إحكام الوحي وصونه عن الشياطين قصة الغرانيق
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٧]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧)
الإعراب:
وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ: الضمير في قُلُوبِهِمْ يعود إلى الآلف واللام في قوله:
الْقاسِيَةِ. وهذا يدل على أن الألف واللام في حكم الأسماء لأن الحروف لا حظّ لها في الضمير البتة، وتقديره: فويل للذين قست قلوبهم، ولهذا التقدير عاد الضمير. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي كائن مستقر لله، وهو ناصب للظرف.
البلاغة:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ جناس اشتقاق.
فَيَنْسَخُ يُحْكِمُ بينهما طباق. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ وضع الظاهر موضع المضمر، والأصل وإنهم قضاء عليهم بالظلم والمعاداة.
أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ في قوله عَقِيمٍ استعارة، شبه يوم القيامة الذي لا ليل بعده ولا نهار بالمرأة العقيم التي لا تلد، لانقضاء الزمان، بعكس ما قبله من الأيام التي تعقبها الليالي، فهي بمنزلة الولدان لليالي.
المفردات اللغوية:
رَسُولٍ هو نبي أمر بالتبليغ، أو في الأصح من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها، والنبي: أعم من الرسول، فهو من لم يؤمر بالتبليغ، أو في الأصح من بعثه الله بتقرير شرع سابق، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، ولذلك شبه النبي صلّى الله عليه وسلم علماء أمته بهم، ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء
فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاث مائة وثلاثة عشر جما غفيرا.
تَمَنَّى قرأ أُمْنِيَّتِهِ قراءته، وألقى الشيطان أي ما ليس من المقروء الموحى به مما يرضاه المرسل إليهم فَيَنْسَخُ اللَّهُ يبطل ويزيل يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ يثبتها وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس وبإلقاء الشيطان ما ذكر حَكِيمٌ فيما يفعله بهم، فإنه يفعل ما يشاء.
فِتْنَةً أي محنة وابتلاء واختبارا مَرَضٌ شك ونفاق الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ هم الكفار الذي قست قلوبهم عن قبول الحق وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ عداوة شديدة وبعد عن الحق، وخلاف طويل مع النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين.
الْعِلْمَ التوحيد والقرآن أو أهل العلم المجردون عن التعصب والعناد أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أن القرآن هو الحق النازل من عند الله فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أو بالله فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ تطمئن أو تنقاد وتخشى وتخضع صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو الطريق القويم وهو دين الإسلام، أو النظر الصحيح الذي يوصلهم إلى الحق.
مِرْيَةٍ شك مِنْهُ أي القرآن السَّاعَةُ القيامة أو الموت، أو أشراط الساعة بَغْتَةً فجأة يَوْمٍ عَقِيمٍ يوم منفرد عن سائر الأيام لشدته، والمراد به يوم حرب يقتلون فيه، كيوم بدر لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم، أو لأنه لا خير فيه كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، أو هو يوم القيامة لا ليل بعده.
الْمُلْكُ السلطان والتصرف يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، والتنوين فيه ينوب عن الجملة التي دلت عليها الغاية، أي يوم تزول مريتهم لِلَّهِ وحده يَحْكُمُ يقضي بين الكافرين
والمؤمنين مُهِينٌ شديد مذل بسبب كفرهم. ويلاحظ أن إدخال الفاء في خبر الذين الثاني:
فَأُولئِكَ دون الأول: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى، وأن عقاب الكفار مسبب عن أعمالهم، ولذلك قال: لَهُمْ عَذابٌ ولم يقل: في عذاب.
سبب النزول:
ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، ورجوع كثير من مهاجرة الحبشة إلى مكة، ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. وذكروا روايات مختلفة، كلها من طرق مرسلة، وليست مسندة من وجه صحيح كما قال ابن كثير «١». منها ما رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير:
أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قومه، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء، فينفروا عنه يومئذ، فأنزل الله عليه: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فقرأ، حتى إذا بلغ إلى قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان كلمتين: تلك الغرانيق «٢» العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.
فتكلم بها، ثم مضى بقراءة السورة كلها، ثم سجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعا معه، وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ الآية.
ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخا كبيرا، فلما أمسى النبي صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين قال:
ما جئتك بهاتين، فأوحى الله إليه: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ
(٢) تلك الغرانيق إما الأصنام وإما إشارة إلى الملائكة أي هم الشفعاء، لا الأصنام لأن الكفار كانوا يعتقدون أن الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله عنهم. [.....]
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً فما زال مغموما حتى نزلت: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ.
قال ابن العربي وعياض: إن هذه الروايات باطلة لا أصل لها «١». وقال الرازي «٢» : أما أهل التحقيق فقد قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.
