كَانَتْ مُضَافَةً إِلَى اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ، وَكَانَ لَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُضِلُّهُ بَلْ كَانَ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَضَلَّهُ وَالْجَوَابُ:
الْمُعَارَضَةُ بِمَسْأَلَةِ الْعِلْمِ وَبِمَسْأَلَةِ الدَّاعِي.
المسألة الرَّابِعَةُ: قُرِئَ (أَنَّهُ) بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فَمَنْ فَتَحَ فَلِأَنَّ الْأَوَّلَ فَاعِلُ كُتِبَ وَالثَّانِي عُطِفَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَسَرَ فَعَلَى حِكَايَةِ الْمَكْتُوبِ كَمَا هُوَ كَأَنَّمَا كُتِبَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ، كَمَا يَقُولُ كَتَبْتُ أَنَّ اللَّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ قِيلَ أَوْ عَلَى أَنَّ كُتِبَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥ الى ٧]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)
الْقِرَاءَةُ قَرَأَ الْحَسَنُ مِنَ الْبَعْثِ بِالتَّحْرِيكِ وَنَظِيرُهُ الْحَلَبُ وَالطَّرَدُ فِي الحلب وفي الطرد ومُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ بِجَرِّ التَّاءِ وَالرَّاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِنَصْبِهِمَا الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالنُّونِ فِي قَوْلِهِ: لِنُبَيِّنَ وَفِي قَوْلِهِ:
وَنُقِرُّ وَفِي قَوْلِهِ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بِالْيَاءِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنُّونِ فَفِيهَا وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ وَثَانِيهَا: رَوَى السِّيرَافِيُّ عَنْ دَاوُدَ عَنْ يَعْقُوبَ (وَنَقُرُّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَهُوَ مِنْ قَرَّ الْمَاءَ إِذَا صَبَّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِنَصْبِ الرَّاءِ وَثَالِثُهَا: وَنُقِرَّ وَنُخْرِجَكُمْ بِنَصْبِ الرَّاءِ وَالْجِيمِ أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ فَفِيهَا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: يُقَرَّ وَيُخْرِجَكُمْ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَالْجِيمِ وَثَانِيهَا: يُقُرُّ وَيُخْرِجُكُمْ بِضَمِّ الْقَافِ وَالرَّاءِ وَالْجِيمِ وَثَالِثُهَا: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَبُو حَاتِمٍ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ يَتَوَفَّاهُ اللَّه تَعَالَى ابْنُ عَمْرَةَ وَالْأَعْمَشُ الْعُمْرِ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّه وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يَكُونُ شُيُوخًا بِغَيْرِ الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَرَبَتْ أَبُو جَعْفَرٍ وَرَبَأَتْ أَيِ ارْتَفَعَتْ، وَرَوَى الْعُمَرِيُّ عَنْهُ بِتَلْيِينِ الْهَمْزَةِ وَقُرِئَ وَأَنَّهُ بَاعِثُ.
الْمَعَانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُمُ الْجِدَالَ بِغَيْرِ الْعِلْمِ فِي إِثْبَاتِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَذَمَّهُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَوْرَدَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِدْلَالُ بِخِلْقَةِ الْحَيَوَانِ أَوَّلًا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: ٧٩] وَقَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْإِسْرَاءِ: ٥١] فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا وَعَدْنَاكُمْ مِنَ الْبَعْثِ، فَتَذَكَّرُوا فِي خِلْقَتِكُمُ الْأُولَى لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِكُمْ أَوَّلًا قَادِرٌ عَلَى خَلْقِكُمْ ثَانِيًا، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مِنْ مَرَاتِبِ الْخِلْقَةِ الْأُولَى أُمُورًا سَبْعَةً: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّا خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تُرَابٍ، لِقَوْلِهِ: كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩] وَقَوْلِهِ: مِنْها خَلَقْناكُمْ
[طه: ٥٥]، وَالثَّانِي: أَنَّ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْمَنِيِّ وَدَمِ الطَّمْثِ وَهُمَا إِنَّمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَالْأَغْذِيَةُ إِمَّا حَيَوَانٌ أَوْ نَبَاتٌ وَغِذَاءُ الْحَيَوَانِ يَنْتَهِي قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ إِلَى النَّبَاتِ، وَالنَّبَاتُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ، فَصَحَّ قَوْلُهُ: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وَالنُّطْفَةُ اسْمٌ لِلْمَاءِ الْقَلِيلِ أَيِّ مَاءٍ كَانَ، وَهُوَ هَاهُنَا مَاءُ الْفَحْلِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي قَلَبْتُ ذَلِكَ التُّرَابَ الْيَابِسَ مَاءً لَطِيفًا، مَعَ أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ الْعَلَقَةُ قِطْعَةُ الدَّمِ الْجَامِدَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الْمَاءِ وَبَيْنَ الدَّمِ الْجَامِدِ مُبَايَنَةً شَدِيدَةً الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ فَالْمُضْغَةُ اللَّحْمَةُ الصَّغِيرَةُ قَدْرُ مَا يُمْضَغُ، وَالْمُخَلَّقَةُ الْمُسَوَّاةُ الْمَلْسَاءُ السَّالِمَةُ مِنَ النُّقْصَانِ وَالْعَيْبِ، يُقَالُ خَلَّقَ السِّوَاكَ وَالْعُودَ إِذَا سَوَّاهُ وَمَلَّسَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ صَخْرَةٌ خَلْقَاءُ إِذَا كَانَتْ مَلْسَاءَ. ثُمَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ تَمَّتْ فِيهِ أَحْوَالُ الْخَلْقِ وَمَنْ لَمْ تَتِمَّ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَسَّمَ الْمُضْغَةَ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَامَّةُ الصُّوَرِ وَالْحَوَاسِّ وَالتَّخَاطِيطِ وَثَانِيهِمَا: النَّاقِصَةُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ فَبَيَّنَ أَنَّ بَعْدَ أَنْ صَيَّرَهُ مُضْغَةً مِنْهَا مَا خَلَقَهُ إِنْسَانًا تَامًّا بِلَا نَقْصٍ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، فَكَأَنَّ اللَّه تَعَالَى يَخْلُقُ الْمُضَغَ مُتَفَاوِتَةً مِنْهَا مَا هُوَ كَامِلُ الْخِلْقَةِ أَمْلَسُ مِنَ الْعُيُوبِ وَمِنْهَا مَا هُوَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَتَبِعَ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ، تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي خَلْقِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَطُولِهِمْ وَقِصَرِهِمْ وَتَمَامِهِمْ وَنُقْصَانِهِمْ وَثَانِيهَا: الْمُخَلَّقَةُ الْوَلَدُ الَّذِي يَخْرُجُ حَيًّا وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ السَّقْطُ وَهُوَ قَوْلُ مجاهدو ثالثها: الْمُخَلَّقَةُ الْمُصَوَّرَةُ وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ أَيْ غَيْرُ الْمُصَوَّرَةِ وَهُوَ الَّذِي يَبْقَى لَحْمًا مِنْ غَيْرِ تَخْطِيطٍ وَتَشْكِيلٍ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّه قَالَ: «إِذَا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ بَعَثَ اللَّه مَلَكًا وَقَالَ يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ، فَإِنْ قَالَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ مَجَّتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإِنْ قَالَ مُخَلَّقَةٌ، قَالَ يَا رَبِّ فَمَا صِفَتُهَا، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، مَا رِزْقُهَا، مَا أَجَلُهَا، أَشَقِيٌّ، أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ اللَّه سُبْحَانَهُ انْطَلِقَ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ فَاسْتَنْسِخْ مِنْهُ صِفَةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، فَيَنْطَلِقُ الْمَلَكُ فَيَنْسَخُهَا، فَلَا يَزَالُ مَعَهُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخِرِ صِفَتِهَا» وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ: التَّخْلِيقُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَلْقِ فَمَا تَتَابَعَ عَلَيْهِ الْأَطْوَارُ وَتَوَارَدَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ بَعْدَ الْخَلْقِ فَذَاكَ هُوَ الْمُخَلَّقُ لِتَتَابُعِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، قَالُوا فَمَا تَمَّ فَهُوَ الْمُخَلَّقُ وَمَا لَمْ يَتِمَّ فَهُوَ غَيْرُ الْمُخَلَّقِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَارَدْ عَلَيْهِ التَّخْلِيقَاتُ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ وَأَشَارَ إِلَى النَّاسِ فَيَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ عَلَى مَنْ سَيَصِيرُ إِنْسَانًا وَذَلِكَ يَبْعُدُ فِي السَّقْطِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَقْطًا وَلَمْ يَتَكَامَلْ فِيهِ الْخِلْقَةُ فَإِنْ قِيلَ هَلَّا حَمَلْتُمْ ذَلِكَ عَلَى السَّقْطِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ وَذَلِكَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ فِيهِ مَا لَا يُقِرُّهُ في الرحم وهو السقط، فلنا إِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا فِي كَوْنِ الْمُضْغَةِ مُخَلَّقَةً وَغَيْرَ مُخَلَّقَةٍ، لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ تَمَّمَ خِلْقَةَ الْبَعْضِ وَنَقَصَ خِلْقَةَ الْبَعْضِ لَا يَجِبُ أَنْ يَتَكَامَلَ ذَلِكَ بَلْ فِيهِ مَا يُقِرُّهُ اللَّه فِي الرَّحِمِ وَفِيهِ مَا لَا يُقِرُّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ فِيهِ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الوجه قَدْ دَخَلَ فِيهِ السَّقْطُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أَنَّ تَغْيِيرَ الْمُضْغَةِ إِلَى الْمُخَلَّقَةِ هُوَ بِاخْتِيَارِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَلَوْلَاهُ لَمَا صَارَ بَعْضُهُ مُخَلَّقًا وَبَعْضُهُ غَيْرَ مُخَلَّقٍ وَثَانِيهِمَا: التَّقْدِيرُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا أَخْبَرْنَاكُمْ أَنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ كَذَا وَكَذَا لِنُبَيِّنَ لَكُمْ مَا يُزِيلُ عَنْكُمْ ذَلِكَ الرَّيْبَ/ فِي أَمْرِ بَعْثِكُمْ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَيْفَ يَكُونُ عَاجِزًا عَنِ الْإِعَادَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَنْ يُبَلِّغُهُ اللَّه تَعَالَى حد الولادة،
وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى هُوَ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِلْوِلَادَةِ وَهُوَ آخِرُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ تِسْعَةٌ، أَوْ أَرْبَعُ سِنِينَ أَوْ كَمَا شَاءَ وَقَدَّرَ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ كَتَبَ ذَلِكَ صَارَ أَجَلًا مُسَمًّى الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا وَإِنَّمَا وَحَّدَ الطِّفْلَ لِأَنَّ الْغَرَضَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْجِنْسِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ طِفْلًا كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التَّحْرِيمِ: ٤] الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَالْأَشُدُّ كَمَالُ الْقُوَّةِ وَالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَهُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ الَّتِي لَمْ يُسْتَعْمَلْ لَهَا وَاحِدٌ وَكَأَنَّهَا شِدَّةٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَبُنِيَتْ لِذَلِكَ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ واللَّه أَعْلَمُ ثُمَّ سَهَّلَ فِي تَرْبِيَتِكُمْ وَأَغْذِيَتِكُمْ أُمُورًا لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي بَيْنَ خُرُوجِ الطِّفْلِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَبَيْنَ بُلُوغِ الْأَشُدِّ وَيَكُونُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ وَسَائِطُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ حَالِ الطُّفُولِيَّةُ وَبَيْنَ ابْتِدَاءِ حَالِ بُلُوغِ الْأَشُدِّ وَاسِطَةٌ حَتَّى جَوَّزَ أَنْ يَبْلُغَ فِي السِّنِّ وَيَكُونَ طِفْلًا كَمَا يَكُونُ غُلَامًا ثُمَّ يَدْخُلُ فِي الْأَشُدِّ الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عَلَى قُوَّتِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَهُوَ الْهَرَمُ وَالْخَرَفُ، فَيَصِيرُ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ طُفُولِيَّتِهِ ضَعِيفَ الْبِنْيَةِ، سَخِيفَ الْعَقْلِ، قَلِيلَ الْفَهْمِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ كَالطِّفْلِ؟ قُلْنَا الْمُرَادُ أَنَّهُ يَزُولُ عَقْلُهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يُذْكَرُ فِي النَّفْيِ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْحَالَةُ لَا تَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: ٥] هُوَ دَلَالَةٌ عَلَى الذَّمِّ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُقُوبَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التِّينِ: ٦] فَهَذَا تَمَامُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَالِ خِلْقَةِ الْحَيَوَانِ عَلَى صِحَّةِ الْبَعْثِ الوجه الثَّانِي: الِاسْتِدْلَالُ بِحَالِ خِلْقَةِ النَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً وَهُمُودُهَا يُبْسُهَا وَخُلُوُّهَا عَنِ النَّبَاتِ وَالْخُضْرَةِ فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَالِاهْتِزَازُ الْحَرَكَةُ عَلَى سُرُورٍ فَلَا يَكَادُ يُقَالُ اهْتَزَّ فُلَانٌ لِكَيْتٍ وَكَيْتٍ إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَنَافِعِ فَقَوْلُهُ: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أَيْ تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ وَانْتَفَخَتْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ فَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْأَرْضَ يَنْبُتُ مِنْهَا واللَّه تَعَالَى هُوَ الْمُنْبِتُ لِذَلِكَ، لَكِنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهَا تَوَسُّعًا، وَمَعْنَى مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ مِنْ زَرْعٍ وَغَرْسٍ، وَالْبَهْجَةُ حُسْنُ الشَّيْءِ وَنَضَارَتُهُ، وَالْبَهِيجُ بِمَعْنَى الْمُبْهِجِ قَالَ الْمُبَرِّدُ وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُشْرِقُ الْجَمِيلُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَرَّرَ هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ رَتَّبَ عَلَيْهِمَا مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ وَالنَّتِيجَةُ وَذَكَرَ أُمُورًا خَمْسَةً أَحَدُهَا: قَوْلُهُ ذَلِكَ: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَالْحَقُّ هُوَ الْمَوْجُودُ الثَّابِتُ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَحَاصِلُهَا رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ/ حُدُوثَ هَذِهِ الأعراض الْمُتَنَافِيَةِ وَتَوَارُدَهَا عَلَى الْأَجْسَامِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصانع وثانيها: قوله تعالى: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُسْتَبْعَدْ مِنَ الْإِلَهِ إِيجَادُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ إِعَادَةُ الْأَمْوَاتِ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ إِيجَادُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الْإِنْصَافِ لِذَاتِهِ بِالْقُدْرَةِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَادِرًا عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ الدَّلَائِلَ عَلَى أَنَّ الْإِعَادَةَ فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةٌ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ فِي نَفْسِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِمْكَانُ وَالصَّادِقُ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَطْعِ بِوُقُوعِهِ، واعلم أن