
(إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي إن الله يفعل فى خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته، وإكرام من أراد إكرامه، فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
تفسير المفردات
خصمان: واحدهما خصم، وهو من له رأى غير رأيك فى موضوع ما، وكل منهما يحاجّ صاحبه فيه، قطعت لهم: أي قدّرت، والحميم: الماء الذي بلغت حرارته أقصى الغاية، يصهر به: أي يذاب، ومقامع: واحدها مقمعة، وهى السوط، والغم: الحزن الشديد، والطيّب من القول: ما يقع فى محاورة أهل الجنة بعضهم بعضا، وصراط الحميد:
أي الطريق المحمود فى آداب المعاشرة والاجتماع.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أرباب الفرق الست فيما سلف، وذكر أن الله يفصل بينهم يوم القيامة وهو العليم بأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم- قفىّ على ذلك بذكر طرفى الخصومة،

وتعيين موضع الخصومة، وبيان مآل كل من الفريقين من الإهانة والكرامة، والعذاب والنعيم.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: تخاصم المؤمنون واليهود فقالت اليهود: نحن أولى بالله تعالى وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، وقال المؤمنون:
نحن أحق بالله تعالى. آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وآمنا بنبيكم، وبما أنزل الله تعالى من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا فنزلت الآية ويرى جماعة من الصحابة والتابعين وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول أن المراد بالخصمين هنا هم الذين برزوا يوم بدر، فمن المؤمنين حمزة وعلى وعبيدة، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وكان أبو ذر يقسم إن هذه الآيات نزلت فى هؤلاء المتبارزين كما ثبت عنه فى الصحيحين وغيرهما.
وروى البخاري وغيره عن علىّ أنه قال: فينا نزلت هذه الآية وأنا أول من يجثو فى الخصومة على ركبتيه بين يدى الله يوم القيامة.
الإيضاح
(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي إن أهل الأديان الستة التي سبق ذكرها فريقان: فريق المؤمنين. وفريق الكافرين أرباب الديانات الخمس المتقدمة- جادلوا فى دين الله، فكل فريق يعتقد أن ما هو عليه هو الحق وأن ما عليه خصمه هو الباطل، وبنى على ذلك كل أقواله وأفعاله، وهذا كاف فى تحقيق الخصومة وإن لم يحصل بينهما تحاور بالفعل.
ثم ذكر مآل كل فريق وما يلقاه من الجزاء بعد أن يفصل الله بينهما، وذكر من جزاء فريق الكافرين أمورا ثلاثة:
(١) (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فالكافرون أعدّت لهم نيران تحيط بهم كأنها ثياب قدّرت على قدر أجسامهم.

ولا يخفى ما فى هذا الأسلوب من التهكم بهم واحتقار شأنهم.
والتعبير بثياب، للإشارة إلى تراكم طبقات النار المحيط بهم وكون بعضها فوق بعض.
وشبيه بالآية قوله: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ».
(٢) (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي يصب من فوق رءوسهم الماء الحار الذي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يحرق جلودهم، فله أثر فى الباطن والظاهر.
أخرج عبد بن حميد والترمذي فى جماعة عن أبى هريرة أنه تلا هذه الآية فقال:
سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ من الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما فى جوفه حتى يبلغ قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان».
(٣) (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) أي ولتعذيبهم سياط من حديد، تضرب بها رءوسهم ووجوههم، يقمعون بها ويردّون ردا عنيفا إذا أرادوا الهرب من النار.
وإلى هذا أشار بقوله:
(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي إنهم كلما حاولوا الهرب من جهنم والخروج منها حين يلحقهم عظيم عذابها أعيدوا فيها وضربوا بسياط من حديد وقيل لهم: ذوقوا عذاب هذه النار التي تحرق الأمعاء والأحشاء.
وبعد أن بين سوء حال الكافرين أردف ذلك ببيان ما يناله المؤمنون من الكرامة فى المسكن والحلية والملبس وحسن القول والعمل فقال:
(١) (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله يدخل من آمن به وبرسله وعمل صالح الأعمال التي تزكى نفوسهم وتقربهم