
المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى ما دلَّ على قدرته وحكمته، وجعلها كالمقدمة لإِثبات البعث والمعاد، وختم السورة بدعوة المؤمنين إلى عبادة الله الواحد الأحد.
اللغَة: ﴿سُلْطَاناً﴾ حجة وبرهاناً ﴿يَسْطُونَ﴾ يبطشون، والسطوة: القهر وشدة البطش يقال: سطا يسطو إذا بطش به ﴿يَسْلُبْهُمُ﴾ سلب الشيء: اختطفه بسرعة ﴿قَدَرُواْ﴾ عظموا ﴿يَصْطَفِي﴾ يجتبي ويختار ﴿حَرَجٍ﴾ ضيق ﴿مِّلَّةَ﴾ الملة: الدين.
التفسِير: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ استفهام تقريري أي ألم تعلم ايها السامع أن الله بقدرته أنزل من السحاب المطر؟ ﴿فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً﴾ أي فأصبحت الأرض منتعشة خضراء بعد يبسها ومحولها، وجاء بصيغة المضارع ﴿فَتُصْبِحُ﴾ لاستحضار الصورة وإفادة بقائها كذلك مدة من الزمن ﴿إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ قال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم

من القنوط، والغرض من الآية إقامة الدليل على كمال قدرته وعلى البعث والنشور فمن قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت ولها قال ﴿وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي جميع ما في الكون ملكه جل وعلا، خلقاً وملكاً وتصرفاً، والكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد﴾ أي هو تعالى غني عن الأشياء كلها لا يحتاج لأحد، وهو المحمود في كل حال ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض﴾ تذكير بنعمة أُخرى أي ألم تر أيها العاقل أن الله سخر لعباده جميع ما يحتاجون إليه من الحيوانات والأشجار والأنهار والمعادن ﴿والفلك تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ﴾ أي وسخر السفن العظيمة المثقلة بالأحمال والرجال تسير في البحر لمصالحكم بقدرته ومشيئته ﴿وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض﴾ أي ويمسك بقدرته السماء كي لا تقع على الأرض فيهلك من فيها ﴿إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ أي إلا إذا شاء وذلك عند قيام الساعة ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي وذلك من لطفه بكم ورحمته لكم حيث هيأ لكم أسباب المعاش فاشكروا آلاءه ﴿وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ﴾ أي أحياكم بعد أن كنتم عدماً ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ أي يميتكم عند انتهاء آجالكم ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ أي بعد موتكم للحساب والثواب والعقاب ﴿إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ﴾ أي مبالغ في الجحود لنعم الله قال ابن عباس: المراد بالإِنسان الكافر والغرض من الآيات توبيخ المشركين كأنه يقول: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف! ﴿ {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾ أي لكل نبي من الأنبياء وأمةٍ من الأمم السابقين وضعنا لهم شريعة ومتعباداً ومهاجاً كقوله ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: ٤٨] ﴿هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ أي هم عاملون به أي بذلك الشرع ﴿فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر﴾ أي لا ينازعك أحدٌ من المشركين فيما شرعتُ لك ولأمتك فقد كانت الشرائع في كل عصر وزمان، وهو نهيٌ يراد به النفي أي لا ينبغي منازعةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه ﴿وادع إلى رَبِّكَ﴾ أي أدعُ الناس إلى عبادة ربك وإلى شريعته السمحة المطهرة ﴿إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي فإِنك على طريق واضحٍ مستقيم، موصل إلى جنات النعيم ﴿وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي وإِن خاصموك بعد ظ هور الحق وقيام الحجة عليهم فقل لهم: الله أعلم بأعمالكم القبيحة وبما تستحقون عليها من الجزاء، وهذا وعيد وإِنذار ﴿الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أي الله يفصل في الآخرة بين المؤمنين والكافرين فيما كانوا فيه يختلفون من أمر الدين، فيعرفون حينئذٍ الحق من الباطل ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض﴾ الاستفهام تقريري أي لقد علمت يا محمد أنَّ الله أحاط علمه بما في السماء والأرض فلا تخفى عليه أعمالهم ﴿إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ﴾ أي إن ذلك كله مسطر في اللوح المحفوظ ﴿إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي إن حصر المخلوقات تحت علمه وإِحاطته سهلٌ عليه يسيرٌ لديه ثم بيَّن سبحانه ما يقدم عليه الكفار مع عظيم نعمه، ووضوح دلائله فقال ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي ويعبد كفار قريش غير الله تعالى أصناماً لا تنفع ولا تسمع ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ أي ولا برهان من جهة الوحي والشرع ﴿وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي وما
صفحة رقم 273
