
ميمي أي فما له من إكرام إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) من الإكرام بالثواب والإهانة بالعقاب هذانِ خَصْمانِ أي طائفة المؤمنين وطائفة الكفار المنقسمة إلى الفرق الخمس فريقان مختصمان.
وقرأ ابن كثير «هذان» بتشديد النون.
وروي عن الكسائي «خصمان» بكسر الخاء اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في شأنه قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في المسلمين وأهل الكتاب حيث قال أهل الكتاب: نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم. وقال المسلمون: نحن أحق بالله منكم آمنا بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. فهذه خصومتهم في ربهم فحكم الله بينهم فقال: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي قدرت على مقادير جثثهم نيران تحيط بهم إحاطة الثياب بلابسها. فالمراد بالثياب إحاطة النار بهم أي جعلت النار محيطة بهم كقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: ٤١]، كما روي عن أنس، وقال سعيد ابن جبير: أي قطعت قمص وجباب من نحاس أذيب بالنار كقوله تعالى: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: ٥٠]. فليس شيء حمى بالنار أشد حرارة منه يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) أي الماء الحار يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) أي يذاب بالماء الحار إذا يصب على رؤوسهم ظاهرهم وباطنهم من الجلود والأمعاء.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي: «إن الحميم ليصب من فوق رؤوسهم فينفذ من جمجمة أحدهم حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه- وهو الصهر- ثم يعاد كما كان»
«١».
وَلَهُمْ أي للكفرة مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) أي مطارق من حديد ف «اللام» للاستحقاق كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي من النار مِنْ غَمٍّ شديد أُعِيدُوا فِيها بالمقامع.
روي عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفا وَقيل لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) أي عذاب الغليظ من النار لعظيم الإهلاك إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها بالبناء للمفعول وبتشديد اللام أي يزينون. وقرئ بسكون الحاء أي يبلسون في الجنة أي تحليهم الملائكة بأمره تعالى. وقرئ «يحلون» بفتح الياء وسكون الحاء أي يلبسون حليهم مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً بالجر في قراءة الجمهور عطفا على ذهب بناء على أن الأساور مركبة منهما بأن يرصع الذهب باللؤلؤ وفي سورة الكهف ليس فيها ذكر لؤلؤ وفي سورة هل أتى لم يذكر فيها اللؤلؤ ولا الذهب وهنا قد ذكرا فيجتمع لهم التزين بهذه الأمور بالذهب

وحده وبالفضة وحدها وبالذهب واللؤلؤ وبالنصب في قراءة نافع وعاصم عطفا على محل من أساور، لأنه يقدر ويحلون حليا من أساور ويحلون لؤلؤا فمن ذهب بيان للأساور وَلِباسُهُمْ فِيها أي الجنة حَرِيرٌ (٢٣) أي أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة فلا يمكن عراؤهم منه وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة الآية كما قاله ابن عباس في رواية عطاء وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) أي أرشدوا إلى الطريق إلى الله تعالى وهو دين الإسلام فالحميد هو الله فهو محمود في أفعاله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يصرفون الناس عن دين الله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وعن دخوله الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ أي المقيم فِيهِ وَالْبادِ أي الطارئ. وقرأ حفص عن عاصم ويعقوب «سواء» بالنصب مفعول ثان ل «جعلناه» و «العاكف» مرفوع به على الفاعلية وللناس متعلق «بسواء» ظرف له. والباقون «سواء» بالرفع على أنه خبر مقدم و «العاكف» مبتدأ والجملة مفعول ثان ل «جعلناه». وقرئ «العاكف» بالجر على أنه بدل من الناس وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) فبإلحاد وبظلم حالان مترادفان ومفعول «يرد» متروك ليتناول كل متناول أي ومن يرد في مكة مرادا، مائلا عن الاعتدال ظالما أحدا نذقه من عذاب أليم فإن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق العدل في جميع ما يقصده. وقرئ «يرد» بفتح الياء أي من أتى فيه بإلحاد كاحتكار الطعام، وكدخول مكة بغير إحرام وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مرجعا له بأن يكون موحدا بقلبه لرب البيت عن الشريك ومشتغلا بجسده بتنظيف البيت عن الأوثان أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ف «أن» مفسرة ل «بوأنا» أي لا تشرك بي غرضا آخر في بناء البيت ولا تجعل في العبادة لي شريكا وكان البيت قد رفع إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله تعالى إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله، فبناه على أسه الأول، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ من الأوثان والأقذار لِلطَّائِفِينَ حوله وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) أي المصلين الجامعين بين القيام والركوع والسجود وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أي ناد فيهم بالأمر بالحج زوي أن سيدنا إبراهيم صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس حجوا بيت ربكم فأجابه يومئذ بالتلبية من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجابه أهل اليمن فليس حاج يحج من يومئذ إلى يوم تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ فمن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته يَأْتُوكَ أي يأتوا البيت الذي بنيته رِجالًا أي مشاة على أرجلهم. وقرئ بضم الراء وتخفيف الجيم وتشديدها. وقرئ «رجالي» كعجالي عن ابن عباس وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي وركبانا على كل بعير مهزول لطول سفره يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) أي تأتي جماعة الإبل من كل طريق بعيد. وقرئ «يأتون» أي الناس لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ
صفحة رقم 70
لَهُمْ
أي ليحضروا منافع مختصة بهذه العبادة كائنة لهم دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادة كحصول المغفرة والأموال وقوله تعالى: لِيَشْهَدُوا متعلق ب «يأتوك» وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ وهي أيام عشر ذي الحجة كما اختاره الشافعي وأبو حنيفة لأنه معلوم عند الناس لحرصهم على علمه من أجل أن وقت الحج في آخره. وقال ابن عباس في رواية عطاء: إن أياما معلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده، كما اختاره أبو مسلم وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى. والمراد بالذكر ما وقع عند الذبح كان يقول الذابح باسم الله، والله أكبر اللهم منك وإليك، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي لأجل ما رزقهم من الإبل والبقر والغنم، قال القفال: وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلبا لمرضاة الله تعالى واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته فَكُلُوا مِنْها أي فاذكروا اسم الله على ضحاياكم فكلوا من لحومها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨).
تَفَثَهُمْ
أي ثم بعد خروجهم من الإحرام ليقطعوا أدرانهم كالشارب والأظفار والإبط والعانة وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أي ما أوجبوه على أنفسهم ما لم يكن الحج يقتضي وجوب ذلك من الضحايا وغيرها.
وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشديد الفاء أي ليتموا ذلك وَلْيَطَّوَّفُوا الطواف الذي يتم به التحلل بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) أي القديم، لأنه أول بيت بني وقد أعتق من غرق الطوفان زمن نوح ومن تسلط كل جبار دخل فيه ليهدمه، وهو بيت كريم لم يملك قط. وفي قراءة أبي عمر وتحريك اللامات الثلاثة بالكسر. وفي قراءة ابن ذكوان بكسر اللامين الأخيرين. وفي قراءة الباقين بإسكان الكل ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف ويذكر للفصل بين كلامين أي الشأن، ذلك المذكور من قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا إلى هنا أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الأمر لازم لكم أو مفعول لمحذوف أي احفظوا ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ومن يعظم جميع تكاليف الله تعالى من مناسك الحج وغيرها بالعمل بموجبه فتعظيمه قربة عند الله يثاب عليها في الآخرة وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي رخصت لكم حال الإحرام ذبيحة الأنعام وأكل لحومها إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه مما حرم منها لعارض كالميتة