
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ»
وتسليط أولياءه على أعدائه لاستولى المشركون على الموحدين الأقدمين من أمم الأنبياء الأوّل فضلا عنكم أيها المؤمنون المخاطبون ومن بعدكم، ومنعوهم عن عبادة الله المفهومة من قوله عز قوله «لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ» هي معابد الرهبان في الوادي، وتطلق على معابد الصّابئين أيضا «وَبِيَعٌ» هي معابد النّصارى التي يطلقون عليها الآن لفظ كنائس «وَصَلَواتٌ» اسم العبراني معناه كنائس وهي معابد اليهود، ويسمونها الآن بيعا، وهو عربي «وَمَساجِدُ» هي معابد المسلمين وتطلق على الجوامع التي لا تقام بها الجمع وتختص الجوامع بما تقام فيها، وإنما خص الله تعالى هذه المواطن المقدسة لأنها «يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» أي لولا ذلك لهدم في زمن كلّ نبي مكان عبادته، ولكن الله تعالى أبى ذلك إذ سلط الرّسل وأتباعه على المشركين فمنعوهم منه إدامة لذكر الله الذي أوجب بقاءه في أزله إلى خراب هذا العالم «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» من الرّسل وأتباعهم ليعظم لهم الأجر، وإلّا فهو غني عن نصرة أحد منهم «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» ٤٠ منيع لا يغلبه غالب ولا يدركه طالب ولا يفلت من قبضته هارب.
ثم وصف الله تعالى ناصريه بقوله «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» وثبتناهم فيها وجعلنا لهم فيها السلطان على أهلها «أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» (٤١) ومرجعها إليه، وفي هذه الآية توكيد لما وعد به أولياءه من الظهور على أعدائهم. قال تعالى «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ» يا حبيبي بعد ما تبين لهم من الحق الذي أنت عليه، فما هو بمستبعد منهم «فَقَدْ كَذَّبَتْ» الرسل «قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ، وَكُذِّبَ مُوسى» أيضا مع وضوح ما جاء به من الدّلائل الحسية، وإذا كان كذلك فلا يحزنك تكذيبهم، وإني ممهلهم حتى إذا علم النّاس أن الامهال لم ينجح بهم وأصروا على استكبارهم أهلكتهم شأن الّذين قبلهم «فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ» السالفين مثل ما أمليت لهؤلاء «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ» على الصّورة المارة كما يؤاخذ هؤلاء إن لم يرجعوا إلي ويفردوني بالعبادة، فآخذهم بأنواع

العذاب والنّكال وأهلكهم إهلاك استئصال، وإذ ذاك يقول القائل متعجبا من عظيم صنعي بهم ومبتهرا من كبير تعذيبي لهم ومتحيّرا من كيفية أخذه «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» (٤٤) عليهم، إذ أبدلت نعمهم نقما، وراحتهم محنة وحياتهم موتا، وعمارتهم خرابا، وجنايتهم خربا. وفي هذه الآية تخويف عظيم لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم السّابقين واللاحقين بأنهم إذا لم يخلصوا لربهم يكون مصيرهم مصير أولئك قال تعالى «فَكَأَيِّنْ» راجع الآية ٦٠ من سورة العنكبوت وما ترشد إليه في معناها وتركيبها «مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ» أي زمن تلبسها بالظلم حال ظلم أهلها «فَهِيَ خاوِيَةٌ» في هذه الآية حذف كلمتين أخالية من السّكان ساقطة «عَلى عُرُوشِها» أي سقوفها «وَ» كم من «بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ» متروكة هلاك مستعمليها من أهل البوادي. والقرى عطف على قر «وَ» كم من «قَصْرٍ مَشِيدٍ» (٤٥) أخليناه بتدمير أهله من المدن والحواض والعواصم معطوفة أيضا على قرية. تفيد هذه الآية أن أهل البوادي والمدن؟
أصروا على كفرهم وتكذيب رسلهم أهلكهم الله إهلاك استئصال ودمرته ومساكنهم وما يأوون إليه في البوادي.
