
تَضْحَكُونَ
(١١٠) وذلك غاية الاستهزاء. والمعنى: اسكتوا عن الدعاء بقولكم:
رَبَّنا أَخْرِجْنا ألخ لأنكم كنتم تستهزءون بالداعين بقولهم: رَبَّنا آمَنَّا ألخ وتتشاغلون باستهزائهم حتى أنساكم الاستهزاء بهم عن توحيدي وطاعتي.
قال مقاتل: إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلق كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويضحكون بالفقراء منهم مثل: بلال،
وخباب، وعمار، وصهيب. إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١).
وقرأ حمزة والكسائي «إنهم» بكسر الهمزة تعليل للجزاء. والباقون بالفتح ثاني مفعولي «جزيت» فمعنى الأول: فإنهم قد فازوا بسبب صبرهم على أذيتكم إياهم فجوزوا أحسن الجزاء.
ومعنى الثاني: إنهم انتفعوا بأذيتكم إياهم بسبب صبرهم على أذيتكم فإني جزيتهم اليوم بفوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به. قالَ أي الله لهم بلسان مالك توبيخا كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي في الدنيا التي تطلبون أن ترجعوا إليها عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) تمييز لكم. والغرض من هذا السؤال: التبكيت، لأنهم كانوا لا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا، ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت، ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم مخلدون فيها سألهم الله كم لبثتم في الأرض فإنهم فيها تمكنوا من العلم والعمل تذكيرا لهم بأن الذي ظنوه طويلا فهو قليل بالنسبة إلى ما أنكروه، فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا من حيث أيقنوا خلافه قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ يشكون في ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بالنسيان حيث قالوا: فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) أي الذين يحصون الأعمال وأوقات الحياة والممات، أو الذين يعدون أيام الدنيا وساعاتهم، فإنا قد نسيناه. وقرئ «العادين» بتخفيف الدال أي الظلمة، رؤساءنا الذين أضلونا. وقرئ «العاديين» أي القدماء المعمرين. قالَ الله لهم بلسان مالك: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أي ما لبثتم في الدنيا إلا زمانا قليلا لو علمتم البعث فإن الدنيا قليل أيامها في مقابلة أيام الآخرة، ولكنكم لما أنكرتم ذلك كنتم تعدون الدنيا طويلا، ولو علمتم أن لبثكم في الآخرة لا نهاية له لأصلحتم أعمالكم في الدنيا، ولتقربتم بها إلى الله تعالى.
وقرأ الأخوان «قل كم لبثتم؟» «قل: إن لبثتم» بالأمر في الموضعين خطاب للملك وابن كثير كالأخوين في الموضع الأول فقط. والباقون قال بالماضي في الموضعين: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي ألم تعلموا يا أهل مكة شيئا فحسبتم إنما خلقناكم لأجل العبث، بل لحكمة بالغة فخلقناكم بلا معنى يضركم أو ينفعكم حتى عشتم كما تعيش البهائم، فما تقربتم إلينا بالأعمال الصالحة حتى أنكرتم البعث وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فلولا القيامة لما تميّز المطيع من العاصي، والصديق من الزنديق. فخلقكم بغير بعث من نوع العبث، وإنما خلقناكم لنعيدكم ونجازيكم على أعمالكم.

وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم. فَتَعالَى اللَّهُ أي تبرأ الله عن العبث وعن خلو أفعاله عن المصالح والغايات الحميدة الْمَلِكُ أي المتصرف في كل شيء الْحَقُّ أي الثابت الذي لا يزول ملكه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فإن كل ما عداه عبيده. رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) أي مالك السرير الحسن.
وقرئ «الكريم» بالرفع صفة ل «رب» أي الجامع لصفات الكمال. وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وقوله: لا بُرْهانَ صفة لازمة ل «ألها». وقوله:
فَإِنَّما جواب الشرط. أي ومن يعبد إلها آخر لا حجة له بعبادته، فهو تعالى مجاز له في الآخرة بقدر ما يستحقه ويبلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله تعالى. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) والجمهور على كسر همزة أنه على الاستئناف المفيد للعلة.
وقرأ الحسن وقتادة بفتح الهمزة فيكون خبر حسابه، المعنى: حسابه في الآخرة عدم الفلاح. وَقُلْ يا أكرم الرسل: رَبِّ اغْفِرْ أي تجاوز عني وعن أمتي، وَارْحَمْ أمتي فلا تعذبهم وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨) أي أرحم الراحمين.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: ١] حتى ختم العشر»
«١».
وروي: «أن أول سورة قَدْ أَفْلَحَ وآخرها:
من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح»