
فإذا أنا بناس كثير ثم قال: انظر، فنظرت قبل طريق العارق، فإذا أنا بناس كثير، ثم قال: انظر، فنظرت تحتي، فإذا كل شيء ينتغش من الناس من كثرتهم فقلت: أي رب، قد رضيت. قال: فإن مع هذا سبعين ألفاً ليس عليهم حساب ولا عذاب، فقام عكاشة بن محصن الأسدي أخو بني غنم فقال: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلني منهم، قال: جعلك الله منهم فقال رجل آخر من الأنصار فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فاقل: سبقك بها عكاشة ".
وقوله: ﴿وَتَرَى الناس سكارى﴾.
رجع من مخاطبة الجماعة من الناس إلى مخاطبة النبي ﷺ كما جاز أن يخرج عن مخاطبة النبي ﷺ إلى مخاطبة الجماعة في قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ إلى قوله: ﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾.
هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث كان يخاصم ويزعم أن الله جل ذكره غير قادر على إحياء من بلى وعاد تراباً، بغير علم له في ذلك. ﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾.

أي يتبع في قوله ذلك كل شيطان مارد. والمريد والمارد: المتجاوز في الشر القوي فيه. ومنه قيل: صخرة مرداء، أي: ملساء. ومنه: الأمرد.
وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام.
ثم قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ﴾.
أي: كتب على الشيطان أي: قضى على الشيطان أنه تولاه. الهاء في " أنه " مجهول تفسره الجملة التي بعده. و " تولاه ". أي: تولى الشيطان. أي: فمن اتبع الشيطان من خلق الله، فإنه يضله. أي: فإن الشيطان يضل من اتبعه، ﴿وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير﴾.
أي: يسوقه إليه بطاعته له، ومعصيته لله، في " عليه " و " تولاه " و " فإنه " تعود على الشيطان.
ثم قال: ﴿يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث﴾.

أي: إن كنتم في شك من أنكم تبعثون وتعودون كما كنتم فتدبروا خلقكم وابتداءكم، فإنكم لا تجدون فرقاً بين الابتداء والإعادة، إذ خلقناكم من تراب، يعني آدم. " ثم من نطفة " يعني ولد آدم، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يخرجكم طفلاً. فإذا تدبرتم ابتداءكم وانتقال أحوالكم، علمتم أن من قدر على هذا أنه قادر على الإعادة، فالنطفة ماء الرجل، والعلقة: الدم، والمضغة: لحمة صغير بقدر ما يمضغ. وقوله: ﴿مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾. قيل: هو من نعت النطفة. فالمخلقة ما كان خلقاً سوياً، وغير المخلقة ما ألقت الأرحام من النطف قبل أن تكونوا خلقاً. قال ابن عمر: إذا وقت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال مخلقة، مجتها الأرحام دماً وإن قال: مخلقة، قال يا رب: ما صفة هذه النطفة؟ أذكر أم أنثى؟ ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟ قال: فيقال: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة. قال: فينطلق الملك،
صفحة رقم 4844
فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.
وقيل: معناه، تامة أو غير تامة، وهو قول قتادة.
وقال مجاهد: هو السقط، مخلق وغير مخلق.
وقال الشعبي: بعد المضغة تكون مخلقة، وهو الخلق الرابع، وإذا قذفها الرحم قيل فهي غير مخلقة.
وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله ﷺ يقول: - وهو الصادق المصدوق - " يجمع خلق كل أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة أربعين يوماً، ثم يكون مضغة أربعين يوماً، ثم يبعث الله إليه ملكاً، فيقول: أكتب عمله وأجله ورزقه واكتب شقياً أو سعيداً ".
وقال عبد الله: والذي نفسي بيده، إن الرجل ليعمل عمل أهل السعادة، فيعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يدركه الشقاء، فيعمل بعمل

أهل النار والشقاء، فيدخل النار.
واختار الطبري أن تكون المخلقة المصورة خلقاً تاماً، وغير مخلقة السقط قبل تمام خلقه فيكون مخلقة وغير مخلقة من نعت المضغة، لأ، هـ ليس بعد المضغة إلا التصوير.
ثم قال تعالى: ﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ أي: فعلنا ذلك لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء. أي: ذكرنا لكم الأحوال الابتداء، لنبين لكم أثر الصنعة والقدرة. فقوله: ﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ جواب للقصة المذكورة في خلق الإنسان كلها. أي: أخبرناكم بهذه القدرة في خلقكم لنبين لكم أن البعث حق.
ثم ابتدأ بخبر آخر فقال: ﴿وَنُقِرُّ فِي الأرحام﴾ ولذلك ارتفع، ولا يجوز نصبه على العطف على " لنبين "، لأنه لم يذكر القصة في قدرته ليقر في الأرحام ما يشاء، إنما ذكرها ليدل على صحة وقوع البعث بعد الموت. والمعنى: ﴿وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾، أي: ونبقي في الأرحام من نشاء حياته فلا يسقط إلى وقت ولادته فيخرج طفلاً.

وقوله: ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾.
أي: يخرج كل واحد منكم طفلاً.
وقوله: ﴿ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ﴾ أي: ثم نعمركم لتبلغوا أشدكم.
وقيل: معناه: ثم نخرجكم طفلاً لتبلغوا أشدكم.
والأول أحسن، لأن هذا، يوجب زيادة " ثم "، ولا يحسن زيادتها، بل لا بد لها من فائدة، وهو ما ذكرنا من التعبير ليقع به البلوغ إلى الأشد. ومعنى أشدكم. أي كمال عقولكم ﴿وَمِنكُمْ مَّن يتوفى﴾.
أي: من قبل بلوغ أشده فيموت.
﴿وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر﴾.
أي: من ينسأ في أجله فيعمر حتى يهرم، فيرج إلى أرذل عمره.
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: أرذل العمر، خمسة وسبعون عاماً.
ثم قال: ﴿لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾.
أي: ليصير لا علم له بالأشياء بعدما كان علماً بها.
ثم قال: ﴿وَتَرَى الأرض هَامِدَةً﴾.
أي: يابسة دارسة لا نبات فيها، وأصل الهمود، الدروس والدثور.
﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت﴾ أي: تحركت بالنبات.
﴿وَرَبَتْ﴾ أي: وأضعفت النبات بمجيء الغيث.

قال قتادة: ﴿اهتزت وَرَبَتْ﴾ حسنت وعرف الغيث في ربوعها.
وقيل: التقدير: فإذا أنزلنا عليها الماء ربت واهتزت، فيكون المهتز الزرع، يتحرك إذا نبت على الحقيقة، فيرج المعنى إلى النبات. وظاهر الإخبار عن الأرض.
وقوله: ﴿وَتَرَى﴾ رجوع من خطاب جماعة إلى خطاب واحد وهو حسن، قد تقدم نظائره.
وقرأ أبو جعفر القاري: ﴿وَأَنبَتَتْ﴾ بالهمز. أي: ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة.
وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف يقال: هو رأبئ القوم وربيئتهم. وفعيل: للمبالغة.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾.
أي: من كل نوع حسن، يعني من النبات. ﴿بَهِيجٍ﴾ بمعنى مبهج أي: يبهج من رآه حسنُه.
ثم قال تعالى: ﴿ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾.
أي: فعل الله ذلك بأنه الحق، أو الأمر ذلك بأنه الحق.
أي: هذا الذي تقدم ذكره من عظيم القدرة في خلق الإنسان، والأرض وغير