مر معناه في أواخر «طه». وقوله فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ليس المراد به نفي النسب لأن ذلك ثابت بالحقيقة فإذن المراد حكمه وما يتفرع عليه من التعاطف والتراحم والتواصل، فقد يكون أحد القريبين في

صفحة رقم 135

الجنة والآخر في النار ويكون بكل مكلف من اشتغال نفسه ما يمنعه من الالتفات إلى أحوال نسبه. عن قتادة: لا شيء أبغض إلى الإنسان من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء. وأما الجمع بين قوله وَلا يَتَساءَلُونَ وبين قوله وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: ١٠] فظاهر لأن هذا في صفة أهل الموقف وذاك في صفة أهل الجنة. ولو سلم أن كليهما في وصف أهل الموقف فلن نسلم اتحاد المواطن والأزمنة وغيرها من الاعتبارات التي يقع فيها التساؤل كحقوق النسب ونحوها.
عن النبي ﷺ «ثلاثة مواطن تذهل فيها كل نفس: حين يرمي إلى كل إنسان كتابه، وعند الموازين وعلى جسر جهنم»
وقد مر مثل اية الموازين في أول «الأعراف» فليرجع إلى هنالك. وقوله فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بدل من خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ولا محل له كالمبدل فإن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى خسران أنفسهم امتناع انتفاعهم بها. وقال ابن عباس: خسروها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. ومعنى تَلْفَحُ تسفع أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم النار، قاله ابن عباس. وعن الزجاج أن اللفح والنفح واحد إلا أن اللفح أشد تأثيرا والكلوح أن يتقلص الشفتان عن الأسنان كالرؤوس المشوية. يروى أن عتبة الغلام مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن.
وعن النبي ﷺ أنه قال: تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته.
وقال الجوهري: الكلوح تكشر في عبوس.
ثم بيّن سبحانه أنه يقال لهم حينئذ تقريعا وتوبيخا أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالت المعتزلة: لو كان فعل التكذيب بخلق الله تعالى لم يكن لهذا التقريع وجه وعورض بالعلم والداعي. وفسرت المعتزلة الشقاوة بسوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها لسوء أعمالهم. وتفسرها الأشاعرة بما كتب الله عليهم في الأزل من الكفر وسائر المعاصي أن يعلموها حتى يؤل حالهم إلى النار. ومعنى غلبة الشقاوة على هذا التفسير ظاهر، وأما على تفسير المعتزلة فقد قال جار الله: معناه ملكتنا وأخذت منا. وقال الجبائي:
أراد طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المسبب على السبب. وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم. وأجيب بأن طلب تلك اللذات لا بد أن ينتهي إلى داعية يخلقها الله فيه بدليل قوله وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي في علم الله وسابق تقديره.
وحمله المعتزلة على الاعتراف بأنهم اختاروا الضلال قالوا: ولو كان الكفر بخلق الله لكانوا بأن يجعلوا ذلك عذرا لهم أولى. وأجيب بأن فحوى الكلام يؤل إلى هذا كما قررنا. عن ابن

صفحة رقم 136

عباس: أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السجدة: ١٢] فيجابون حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة: ١٣] فينادون ألفا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: ١١] فيجابون ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غافر: ١٢] فينادون ألفا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ فيجابون إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف: ٧٧] فينادون ألفا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ [إبراهيم: ٤٤] فيجابون أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم: ٤٤] فينادون ألفا رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً فيجابون أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ [فاطر: ٣٧] فينادون ألفا رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فيجابون اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون: ١٠٨] وهو آخر كلام يتكلمون به، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب أي لا يفهمون ولا يفهمون ولهذا قال جار الله وَلا تُكَلِّمُونِ أي في رفع العذاب وليس نهيا عن الكلام فإنها ليست بدار تكليف ولكنه تنبيه على أن العذاب لا يرفع ولا يخفف. ومعنى اخْسَؤُا انزجروا صاغرين كما تنزجر الكلاب إذا طردت. يقال: خسأ الكلب وخسأ نفسه يتعدى ولا يتعدى وهو المراد في الآية. ثم عدد عليهم بعض قبائحهم في الدنيا بقوله إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي هم الصحابة. وقيل: أهل الصفة خاصة. عن الخليل وسيبويه أن السخري بالضم والكسر مصدر سخر إلا أن في ياء النسب زيادة تأكيد. وعن الكسائي والفراء أن المكسور من الهزء والمضموم من التسخير والاستعباد والمعنى اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذِكْرِي فلم تذكروني حتى تخافوني.
ثم ذكر من حال المؤمنين ما أوجب الحسرة والندامة للساخرين. فمن قرأ أَنَّهُمْ بالكسر على الاستئناف فمعناه ظاهر أي قد فازوا حيث صبروا، ومن قرأ بالفتح فعلى أنه مفعول جزيتهم أي جزيتهم فوزهم. ومن قرأ قالَ فالضمير لله أو لمن أمر بسؤالهم من الملائكة، ومن قرأ قل فالخطاب للملك أو لبعض رؤساء أهل النار. والغرض من هذا السؤال التوبيخ والتبكيت فقد كانوا لا يعدّون اللبث إلا في الدنيا ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم فيها خالدون سئلوا كَمْ لَبِثْتُمْ تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ولا سيما إذا كان الأول أيام سرور والثاني أيام غم وحزن. واختلفوا في الأرض فقيل: وجه الأرض حين ما كانوا أحياء فإنهم زعموا أن لا حياة سواها، فلما أحياهم الله تعالى وعذبوا في النار سئلوا عن ذلك توبيخا. وقال آخرون: المراد جوف الأرض وهو القبر لظاهر لفظة «في» ولقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ

صفحة رقم 137

[الروم: ٥٥] وقوله عَدَدَ سِنِينَ بدل من مميزكم. وقيل: تمييز. احتج بعض من أنكر عذاب القبر بأن قوله فِي الْأَرْضِ يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض وزمان كونهم أمواتا في بطن الأرض. فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أن مدة مكثهم في الأرض طويلة فما كانوا يقولون لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وأجيب بأن الجواب لا بد أن يكون على حسب السؤال وإنما سئلوا عن موت لا حياة بعده إلا في الآخرة وذلك لا يكون إلا بعد عذاب القبر. ويحتمل أن يكونوا سئلوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض، فصح أن يكون جوابهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عند أنفسنا.
وليس هذا من قبيل الكذب إذ لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال فقالوا: إلا نعرف من عدد السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم. وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي ليس من شأننا أن نعدّها لما نحن فيه من العذاب فاسأل من يقدر أن يلقى إليه فكره، أو اسأل الملائكة الذين يعدّون أعمال العباد ويحصون أعمالهم.
وعن ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين. وقيل: أرادوا بقولهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه وعرفوه من داوم العذاب. وقد صدّقهم الله في ذلك حيث قال إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها بقوله لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لو علمتم البعث والحشر لما كنتم تعدونه طويلا. ثم زاد في التوبيخ بقوله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي عابثين أو لأجل العبث وهو الفعل الذي لا غاية له صحيحة. وجوّزوا أن يكون قوله وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ معطوفا على عَبَثاً أي للعبث ولترككم غير مرجوعين وفيه دلالة على وجوب وقوع القيامة فلولاها لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء. ثم نزه ذاته عن كل عيب وعبث قائلا فَتَعالَى الآية ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة أو الخير منه أو باعتبار من استوى عليه كما يقال «بيت كريم» إذا كان ساكنوه كراما. وقرىء الْكَرِيمِ بالرفع وهو ظاهر. ثم زيف طريقة المقلدة من أهل الشرك وقوله لا برهان له به كقوله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [آل عمران: ١٥١] وهو صفة جيء بها للتأكيد لا أن بعض الآلهة قد يقوم على وجوده برهان. وجوّز جار الله أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء كقول القائل: من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان إليه منه فالله مثيبه. ومعنى حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أنه بلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله. وقرىء إِنَّهُ لا يُفْلِحُ بفتح الهمزة أي حسابه عدم فلاحه فوضع الْكافِرُونَ موضع الضمير. جعل فاتحة السورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وأورد في خواتيهما إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فشتان ما بين الفريقين. وحين أثنى على المؤمنين في أثناء الكلام بأنهم يقولون رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ نبه

صفحة رقم 138

في آخر السورة على أنه قول ينبغي أن يواظب المكلف عليه ففيه الانقطاع إلى الله والإعراض عمن سواه والله المستعان.
التأويل:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فيه أن نفخة العناية الأزلية إذا نفخت في صور القلب قامت القيامة وانقطعت الأسباب فلا يلتفت إلى أحد من الأنساب، لا إلى أهل ولا إلى ولد لاشتغاله في طلب الحق واستغراقه في بحر المحبة، فلا يقع بينهم التساؤل عما تركوا من أسباب الدنيا ولا عن أحوال أهاليهم وأخدانهم وأوطانهم إذا فارقوها لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
في طلب الحق شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: ٣٧] عن طلب الغير فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لأنهم إذا خفت موازينهم عن طلب الحق وانقطع عليه الطريق بنوع من التعلقات ورجع القهقرى بطل استعداده في الطلب، فإن الإنسان كالبيضة المستعدة لقبول تصرف دجاجة الولاية فيه وخروج الفرخ فيها، فما لم تتصرف فيها الدجاجة يكون استعداده باقيا، فإذا تصرفت الدجاجة فيها وانقطع تصرفها عنها بإفساد البيضة فلا ينفعها التصرف بعد ذلك لفساد الاستعداد ولهذا قالت المشايخ: مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة. ولهذا قال فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ وأجيبوا بقوله اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ لأنه ليس من سنتنا إصلاح الاستعداد بعد إفساده إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي هم العلماء بالله النصحاء لأجله فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا فضربتم أنفسكم على سيوف هممهم العلية حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بهممهم وبيد الرد ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ لأن قلوبكم قد ماتت وكثرة الضحك تميت القلب جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا فيه أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة مع الله ينتفعون بإنكار منكريهم، ومثله حال أهل الشقاء في الجانب الآخر وهو الاستضرار لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ أي لا يظهر عليه برهان العبادة وهو النور والضياء والبهاء والصفاء وإن تقرب إلى ذلك الذي عبده من دون الله بأنواع القربات.

صفحة رقم 139
غرائب القرآن ورغائب الفرقان
عرض الكتاب
المؤلف
نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
تحقيق
زكريا عميرات
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1416
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية