
الاحتمال. وفضلا عن هذا فالرواية في حالة صحتها تنطوي على دليل جديد على عدم صحة رواية الغرانيق لأنها تبعد وقت نزولها كثيرا عن وقت وقوع الحادث الذي ذكر في رواية الغرانيق والله تعالى أعلم.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠)
. (١) ومن عاقب بمثل ما عوقب به: ومن قابل البغي والعدوان والأذى بالمثل.
في هذه الآيات:
١- تطمين وبشرى للمهاجرين: فالذين هاجروا تمسكا بدينهم الحقّ فقتلوا أو ماتوا، لهم من الله أعظم الأجر والكرامة وليرزقنهم الله أحسن الرزق وهو خير من يستطيع ذلك. وليدخلنهم المدخل الذي يرضونه وتقرّ به أعينهم، وهو العالم بنوايا الناس وأعمالهم والذي يعاملهم بمقتضى حلمه الواسع.
٢- وعد رباني بتأييد ونصر الذين يبغي الناس عليهم ويظلمونهم. إذا استعملوا حقّهم المشروع بمقابلة البغي والأذى بالمثل. وتثبيت لهم على موقفهم.
فالله العفوّ الغفور يشملهم بعفوه وغفرانه.
ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيتين الأوليين. أما الآية الثالثة فقد روى المفسرون «١» أنها نزلت في سرية من المسلمين المهاجرين التقت بجماعة من المشركين، وكان الوقت في الشهر الحرام فناشدهم المسلمون بأن لا يقاتلوهم فأبوا وهاجموهم فقابلوهم وانتصروا عليهم.

وقد يبدو على ضوء هذه الرواية المتّسقة مع الآيات ثم على ضوء مضمون الآيات أن الآيات الثلاث مدنية وأنها مترابطة مع بعضها ونزلت معا، وأن من المحتمل أن يكون بعض المهاجرين قد قتلوا في الاشتباك، وأن بعض الناس قد لاموا المهاجرين لاشتباكهم مع المشركين في الشهر الحرام فجاءت الآيات على سبيل التثبيت والتطمين والتهدئة والتبرير. ونرجّح أن هذه الحادثة هي غير حادثة سرية عبد الله بن جحش التي ذكرناها في سياق تفسير الآيات [٣٨- ٤١] من هذه السورة، لأن هذه الحادثة قد أشير إليها في آيات سورة البقرة هذه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨).
وإذا كان ما خمّنّاه من أن الآيات السابقة قد نزلت بين يدي هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فيكون وضع الآيات بعدها متصلا بذلك والله أعلم.
تلقين الآية وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا... والآيتين التاليتين لها
ومع خصوصية موضوع الآيات الثلاث الزمنية على ضوء ما شرحناه فإن فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى بالحثّ على الهجرة في سبيل الله من البلد الظالم أهلها وحكامها. وبالبشرى للمهاجرين بحسن العاقبة على كلّ حال سواء اقتلوا أم ماتوا أم ظلوا أحياء، وما في ذلك من حفز على عدم رضاء المسلم بالإقامة في دار الظلم والذلّ والهوان. ويتبرير مقابلة العدوان بمثله وتشجيع المدافع عن نفسه

والمقابلة على العدوان بالمثل. وببثّ الطمأنينة فيه بوعده بتأييد الله ونصره لأنه في موقف المظلوم المبغى عليه مع تقرير كون العقوبة أي المقابلة والقتال لا يصحّ أن تكون إلّا دفاعا عن النفس ومقابلة للعدوان بالمثل وحسب.
وقد تكرر هذا في آيات عديدة مكية ومدنية مرّ منها بعض الأمثلة مثل آية سورة النحل [١٢٦] وآيات سورة الشورى [٣٦- ٤٣] وآيات سورة البقرة هذه:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) «١». وفي سورة النساء آيات فيها تنديد شديد بمن يقبل الإقامة في دار الظلم ولم يهاجر منها وبيان تشجيعي بما يمكن أن يكون في الهجرة في مثل هذه الحالة من مجال لإرغام الظالم مع وعد رباني بعفو الله ومغفرته لمن يموت في سبيل ذلك وهي: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠).
ولقد أورد ابن كثير حديثين في سياق هذه الآيات رواهما ابن أبي حاتم واحد منهما عن سلمان الفارسي قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من مات مرابطا