مطلب في قصة قوم صالح عليه السّلام وأسباب إهلاك بعض الأمم وتسمية بعض البلاد بما وقع فيها والآيات المكيات:
قالوا إن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السّلام لما نجوا من العذاب جاء إلى بئر من أرض اليمن في سفح جبل عليه قصور. ولما حضروا فيها مات صا؟
عليه السّلام فسميت تلك البلدة (حضرموت) وكذلك لما قلبت المؤتفكة ومن أهلها مئة نسمة سميت (سلمية) وكذلك لما حل نوح عليه السّلام ومن معه أرض الجزيرة قرب الجودي وكانوا ثمانين نسمة بنوا قرية هناك فسميت قرية الثمانين ولما هاجر من العرب مئة نسمة إلى أراضي ماردين أنزلوهم بمحل سموه (محلمية وأطلق عليهم هذا الاسم حتى الآن، أما بعلبك فسميت باسم الصّنم (بعل) وصاحبه (بك) ثم انهم بعد موت صالح بنوا بلدة هناك سموها حاضوراء فاقاموا؟
وغنوا وكثروا، ثم بغوا وعبدوا الأصنام، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان

فقتلوه، فأهلكهم وعطل بئرهم وقصورهم ولم يبق منهم أحدا كما ذكر الله القائل «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» هؤلاء الّذين لا يؤمنون بك يا محمد فينظروا إلى آثار الأمم المهلكة قبلهم بسبب تكذيبهم أنبيائهم «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها» كيفية إهلاكهم وسببه «أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» ما كان منهم وما وقع من أفعالهم وما كانوا يعاملون به أنبياءهم من الجفاء والإهانة فيتذكرون ويتعظون ويعتبرون، ولكن لو فعلوا ذلك لم ينفعهم لأنهم لم يوفقوا للخير لسابق شقائهم «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ» عن الرّؤية لتلك الآثار ولو عميت فإن عماها لا يضر في الدّين ولا يمنع التفكر والتذكر «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (٤٦) فهي التي عماها يضرّ في ذلك ويمنع من الاعتبار ولهذا فلا تنفعهم الذكرى. تشير هذه الآية الجليلة إلى أن هؤلاء عمي القلوب ويقال عمه القلوب بالهاء لا ينتفعون بشيء من الآيات لأن ما تراكم عليها من صدأ الكفر وظلمته حال دون النّظر إليها والتفكر بها من الأبصار التي في الرّأس لأنها لا تفيد بلا بصيرة قال تعالى «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ» يا سيد الرّسل «بِالْعَذابِ» الذي تعدهم به وتهددهم بعظمه فقل لهم إنه لآت لا محالة، لأنه مما وعد الله «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» لأنه مقدر عنده إلى يوم وأيّام الله طويلة ليست كأيامكم «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (٤٧) وأيّام العذاب من هذا القبيل ترى طويلة لشدة ما يقاسيه العذاب، فلا تستعجلوا بطلبه وكيف تريدون أن ينزل بكم وأنتم تعلمون أن أيّام الشّدة في الدّنيا طويلة على ما تعلمون من قصرها وانتهائها، فكيف بأيام الآخرة التي لا غاية لها معلومة، فانتظروا ولا تغتروا بالإمهال «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ» فأدررت عليها الرّزق والولد والجاه لتستدرج لما هي عليه من الشّر لأنها خلقت شريرة لا ينفعها النصح، فاغترت وتمادت بالعصيان، حتى ظنت الإهمال لطول الإمهال، وإنها لم تؤخذ «ثُمَّ أَخَذْتُها» على غرّة «وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» (٤٨) لا إلى غيري مهما طال أمدهم وأمهلهم، ترمي هذه الآية إلى تحذير الأمة من التمادي في المعاصي، وعدم الاغترار بما يملي لهم. وهم ما هم على ما هم عليه، وإنها إذا لم ترجع إلى الحق
صفحة رقم 181