
وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنه ينصرهم ويدفع عنهم أذاهم وشر وأنهم خونة، فكان على ما أخبر؛ فدل أنه عرف باللَّه ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) قال بعض أهل التأويل: إن المشركين كانوا لا يزالون يؤذون أصحاب رسول اللَّه ويقاتلونهم وهم لم يؤمروا بقتال بعد، فلما هاجروا إلى المدينة أمروا بقتالهم بقوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه لم يكن لهم الأمر بقتالهم، ولا الإذن حتى أمروا بذلك، وأُذنوا، فقال أُولَئِكَ: لم تؤمروا بقتالنا، فيكف تقاتلوننا؟ فأخبر: أنهم أذنوا وأمروا بالقتال معهم، والله أعلم بذلك.
وظاهره: أنه كان هنالك منع عن القتال حتى أذنوا وأمروا، ولكن لا ندري لأية جهة كان ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ظاهر على ما أخبر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ... (٤٠) قال بعض أهل التأويل: أخرج الكفار أصحاب رسول اللَّه من مكة بغير حق بأن قالوا: ربنا اللَّه، وآمنوا به ووحدوه؛ لهذا أخرجوهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: على التقديم والتأخير، يقول: كأنه قال: أذن للذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق أن يقاتلوهم إلا أن يقولوا: ربنا اللَّه، فإذا قالوا ذلك يرفع عنهم القتال؛ لأن أهل مكة كانوا لا يقرون باللَّه ولا يؤمنون به، فإذا قالوا ذلك وأقروا أنه ربهم رفع عنهم القتال، وأما من يقر به ويصدقه لكنه ينكر رسالة مُحَمَّد ونبوته، فما لم يقر بها ولا يصدق بها فإن القتال لا يرفع عنهم، ومن يقر به ويصدقه بأنه رسوله إلا أنه ينكر الشرائع فإنه يقاتل حتى يقر بها ويصدق بها، فإذا أقر بها رفع عنهم القتال، وذلك كله روي في الخبر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أُمِرتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالَهم إلا بحقهَا "، وفي خبر آخر: " حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأني رسول اللَّه، فإذا قالوا ذلك عصموا مني... " كذا، وفي خبر آخر: " حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول اللَّه، وأقاموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ... " إلى آخر ما ذكر، فالأول للذين

يقرون بوحدانية اللَّه تعالى، فإذا أقروا به رفع عنهم القتال، والثاني في الذين يقرون به ولا يؤمنون بالرسالة، فإذا آمنوا بها رفع عنهم القتال، والثالث في الذين يقرون باللَّه ويؤمنون برسوله لكنهم ينكرون الشرائع، فإذا أقروا بها رفع عنهم القتال. كانوا أنواعًا ثلاثة على ما ذكرنا؛ فجاء في كل فريق ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ...) إلى آخر ما ذكر، وقال في آية أخرى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) وفي موضع آخر: (لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)، ونحوه.
قَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بالنبيين عن المؤمنين، ودفع بالمجاهدين عن القاعدين ما لو لم يدفع لهدمت كذا وما ذكر، أي: دفع بالأخيار عن الأشرار، وبالأخير عن الأدون، وإلا لهدمت وفسد ما ذكر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لولا أن اللَّه يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن يصوم عمن لا يصوم، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي، وبمن يفعل الخيرات عمن لا يفعل - لفسدت الأرض، ولهدمت الصوامع، وما ذكر، وعلى ذلك روي عن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى بأهل دمشق صلاة الصبح، فقال: لو يعلم الناس ما في هذه الصلاة من الخير لحضروها. ثم قال: لولا أن اللَّه يدفع بمن يحضر المساجد عمن لا يحضرها، وبالغزاة عمن لا يغزو - لجاءهم العذاب قبلا. أو كلام نحو هذا.
وقال الحسن: إن في الصوامع والبيع والكنائس من الرهبان والأحبار من يتمسك بالإسلام وشرائعه فيدفع بهم عمن لا يتمسك منهم.
وقال بعضههم: لولا دفع اللَّه بأهل هذا الذين كلهم، لكان كذا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بالمسلمين عن مسجدهم، وبالنصارى عن بيعتهم، وباليهود عن كنيستهم. إلى هذا ذهب أهل التأويل والمتقدمون، ولو قيل غير هذا كان أشبه وأقرب، وهو أن اللَّه خلق هذا الخلق، وجعل بعضهم عونًا لبعض وردءًا في أمر المعاش والدِّين جميعًا، وجعل لبعضهم منافع متصلة ببعض ما لو كلف كله القيام بنفسه فيه، لهلكوا ولم يكن في وسعهم القيام بذلك، نحو أن يكلف أحدًا بالقيام بجميع ما يحتاج إليه من الحراثة، والزراعة، والحصاد، والدياس، والتذرية، والطحن، والخبز، وغيره، ما لو كلف بنفسه بذلك كله لهلك، ولكن جعل بعضهم عونا لبعض وردءًا لهم، وانتفاع بعضهم ببعض، وكذلك الغزل، والنسج، والخياطة، والقطع، والغسل كله على هذا القياس ما لو كلف بنفسه القيام بذلك كله لهلكوا، ولو هلكوا هلك ما لهم خلق من السماوات والأرض

وما فيها، وما سخر لهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بما يذكر أهل المساجد في المساجد من اسم اللَّه عن أهل الصوامع والبيع والكنائس، وهو قريب مما ذكرنا من قبل.
ثم اختلف فيما ذكر من الصوامع والبيع والصلوات:
قَالَ بَعْضُهُمْ: الصوامع للراهبين، والبيع للنصارى، والصلوات: الكنائس التي تكون لليهود، والمساجد للمسلمين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصلوات للصابئين.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصوامع للصابئين، والبيع للنصارى، وصلوات: بيوت صلوات اليهود، والمساجد للمسلمين.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الصوامع للرهبان، والبيع للنصارى: مصلاهم، والصلوات لليهود، وهي شبه البيعة، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي: من كان من أولياء اللَّه نصره.
وقال الحسن: من حكمه أن من نصر اللَّه نصره. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) يحتمل: قوي لنصر أوليائه، عزيز الانتقام من أعدائه.
أو أن يكون قوله: (لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي: قوي، فيضعف كل قوي من دونه عند قواه، ويذل كل عزيز عند عزه.
أو قوي لا قوي سواه، عزيز لا عزيز سواه.
وفي: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ) وما ذكر - دلالة ترك هدم الكنائس والبيع وما ذكر، والنهي عن هدمها؛ لأنه ذكر الصوامع والبيع، وعلى ذلك تركت الكنائس والبيع في أمصار المسلمين لم تهدم، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، وإنَّمَا يمنعون عن إحداث البيع والكنائس في أمصار المسلمين وقراهم، وأمَّا العتيقة منها فإنهم يتركون وذلك، واللَّه أعلم.