آيات من القرآن الكريم

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ
ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يلي:
١- يتمنى الإنسان الكافر والمؤمن المقصر الرجعة إلى دار الدنيا ليتدارك ما فاته فيها إما من الإيمان أو العمل الصالح، ولا يطلب الرجعة إلا بعد أن يستيقن العذاب.
٢- لا رجعة بعد البعث أو دنو الموت إلا إلى الآخرة.
٣- يستمر الكافرون والعصاة في عذاب القبور أو البرزخ إلى يوم القيامة، قالت عائشة رضي الله عنها: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور، تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أو دهم، حية عند رأسه، وحية عند رجليه، يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
موازين النجاة في حساب الآخرة
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠١ الى ١١١]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥)
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)

صفحة رقم 102

الإعراب:
فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ خالِدُونَ بدل من صلة الَّذِينَ أو خبر ثان لأولئك فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا بكسر السين وقرئ بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد، وهما من سخر يسخر: من الهزء واللعب.
بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ما: مصدرية، وأَنَّهُمْ في موضع نصب ب جَزَيْتُهُمُ لأنه مفعول ثان، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: جزيتهم بصبرهم لأنهم الفائزون. وجَزَيْتُهُمُ ضمير فصل عند البصريين، وعماد عند الكوفيين.
البلاغة:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ.. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ.. بين الآيتين مقابلة.
أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ فيها قصر.
يَتَساءَلُونَ، الْمُفْلِحُونَ، خالِدُونَ، كالِحُونَ، تُكَذِّبُونَ، ظالِمُونَ، تُكَلِّمُونِ، تَضْحَكُونَ، الْفائِزُونَ سجع غير متكلف.
المفردات اللغوية:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ الصُّورِ بوق ينفخ فيه نفختين، النفخة الأولى لتموت المخلوقات، والثانية لتحيا المخلوقات من القبور لقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ
[الزمر ٣٩/ ٦٨] والمراد هنا النفخة الثانية لقيام الساعة. وقيل: الصور جمع صورة كبسر وبسرة، والمراد: نفخ الروح في الأجساد. فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ تنفعهم لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبينه، وقيل: لا أنساب يفتخرون بها

صفحة رقم 103

وَلا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغاله بنفسه، وهو لا يناقص قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الطور ٥٢/ ٢٥] لأن الآية هنا عند النفخة، وذلك بعد المحاسبة ودخول أهل الجنة وأهل النار النار. أو لا يتساءلون عن الأنساب.
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي موزوناته بالحسنات من عقائد وأعمال، أي فمن كانت له عقائد وأعمال صالحة يكون لها وزن عند الله وقدر. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة والدرجات. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ موزوناته بالسيئات، أي ومن لم يكن له وزن وهم الكفار، لقوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف ١٨/ ١٠٥]. خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها حيث ضيعوا زمان استكمالها. تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تحرقها، واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيرا.
كالِحُونَ عابسون متقلصو الشفاه عن الأسنان، وهذا هو الكلوح.
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي من القرآن، وهذا على إضمار القول أي يقال لهم: أَلَمْ تَكُنْ.
فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ تأنيب وتذكير لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله. شِقْوَتُنا وشقاوتنا بمعنى واحد: ضد السعادة، أي صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة، والمراد: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، وسميت شقوة لأنهما يؤديان إليها. ضالِّينَ تائهين عن الحق والهداية. فَإِنْ عُدْنا إلى التكذيب. فَإِنَّا ظالِمُونَ لأنفسنا.
قالَ مالك خازن النار اخْسَؤُا فِيها اسكتوا سكوت ذلة وهوان، أو اقعدوا في النار أذلاء وَلا تُكَلِّمُونِ في رفع العذاب عنكم. إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي أي المؤمنون.
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا هزءا، مثل بلال وصهيب وعمار وسلمان. حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي خوف عقابي، من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم. تَضْحَكُونَ استهزاء بهم. جَزَيْتُهُمُ النعيم المقيم. بِما صَبَرُوا بصبرهم على استهزائكم بهم وأذاكم إياهم. الْفائِزُونَ الظافرون بمطلوبهم.
المناسبة:
بعد أن قال الله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي إن هناك حاجزا إلى يوم القيامة، ذكر أحوال ذلك اليوم، من عدم الاعتداد بالأنساب، وجعل الحسنات أساس الفوز في الآخرة، والسيئات سبب دخول جهنم.

صفحة رقم 104

التفسير والبيان:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ أي إذا نفخ في الصور النفخة الثانية وهي نفخة النشور، وقام الناس من القبور، فلا تنفعهم الأنساب والقرابات بالرغم من وجود التعاطف والتراحم لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم، وانشغال كل إنسان بنفسه، ولا يسأل القريب قريبه، لاشتغاله بنفسه، كما جاء في قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس ٨٠/ ٣٤- ٣٧] وقوله سبحانه:
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج ٧٠/ ١٠- ١١] أي لا يسأل القريب قريبه، وهو يبصره.
هذا عند النفخة، أما بعد القرار في الجنة أو النار، فيسأل أهل الجنة بعضهم عن بعض، كما في قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات ٣٧/ ٢٧].
وجاء في السنة ما أخرجه الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فاطمة بضعة مني، يغيظني ما يغيظها، وينشطني ما ينشطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري».
وأصل هذا الحديث
في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فاطمة بضعة مني، يريبني ما يريبها، ويؤذيني ما آذاها».
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: «ما بال رجال يقولون: إن رحم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تنفع قومه؟ بلى، والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرط «١» لكم إذا جئتم».