أما القرآن فوجوه منها قوله تعالى: قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس ١٠/ ١٥] وقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم ٥٣/ ٤- ٣] وقوله: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة ٦٩/ ٤٤- ٤٦] فلو أنه قرأ عقيب آية النجم المذكورة: تلك الغرانيق العلا، لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال، وذلك لا يقوله مسلم.
وأما السنة: فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة: أنه سئل عن هذه القصة، فقال: هذا وضع من الزنادقة. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وأيضا:
فقد روى البخاري في صحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم، وسجد فيها المسلمون والمشركون، والإنس والجن
، وليس فيه حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه: منها: أن من جوز على الرسول صلّى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.
(٢) تفسير الرازي: ٢٣/ ٥٠
قال الرازي: وأقوى الوجوه: أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الامان عن شرعه، أي شرع الله، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة ٥/ ٦٧] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه. فبهذا عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة.
التفسير والبيان:
تبين من الكلام السابق في سبب النزول أن قصة الغرانيق موضوعة مكذوبة وضعها الزنادقة، لذا يجب تفسير الآيات على نحو آخر، خلافا لما عليه كثير من المفسرين. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، لكن المقطوع به أن النبي صلّى الله عليه وسلم عملا بدلالة الآيات السابقة الدالة على عصمته، وأنه لا ينطق عن الهوى أنه لم يجار الشيطان فيما ألقاه، ولم يردد على لسانه ما وسوس به. وأحسن تأويل للآيات كما قال القرطبي: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصّل الآي تفصيلا في قراءته، كما روى الثقات عنه، فيمكن ترصّد الشيطان لتلك السكتات، ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلّى الله عليه وسلم، بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنّوها من قول النبي صلّى الله عليه وسلم وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين، لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلّى الله عليه وسلم في ذمّ الأوثان وعيبها ما عرف عنه «١».
وعلى هذا يكون معنى الآية: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ.. أي وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا قرأ وتلا كلام الله، ألقى الشيطان في قراءته
وتلاوته بعض الأقاويل والأباطيل. وقوله مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ دليل على تغاير الرسول والنبي، والفرق بينهما كما في الكشاف: أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. وقد ذكرت في المفردات التعريف المشهور والأصح للرسول والنبي وعدد الرسل والأنبياء.
فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي فيزيل الله ما وسوس به الشيطان من الكلمات والخرافات التي تعلّق بها بعض الكفار، ثم يجعل آياته محكمة محصّنة مثبّتة، لا تقبل التشويه والتزييف أو الزيادة أو النقصان.
وهذا يشبه محاولات بعض القساوسة اليوم دسّ بعض الأكاذيب والشبهات في مبادئ الإسلام وتعاليمه، وقلب الحقائق، وتزييف الوقائع، وتأويل بعض الآيات على وجه غير صحيح، ثم تتبدد تلك المساعي الخبيثة، وتدحض تلك المفتريات على يد بعض العلماء الأثبات من المسلمين أو من غيرهم، وتدفن تلك الآراء المدسوسة في النشرات والكتب المدرسية وغيرها.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي والله عليم بكل شيء، وبما أوحى إلى نبيه، وبما يكون من الأمور والحوادث، لا تخفى عليه خافية، حكيم في تقديره وخلقه وأمره وأفعاله، له الحكمة التامة، والحجة البالغة، فيجازي المفتري بافترائه، ويظهر الحق للمؤمنين، وتتبدد الظلمة في نفوس المنافقين، وهذا ما أبانه الله تعالى في موقف الفريقين، فقال:
١- لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي ليجعل ما يوسوس به الشيطان فتنة أي ابتلاء واختبارا للمنافقين الذين في قلوبهم شك وشرك وكفر ونفاق، وللمشركين أو اليهود المعاندين قساة
القلوب، حين فرحوا بإلقاء الشيطان بعض الكلمات، واعتقدوا أنه صحيح من عند الله، وإنما كان من الشيطان.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي وإن هؤلاء الظالمين أنفسهم من المنافقين والكفار لفي مخالفة وعصيان، ومشاقة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلم، وعناد بعيد من الحق والصواب.
٢- وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَيُؤْمِنُوا بِهِ، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي ولكي يعلم أهل العلم النافع الذين يفرقون به بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق الثابت الصحيح من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه، وصانه أن يختلط به غيره، فيصدقوا به وينقادوا له، وتخضع له قلوبهم، وتذل وتخشع له نفوسهم، وتعمل بأحكامه وآدابه وشريعته، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت ٤١/ ٤١- ٤٢].
وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي وإن الله لمرشد المؤمنين بالله ورسوله إلى طريق قويم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه بتأويل سليم للمتشابه في الدين، وتفصيل واضح للمجمل منه، وفي الآخرة يهديهم الطريق الصحيح الموصل إلى درجات الجنان، ويصرفهم عن دركات النيران.
