
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار».
ومن أهانه الله بالشقاء والكفر لسوء استعداده لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، والذين حق عليهم العذاب، ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم، فيكون مكرما لهم.
وإن الله تعالى هو الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب. والمراد من بيان إطلاق المشيئة لله أن مصير الكافرين إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه.
جزاء الكافرين والمؤمنين
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤)

الإعراب:
يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ: حال من ضمير لَهُمْ أو خبر ثان.
يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ: ما: نائب فاعل، وَالْجُلُودُ: معطوف عليه، وهاء بِهِ عائدة على الْحَمِيمُ. والجملة: حال من الْحَمِيمُ أو من ضمير «هم».
مِنْ غَمٍّ في موضع نصب لأنه بدل من قوله: مِنْها أي: كلما أرادوا أن يخرجوا من غم أعيدوا فيها.
وَذُوقُوا عَذابَ على حذف القول، أي: ويقال لهم: ذوقوا عذاب الحريق، وهذا كثير في كلام العرب.
مِنْ أَساوِرَ صفة مفعول محذوف.
وَلُؤْلُؤاً إما منصوب بتقدير فعل، أي ويعطون لؤلؤا، لدلالة يُحَلَّوْنَ عليه في أول الكلام. وإما معطوف على موضع الجار والمجرور من قوله: مِنْ أَساوِرَ كأن يقال: مررت بزيد وعمرا. وعلى قراءة الجر يكون معطوفا على أَساوِرَ أو على الذهب بأن يرصع اللؤلؤ بالذهب.
البلاغة:
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في دين ربهم، فهو على حذف مضاف. وقوله: هذانِ للفظ، واخْتَصَمُوا للمعنى.
قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ استعارة عن إحاطة النار بهم كإحاطة الثوب بلابسه.
المفردات اللغوية:
هذانِ خَصْمانِ الخصم: من يعارض غيره في الرأي. وقد وصف به الفريق أو الفوج، فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان مختصمان متنازعان، وقوله: هذانِ للفظ، واخْتَصَمُوا
للمعنى، والمراد بهما: المؤمنون والكافرون. والخصم: يطلق على الواحد والجماعة.
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في دينه أو في ذاته وصفاته قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ أي قدّرت لهم ثياب يلبسونها، والمراد: نيران تحيط بهم إحاطة الثياب الْحَمِيمُ الماء البالغ نهاية الحرارة يُصْهَرُ بِهِ يذاب ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ أي يؤثر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم، فيذاب به

أحشاؤهم، كما يذاب أو يشوى به جلودهم مَقامِعُ مضارب أو سياط حديد يجلدون بها، جمع مقمعة.
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي من النار مِنْ غَمٍّ حزن شديد يلحقهم بها أُعِيدُوا فِيها ردوا إليها بالمقامع ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي ويقال لهم: ذوقوا العذاب البالغ نهاية الإحراق، أو العذاب المحرق.
مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة، وهي جمع سوار، أي فالأساور جمع الجمع، وهي حلية تلبسها النساء في معاصمها وَلُؤْلُؤاً هو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف حَرِيرٌ هو المحرم لبسه على الرجال في الدنيا. وَهُدُوا أرشدوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، أو هو قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر ٣٩/ ٧٤] أو كلام أهل الجنة مع بعضهم بعضا صِراطِ الْحَمِيدِ أي الطريق المحمود، وهو الإسلام أو طريق الجنة، أو آداب المعاشرة والاجتماع. والأصح أنه طريق الله الحميد أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة.
سبب النزول: نزول الآية (١٩) :
هذانِ خَصْمانِ: أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي ذر قال: نزلت هذه الآية: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة. أي الفريقين اللذين قاما بالمبارزة في بداية معركة بدر.
وأخرج الحاكم عن علي قال: فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر:
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إلى قوله: الْحَرِيقِ.
وأخرج الحاكم من وجه آخر عن علي قال: نزلت في الذين بارزوا يوم بدر:
حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: أنها نزلت في أهل الكتاب قالوا

للمؤمنين: نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون:
نحن أحق بالله، آمنا بمحمد وبنبيكم، وبما أنزل الله من كتاب.
المناسبة:
بعد بيان أهل الفرق الستة وقضاء الله بينهم بالعدل، ذكر هنا تصنيفهم إلى فريقين: فريق الإيمان، وفريق الكفر، ثم محاورتهم فيما بينهم في الأهدى طريقا، ومآل كل من الفريقين إلى الجحيم أو إلى النعيم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن خصومة فريقين اختصموا في دين الله وذاته وصفاته فيقول: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي إن أهل الأديان المختلفة الستة المتقدم بيانهم هم فريقان متميزان: فريق المؤمنين، وفريق الكافرين الذين هم أتباع الديانات الخمس المتقدمة، تنازعوا وتجادلوا في شأن ربهم وفي دينه، وكل منهم يعتقد أنه على حق، وأن خصمه على الباطل ويبني على أساس ذلك جهاده وسلوكه وفكره.
والحق أن مصير الفريقين واضح، أما الفريق الأول وهم الكافرون فجزاؤهم: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي فالكافرون تحيط بهم النار إحاطة شاملة، وقد مثّل ذلك بأنه فصلت لهم مقطعات من نار تحيط بهم كإحاطة الثوب بلابسه، مما يومئ بشدة عذابهم واحتقار شأنهم، كما قال تعالى:
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف ٧/ ٤١] وقال سبحانه:
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم ١٤/ ٥٠].
يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ أي يصب على رؤوسهم الماء البالغ درجة الغليان الذي يذيب ما في بطونهم من أحشاء، ويشوي جلودهم، فيحرق الباطن والظاهر.

روى ابن جرير والترمذي وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم، فينفذ الجمجمة، حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه، حتى يبلغ قدميه، وهو الصّهر، ثم يعاد كما كان».
وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ أي لهم مضارب أو سياط من حديد، يضربون بها على وجوههم ورؤوسهم وأعضائهم وأجسادهم.
أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض، فاجتمع له الثقلان، ما أقاموه من الأرض».
وأخرج عن أبي سعيد أيضا قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت، ثم عاد كما كان، ولو أن دلوا من غسّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا».
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ... أي كلما حاولوا الهرب من جهنم بسبب شدة العذاب والغم، أي الحزن الشديد، أعيدوا فيها كما كانوا، ويقال لهم: ذوقوا العذاب المحرق، وعذاب هذه النار المحرقة. قال الفضيل بن عياض:
والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة، وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها.
وقوله: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ كقوله: وَقِيلَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة ٣٢/ ٢٠] ومعنى الكلام: أنهم يهانون بالعذاب قولا وعملا.
وبعد بيان سوء حال الكافرين وما هم فيه من العذاب والنكال، والحريق والأغلال، ذكر تعالى حسن أهل الجنة، فقال:
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. أي إن الله يدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات أي الطاعات والقربات، ويتجنبون المنكرات

جنات عالية رفيعة تجري الأنهار من تحت أشجارها وجوانبها وقصورها، يوجهونها حيث أرادوا.
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً أي وحليتهم التي يلبسونها أساور الذهب في أيديهم أو تكون مرصعة باللؤلؤ، ويؤتون لؤلؤا يزينون به هاماتهم ورؤوسهم، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء»
واللؤلؤ كما تقدم: هو ما يستخرج من البحر من جوف الصّدف.
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أي ويرتدون الحرير الذي كان محرما لباسه على الرجال في الدنيا، في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم، ويؤكدها آية أخرى: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [فاطر ٣٥/ ٣٣].
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ أي أرشدوا إلى القول الطيب، وهو كلمة التوحيد أو قوله تعالى حين دخول الجنة: وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر ٣٩/ ٧٤]. أو إلى تحية الملائكة لهم بالسلام، وهذا في مقابل أهل النار الذين يقرعون ويوبخون ويقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.
وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي وأرشدوا إلى الطريق المحمود أو إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على نعمه وأفضاله، أو إلى السلوك الحسن المرضي ربهم في أقوالهم وأفعالهم، والأصح: إلى طريق الله الحميد أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه حال المؤمنين وحال الكافرين في الآخرة، أما الكافرون من الفرق الخمس الذين تقدم ذكرهم، فخيطت وسويت لهم ثياب شاملة من نار، أي أنها

تحيط بهم إحاطة كاملة، ويصب على رؤوسهم الماء الحار المغلي بنار جهنم، يذيب أحشاء بطونهم وشحومها، ويشوي الجلود أو يحرقها، فإن الجلود لا تذاب، فيضم في كل شيء ما يليق به، ويضربون ويدفعون بمضارب ثقيلة من حديد.
وإذا حاولوا الخروج من النار حين تفور بهم، فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها، فتعيدهم خزنة النار إليها بالمقامع، ويقولون لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي المحرق. والذوق: مماسّة يحصل معها إدراك الطعم، والمراد به إدراكهم الألم.
وأما المؤمنون فلهم ألوان عديدة من النعم، منها أنهم يحلون بأساور الذهب، ويحلون لؤلؤا يزينون به تيجانهم، قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت، أي الذي لا يخالطه غيره.
قال القرطبي: وهو ظاهر القرآن ونصه.
وجميع ما يلبسونه وينتفعون به من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير.
وأرشدوا إلى طيب القول، قال ابن عباس يريد لا إله إلا الله، والحمد لله، كما أرشدوا إلى صراط الله وهو في الدنيا دينه وهو الإسلام، وفي الآخرة الطيب من القول: وهو الحمد لله لأنهم يقولون غدا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف ٧/ ٤٣]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر ٣٥/ ٣٤] فليس في الجنة لغو ولا كذب، فما يقولونه فهو طيّب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله وهو الإسلام أو إلى طريق الجنة، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله وقيل: الطيب من القول: ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة.
أما في الدنيا فالحرير والذهب محرم استعمالهما حلية على الرجال، حلال للنساء، أما الانتفاع بآنية الذهب والفضة كالأكل والشرب فهو حرام مطلقا على