ليس عندهم به علم من جهة العقل وإنما هو مجرد التقليد الأعمى للأباء ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ أي ليس لهم ناصر يدفع عنهم عذاب الله ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ أي وإذا تليت على هؤلاء المشركين آيات القرآن الواضحة الساطعة وما فيها من الحجج القاطعة على وحدانية الله ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر﴾ أي ترى في وجوه الكفار الإِنكار بالعبوس والكراهة ﴿يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا﴾ أي يكادون يبطشون بالمؤمنين الذين يتلون عليهم القرآن ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار﴾ أي قل لهم: هل أخبركم بما هو أسوأ أو أشنع من تخويفكم للمؤمنين وبطشكم بهم؟ إنه نار جهنم وعذابها ونكالها ﴿وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ﴾ أي وعدها الله للكافرين المكذبين بآياته ﴿وَبِئْسَ المصير﴾ أي بئس الموضع الذي يصيرون إليه ﴿ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ﴾ أي يا معشر المشركين ضرب الله مثلاً لما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام فتدبروه حق التدبر واعقلوا ما يقال لكم ﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ﴾ أي إنَّ هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها وإن اجتمعت على ذلك، فكيف يليق بالعاقل جعلها آلهة وعبادتها من دون الله} قال القرطبي: وخص الذباب لأربعة أمور: لمهانته، وضعفه، ولاستقذاره، وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوهم من دون الله على خلق مثله ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلة معبودين، وأرباباً مطاعين؟ وهذا من أقوى الحجة وأوضح البرهان ﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ أي لو اختطف الذباب وسلب شيئاً من الطيب الذي كانوا يضمخون به الأصنام لما استطاعت تلك الآلهة استرجاعه منه رغم ضعفه وحقارته ﴿ضَعُفَ الطالب والمطلوب﴾ أي ضعف العابد الذي يطلب الخير من الصنم، والمطلوب الذي هو الصنم، فكل منهما حقير ضعيف ﴿مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أي ما عظموه حق تعظيمه حيث جعلوا الأصنام - على حقارتها - شركاء للقوي العزيز ولهذا قال ﴿إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي هو تعالى قادر لا يعجزه شيء، غالب لا يغلب، فكيف يسوون بين القوي العزيز والعاجز الحقير؟! ﴿الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس﴾ أي الله يختار رسلاً من الملائكة ليكونوا وسطاء لتبليغ الوحي إلى أنبيائه، ويختار رسلاً من البشر لتبليغ شرائع الدين لعباده، والآية ردٌّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أي يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ أي يعلم ما قدموا وما أخَّروا من الأفعال والأقوال والأعمال ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي إلأيه وحده جل وعلا ترد أمور العباد فيجازيهم عليها ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا﴾ أي صلوا لربكم خاشعين، وإِنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنهما أشرف أركان الصلاة ﴿وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ﴾ أي أفردوه بالعبادة ولا تعبدوا غيره ﴿وافعلوا الخير﴾ أي افعلوا ما يقربكم من الله من أنواع الخيرات والمبرات كثلة الأرحام، ومواساة الأيتام، والصلاة بالليل والناس نيام ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي لتفوزوا وتظفروا بنعيم الآخرة {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ
صفحة رقم 274
جِهَادِهِ} أي جاهدوا بأموالكم وأنفسكم لإِعلاء كلمة الله حقَّ الجهاد باستفراغ الوسع والطاقة ﴿هُوَ اجتباكم﴾ أي هو اختاركم من بين الأمم لنصرة دينه، وخصكم بأكمل شرع وأكرم رسول ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ أي وما جعل عليكم في هذا الدين من ضيق ولا مشقة، ولا كلفكم مالا تطيقون بل هي الحنيفية السمحة ولهذا قال ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ أي دينكم الذي لا حرج فيه هو دين ابراهيم فالزموه لأنه الدين القيم كقوله
﴿دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ [الأنعام: ١٦١] ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا﴾ أي الله سماكم المسلمين في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن، ورضي لكم الإِسلام ديناً قال الإِمام الفخر: المعنى انه سبحانه في سائر المتقدمة على القرآن، بيَّن فضلكم على الأمم وسمَّاكم بهذا الاسم الأكرم، لأجل الشهادة المذكورة، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه ﴿لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ أي ليشهد عليكم الرسول بتبليغه الرسالة لكم وتشهدوا أنتم على الخلائق أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم ﴿فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ أي وإذْ قد اختاركم الله لهذه المرتبة الجليلة فاشكروا الله على نعمته بأداء الصلاة ودفع الزكاة ﴿واعتصموا بالله﴾ أي استمسكوا بحبله المتين وثقوا واستعينوا بالله في جميع أموركم ﴿هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير﴾ أي نعم هو تعالى الناصر والمعين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الامتنان بتعداد النعم ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض والفلك تَجْرِي..﴾ الخ وكذلك الاستفهام الذي يفيد التقرير.
٢ - الطباق ﴿يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾.
٣ - صيغة المبالغة ﴿إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ﴾ أي مبالغ في الجحود.
٤ - النهي الذي يراد منه الشيء ﴿فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ﴾ أي لا ينبغي لهم منازعتك فقد ظهر الحق وبان.
٥ - الاستعارة اللطيفة ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر﴾ أي تستدل من وجوههم على المكروه وإرادة الفعل القبيح مثل قولهم: عرفت في وجه فلان الشر.
٦ - التمثيل الرائع ﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً﴾ أي مثل الكفار في عبادتهم لغير الله كمثل الأصنام التي لا تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة قال الزمخشري: سميت القصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال.
٧ - المجاز المرسل ﴿اركعوا واسجدوا﴾ من إطلاق الجزء على الكل أي صلوا لأن الركوع والسجود من اركان الصلاة.
٨ - ذكر العام بعد الخاص لإِفادة العموم مع العناية بشأن الخاص ﴿اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير﴾ بدأ بخاص، ثم بعام، ثم بأعم.