ومصير الفريق الأول ما قال تعالى:
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ... عَقِيمٍ أي ولا يزال الكفار في شك وريب من هذا القرآن أو من الرسول، فضمير مِنْهُ راجع إلى القرآن أو الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو لا يزال الكفار في ريب منه أي مما ألقى الشيطان في قلوبهم حين قراءة القرآن عليهم، حتى تأتيهم الساعة، أي يوم القيامة أو مقدماتها أو
الموت، بغتة أي فجأة من غير أن يشعروا، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، أي يوم القيامة أو يوم حرب مدمرة كيوم بدر. وجعل الساعة غاية لكفرهم وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء. وإنما وصف يوم القيامة بالعقيم لأنه لا يأتي بعده ليل، ووصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم: أبناء الحرب، فإذا قتلوا وصف هذا اليوم بأنه عقيم، على سبيل المجاز. قال ابن كثير: القول الأول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، ولهذا قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ، يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.
والمراد بالآية أن الكفار ما يزالون على كفرهم لا يؤمنون حتى يهلكوا.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي السلطان والتصرف يوم القيامة يوم الجزاء والثواب والعقاب لله الواحد القهار، يقضي بينهم بالحق، وهو الحكم العدل جل شأنه، كما قال تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة ١/ ٤] وقال عز وجل:
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الفرقان ٢٥/ ٢٦].
ونتيجة الحكم تظهر ببيان جزاء كل من الفريقين، فقال تعالى:
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي فالذين آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وبالقرآن، وعملوا بمقتضى ما علموا من الأعمال الصالحة بإطاعة أوامره تعالى واجتناب نواهيه، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم، لهم جنات النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي والذين كفرت قلوبهم بالحق وجحدته، وكذبوا بالقرآن وبالرسول، وخالفوا الرسل، واستكبروا عن اتباعهم، فأولئك لهم عند ربهم عذاب مذلّ مخز، مقابل
استكبارهم عن الحق، وإبائهم النظر في آيات القرآن، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر ٤٠/ ٦٠] أي صاغرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- هذه تسلية أخرى من الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم بعد قوله المتقدم: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ أي فلا تحزن ولا تتألم لما يردده الكفار على لسان الشيطان، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء.
٢- الآية تدل على إحكام الوحي وحفظ كتاب الله تعالى وحراسته من أقاويل الشيطان وأباطيله وخرافاته، فإنه إذا ألقى شيئا من الكلام في ثنايا آيات القرآن الكريم أو حديث النبي صلّى الله عليه وسلم في نفسه، فيبطل الله ما ألقى الشيطان، ويحكم آياته ويثبتها.
فقوله تعالى تَمَنَّى وأُمْنِيَّتِهِ أي قرأ وتلا، وقراءته. وروى البخاري عن ابن عباس في ذلك: إذا حدّث- أي النبي- ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان. والمعنى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا حدّث نفسه، ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة، فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنّمك ليتسع المسلمون ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك، فيبطل ما يلقي الشيطان، أي أن المراد حديث النفس. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله.
٣- إن في إلقاء الشيطان حكمة وهو أن يجعل فتنة أي ابتلاء واختبارا لفئتين هما المنافقون والمشركون، وهم الظالمون أنفسهم، والظالمون أي الكافرون لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز وجل ولرسوله صلّى الله عليه وسلم.
٤- قال الثعلبي في آية لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً..: وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والغلط بوسواس الشيطان، أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبّه ويرجع إلى الصحيح وهو معنى قوله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ.
ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما ينسب إليه من قولهم: تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صلّى الله عليه وسلم لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن، ثم ينشد شعرا، ويقول: غلطت وظننته قرآنا.
٥- وحكمة أخرى لإلقاء الشيطان هي أن يعلم المؤمنون أن الذي أحكم من آيات القرآن هو الحق الصحيح الثابت من الله، فيؤمنوا به، وتخشع وتسكن قلوبهم، وإن الله يهدي المؤمنين إلى صراط مستقيم، أي يثبّتهم على الهداية.
٦- سيظل الكفار في شك من القرآن أو من الدين وهو الصراط المستقيم، أو من الرسول، أو مما ألقى الشيطان على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم، وهو لم يقله، فيقولون: ما باله ذكر الأصنام بخير، ثم ارتدّ عنها؟ ويستمر الشك إلى وقت مجيء زمن الإيمان القسري أو الملجئ فجأة وهو إما يوم القيامة وإما الموت، وإما يوم الحرب كبدر، وذلك يوم عقيم. وقد تبين لدينا أن الراجح في تفسير اليوم العقيم هو يوم القيامة، قال الضحاك: عذاب يوم لا ليلة له، وهو يوم القيامة. قال الرازي: وهذا القول أولى لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى:
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ ويكون المراد يوم بدر لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر. ولا يكون هناك تكرار بينه وبين قوله السَّاعَةُ لأن الساعة من مقدمات القيامة، واليوم العقيم هو ذلك اليوم نفسه، كما أن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم. ويحتمل أن يكون المراد