
ثم أكد لهم صدق وعيده، وأحالهم على ما يشاهدون بكرة وعشيا فقال:
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي أفلم يسر هؤلاء المكذبون بآيات الله الجاحدون لقدرته- فى البلاد فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذّبى رسل الله الذين خلوا من قبلهم كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب، ويروا أوطانهم ومساكنهم، ويسمعوا بآذانهم أخبارهم، فيتفكروا ويعتبروا بها، ويعلموا أمرها وأمر أهلها، وكيف نابتهم النوائب، وغالتهم غوائل الدهر؟ فيكون فى ذلك معتبر لهم لو أرادوا، فينيبوا إلى ربهم، ويعقلوا حججه التي بثها فى الآفاق.
ثم أظهر اليأس من إيمانهم، لأن القلوب قد عميت، فلا تبصر الدلائل الكونية، ولا البراهين العقلية فقال:
(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي إن أبصارهم وإن كانت سالمة لا عمى بها فقد أصابهم عمى القلوب، والعمدة على الثاني لا على الأول، فعمى الأبصار ليس بشىء إذا قيس بعمى القلوب والبصائر.
وفى هذا تهويل أيّما تهويل، وفى وصف القلوب بكونها فى الصدور فضل توكيد كما جاء فى قوله تعالى. «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ» فقد تعورف أن مكان العمى هو البصر بأن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، فحين أريد إثبات ما هو خلاف الأصل بنسبته إلى القلوب ونفيه عن الأبصار احتيج إلى زيادة تعيين وفضل تعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار، وهذا على سنن قولهم: ليس المضاء للسيف ولكن للسان (الذي بين فكّيك) - فكأنهم قالوا ما نفينا المضاء عن السيف وأثبتناه للسان فلتة وسهوا، بل تعمدنا ذلك تعمدا.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٧ الى ٥١]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)

تفسير المفردات
الإنذار: التخويف، وأصل السعى: الإسراع فى المشي، ثم استعمل فى الإصلاح والإفساد، يقال سعى فى أمر فلان: إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه، معاجزين: أي مسابقين المؤمنين ومعارضين لهم، فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله، وأصله من قولهم: عاجزه فأعجزه، إذا سابقه فسبقه.
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه أن المشركين كذبوا رسوله وبالغوا فى تكذيبه وسلّاه على ذلك بأنك لست ببدع فى الرسل، فكثير ممن قبلك منهم قد كذّبوا وأوذوا فلا تبتئس بما يفعلون، واصبر على ما تدعو إليه ولا يضيرنّك ما يأتون وما يذرون- قفى على ذلك ببيان أنهم لاستهزائهم به وشديد تكذيبهم كانوا يستعجلونه العذاب كما قال تعالى حكاية عنهم: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ثم أنّبهم على إنكار ذلك العذاب وقد سبق وعد الله به فكان لزاما عليهم ألا يستعجلوه، فإنهم لو عرفوا ما ينالهم من آلامه وشدائده ما طلبوا استعجاله، فيوم عند ربك تصيبهم فيه المحن والشدائد كألف سنة لو بقوا وعذبوا فى الدنيا، ثم ذكّرهم بأن كثيرا من القرى الظالمة أمهلت ولم تعذب، لعلها ترعوى عن غيّها ثم أخذت أخذ عزيز مقتدر، وحسابها مدّخر ليوم تشخص فيه الأبصار، ثم أبان أن وظيفة الرسول إنما هى الإنذار والتحذير وليس عليهم من حسابهم

من شىء، فإن شاء الله عجل لهم العذاب، وإن شاء أخره عنهم، وقد وعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة من الذنوب ودخول دار النعيم، وأوعد الذين يثبّطون العزائم عن قبول دعوة الإسلام بدوام العذاب فى نار الجحيم.
الإيضاح
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي ويستعجلك كفار قريش المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر- مجىء العذاب الذي تحذرهم منه وتوعدهم إياه، إنكارا منهم لوقوعه، واستهزاء بحلوله.
ثم بيّن أنه آت لا محالة فقال:
(وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) أي وكيف ينكرون مجىء ذلك العذاب وقد وعد الله به؟
وما وعد به كائن لا محالة، وهو كما فعل بمن قبلهم يفعل بهم، لأن ذلك هو نهجه، الثابت، وصراطه المستقيم، وسيحل بهم مثل ما حل بغيرهم.
(وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي وإن قلتم إن العهد قد طال ولم يحلّ بكم العذاب فأين هو؟ فإن الله حليم، وألف سنة عندكم كيوم عنده، فهو سينفذ وعده بعد أمد طويل عندكم قريب عنده كما قال: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» فإذا تأخر عذاب الآخرة أمدا طويلا فلا يكون فى ذلك إخلاف للوعد، فعشرون ألف سنة عند ربك كعشرين يوما عندكم.
والخلاصة- إن سنّتى لا بد من نفاذها، ولا بد من إهلاك الظالمين ولو بعد حين أمما وأفرادا فى الدنيا والآخرة أو عذابهم فى الآخرة فحسب مع الأكدار فى الدنيا وهم لا يشعرون.
ثم أكد ما ذكره من عدم إخلاف الوعد وإن طال الأمد فقال:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي وكم من قرية أخرت إهلاكها مع استمرارها على ظلمها فاغترت بذلك التأخير، ثم أنزلت

بها بأسى وشديد انتقامي، وحسابها بعد مدّخر ليوم الحساب حين لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولا يخفى ما فى هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد.
ثم أبان لهم عظيم خطئهم فى طلب استعجال العذاب من الرسول بقوله:
(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قل يا أيها المشركون المستعجلون مجىء العذاب: ليس ذلك إلىّ، وإنما أرسلنى ربى نذيرا لكم بين يدى عذاب شديد، وليس إلىّ من حسابكم من شىء، بل أمر ذلك إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب وينيب إليه «لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ».
ثم فصل هذا الإنذار بذكر الوعد للمتقين والوعيد للكافرين فقال:
(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي فالذين آمنت قلوبهم، وصدّقوا إيمانهم بأعمالهم- لهم مغفرة لما سلف من سيئاتهم، وثواب عند ربهم على ما قدموا من حسناتهم، ولهم رزق كريم فى الجنة يفوق وصف الواصفين، ومقال المادحين كما قال تعالى: «فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ»
وفى الحديث: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين اجتهدوا فى رد دعوة الدين والتكذيب بها وثبّطوا الناس عن متابعة النبي ﷺ ظنا منهم أنهم يعجزوننا وأنهم لا يبعثون، فأولئك هم المقيمون فى النار المصاحبون لها لا يخرجون منها.
ونحو الآية قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ».