
قوله تعالى ذكره: ﴿الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾. إلى قوله: ﴿لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾.
أي: السلطان لله وحده يوم مجيء الساعة لا ينازعه فيه أحد إذ قد كان في الدنيا ملوك يدعون ذلك، قد ملكهم الله أمر عباده، فيوم القيامة لا يملك الله فيه أحداً شيئاً من الأمور، بل هو المتفرد بذلك، والحاكم فيه كله، وقد كان الملك كله لله في الدنيا، إلا أنه تعالى ملك قوماً أمور عباده، وليس يكون ذلك في الآخرة، لا يملك أحد أمر أحد.
﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ أي: بين خلقه، المؤمن والكافر، ﴿فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم﴾ يومئذ ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا فأولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾، أي: مذل لهم في جهنم.
ثم قال تعالى: ﴿والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ﴾.
أي: والذين فارقوا أوطانهم وهجروا بلدهم في رضى الله ثم قتلوا في ذلك أو ماتوا ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً﴾ وهو الثواب الجزيل، ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ أي: خير من بسط رزقه على أهل طاعته.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب النبي ﷺ اختلفوا في حكم من مات في سبيل الله، فقال بعضهم: الميت والمقتول منهم سواء، وقال آخرون: بل

المقتول أفضل فأعلمهم الله جلّ ذكره بهذه الآية أن المقتول في سبيل الله والميت فيه سوا عنده في الثواب.
ثم قال: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ﴾.
يعني: الجنة. وقال: ﴿وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ أي: " لعليم بمن هاجر في سبيله ممن خرج لغنمية أو عرض من أعراض الدنيا ". " حليم " عمن عصاه من خلقه لا يعاجله بالعقوبة ثم قال: ﴿ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾.
أي: الأمر ذلك وعن عاقب.
وقيل: معناه: هذا لهؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ولهم مع ذلك القضاء على المشركين الذين بغوا عليهم، وآخرجوهم من ديارهم.
قال ابن جريج في الآية: هم المشركون، بغوا على النبي ﷺ وأخرجوه، فوعده الله أن ينصره وقال: إن هذه الآية نزلت في قوم من المشركين، لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، فكره المسلمون القتال في الشهر الحرام، وسألوا المشركين أن يكفروا عن القتال، فأبى المشركون ذلك فقاتلوهم وبغوا عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم، فأنزل الله الآية فيكون معنى ﴿ثُمَّ بُغِيَ﴾: بدئ بالقتال وهو له كاره لينصرنه الله على من بَغَى عليه. وسمى الجزاء عقوبة لأنه جزاء على عقوبة فسمي

باسمه، كما قال: ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] و ﴿مَكَرَ الله﴾ [آل عمران: ٥٤] وشبهه، ومثل ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾
[الشورى: ٤٠] فالأولى: سيئة والثانية حسنة، إلا أنها سميت سيئة، لأنها وقعت إساءة بالمفعول، لأنه فعل به مايسوء، كذلك سمي الجزاء على العقوبة عقوبة لأنه عقوبة بالمبتدئ بالشر.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾.
أي: لذو عفو وصفح لمن انتصر به من ظلمه من بعدما ظلمه الظالم، غفور لمن فعل بمن ظلمه.
ثم قال: ﴿ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ أي: يقول الله جلّ ذكره: هذا النصر الذي أنصر من بُغِيَ عليه بأني قادر على ما شاء، ومن قدرتي أني أولج الليل في النهار وأولج النهار في الليل. ومعناه: يدخل ما انتقص/ من ساعات الليل في ساعات النهار، وما انتقص من ساعات النهار في ساعات الليل، فما نقص من طول هذا، زاد في طول هذا.
فالبقدرة: التي فعل هذا، ينصر محمداً وأصحابه على الذين بغوا عليهم،

وأخرجوهم من ديارهم.
ثم قال: ﴿وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أي، وفعل ذلك بهم أيضاً، لأنه ذو سمع لما يقولون من قول خفي وغيره، عليم بكل شيء.
ثم قال: ﴿ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾.
أي: ذلك الفعل الذي فعل من إيلاجه الليل في النهار، والنهار في الليل، ونصره أولياءه لعى من بغى عليهم، لأنه الحق الذي لا مثل له، ولا شريك، وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون آلهة من دونه، هو الباطل الذي لا يقدر على شيء.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير﴾.
أي: هو العلو على كل شيء وهو فوق كل شيء، وكل شيء دونه.
" والكبير: " أي: العظيم الذي لا شيء أعظم منه.
قال ابن جريج: " هو الباطل " يعني: الشيطان.
ثم قال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً﴾.
" فتصبح " مرفوع لأن صدر الكلام واجب، ولس استفهام، إنما هو تنبيه، هذا قول الخليل.
وقال الفراء: " ألم تر " خبر، كما تقول في الكلام: أعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا. وخص ذكر الصباح بهذا دون سائر أخواتها، لأن رؤية الخضرة بالنهار أوضح

منه بالليل، والمعنى: أن الأرض صارت على هذا بالليل والنهار، فتصبح بمعنى فأصبحت، وهذه أصول من باب صار وأخواتها، وأعلم أن أصل أصبح وأمسى أن تقول: أصبح الرجل وأمسى أي: وافق الصباح ووافق المساء، وكذلك أصبحنا وأمسينا، معناه: دخلنا في الصباح والمساء.
ثم قالوا: أصبح زيد عالماً، وأمسى جاهلاً. أي: تبين ذلك منه في وقت الصباح والمساء ولم يرد أنه يكون في الصباح على حال لا يكون عليها في المساء، وقولهمه ظل فلان قائماً، فلا يكون ظل إلا بالنهار، كما أن بات بالليل، واشتقاقه من الظل، والظل إنما يكون بالنهار، فلذلك لم يقع " ظل " إلا بالنهار.
وقولهم: " صار زيد عالماً. أصلها من صرت إلى موضع كذا، أي: بلغته، فالمصير انقطاع البلوغ. ومنه قوله: " إليه المصير "، أي: غاية البلوغ والانتهاء، ثم اتسع فيها حتى جعلت للخبر، فقيل: صار عبد الله عالماً أي: بلغ هذه الصفة، فلذلك كانت للشيء الذي ينقطع إلى وقتك تقول: صار عبد الله رجلاً. أي: بلغ ذلك هذا الوقت، وليست بمنزل " كان " التي توجب علمه قبل ذلك، فصارت لانقطاع الغاية، وانطقاع الغاية وقت خبرك، فإن أردت أن تخبر بـ " صار " إنما هو كان قبل وقتك، أدخلت " كان " فقلت: كان زيد قد صار عالمً، ورأيته أمسى صار عالماً.