(١) أنا فرطكم: أي متقدمكم، يقال: فارط وفرط: إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء.

صفحة رقم 105

وروى الطبراني والبزار والبيهقي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: أما والله، ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي».
ثم شرح أحوال السعداء والأشقياء فقال:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي من رجحت حسناته على سيئاته، ولو بواحدة، فأولئك الذين فازوا بالمطلوب، فنجوا من النار، وأدخلوا الجنة.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي ثقلت سيئاته على حسناته، فأولئك الذين خابوا وهلكوا وباءوا بالصفقة الخاسرة، بأن صارت منازلهم للمؤمنين. وهذه هي الصفة الأولى لأهل النار، ثم أتبعها بصفات ثلاث أخرى، فصارت أربعا:
١- فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ أي ماكثون في جهنم على الدوام، مقيمون فيها إلى الأبد، وفيه دلالة بيّنة على خلود الكفار في النار.
٢- تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحرق النار وجوههم، وتأكل لحومهم وجلودهم كما قال تعالى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم ١٤/ ٥٠] وقال سبحانه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ، وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ [الأنبياء ٢١/ ٣٩]. وإنما خص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء.
أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ: تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.

صفحة رقم 106

٣- وَهُمْ فِيها كالِحُونَ عابسون متقلصو الشفاه عن الأسنان. فالكلوح:
أن تتقلص الشفتان وتتباعدا عن الأسنان، كما ترى الرؤوس المشوية.
ثم ذكر الله تعالى ما يقال لأهل النار تقريعا وتوبيخا على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم فقال:
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي ألم تكن آياتي من القرآن تتلى عليكم للتذكير والموعظة وإزالة الشّبه، فتكذبون بها، وتعرضون عنها. وهذا كما قال تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك ٦٧/ ٨- ٩] وقال سبحانه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً، حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر ٣٩/ ٧١].
وهذا من المخطط العام لرسالات الأنبياء وإنزال الكتب، كما جاء في قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ١٥] وقوله عز وجل: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء ٤/ ١٦٥].
فأجابوا عن السؤال هنا:
قالُوا: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا، وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي غلبت علينا شهوات نفوسنا وملذاتنا، بحيث صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة، وأخطأنا طريق الحق والهدى، كما قال تعالى: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر ٤٠/ ١١].
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها، فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أي يا ربنا أخرجنا من

صفحة رقم 107

النار، وارددنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا، فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة.
فأجابهم الله تعالى بقوله:
قالَ: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ أي قال الله للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى الدنيا: امكثوا فيها- أي في النار- أذلاء صاغرين مهانين، واسكتوا ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا، فإنه لا جواب لكم عندي، ولا رجعة إلى الدنيا.
ثم ذكر سبب عذابهم فقال:
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا، فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أي إنه كان جماعة من عبادي المؤمنين يقولون: يا ربنا صدقنا بك وبرسلك، وبما جاؤوا به من عندك، فاستر ذنوبنا، وارحم ضعفنا، فأنت خير من يرحم.
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي، وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ أي فما كان منكم إلا أن سخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي، حتى حملكم بغضهم على نسيان ذكري، وعدم الاهتمام بشأني، ولم تخافوا عقابي، وكنتم تضحكون استهزاء من صنيعهم وعبادتهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ [المطففين ٨٣/ ٢٩- ٣٠] أي يلمزونهم استهزاء.
ثم أخبر الله تعالى عما جازى به عباده الصالحين فقال:
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ أي إني جازيتهم في يوم القيامة بصبرهم على أذاكم لهم واستهزائكم بهم بالفوز بالسعادة والسلامة، والنعيم

صفحة رقم 108

المقيم في الجنة، والنجاة من النار، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين ٨٣/ ٣٤- ٣٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إذا حدثت النفخة الثانية ليوم القيامة شغل كل امرئ بنفسه، ولم يلتفت إلى أحد من أقربائه، ولو كانوا من الوالدين والأولاد والزوجات، ولا تنفع أحدا روابط الدم والنسب التي كانت تربط الأسر فيما بينهم في الدنيا.
لكن جاء في الحديث الثابت كما تقدم استثناء صلة النسب والقرابة بالنبي صلّى الله عليه وسلم.
٢- إن ميزان النجاة من النار والفوز بالجنة هو رجحان الحسنات على السيئات، ولو بواحدة. وإن سبب اقتحام النار هو العكس أي رجحان السيئات على الحسنات.
٣- لأهل النار أثناء العذاب صفات أربع: هي خسارة أنفسهم أي غبنها بأن صارت منازلهم للمؤمنين، وخلودهم في نار جهنم، وإضرام النار في أجسادهم حتى تأكل لحومهم وجلودهم، وظهور أمارات العذاب على الأوجه بالكلوح: وهو تقلص الشفاه عن الأسنان، كالرءوس المشوية.
٤- اعترف أهل النار حين اقتحام العذاب بالأسباب التي أدت بهم إلى العقاب: وهي غلبة أهوائهم وشهواتهم على نفوسهم، حتى ساءت أحوالهم، وصاروا إلى سوء العاقبة، وضلالهم عن الحق والهداية، وظلمهم أنفسهم، وتكذيبهم بآيات ربهم، واستهزاؤهم من المؤمنين، ونسيانهم ذكر الله والخوف من عقابه.

صفحة رقم 109
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية