
١٦ - وقوله ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: ومثل ذلك. يعني ما تقدم من آيات القرآن (١). وإن شئت قلت: وهكذا. وهو مذهب مقاتل بن سليمان (٢). ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ أنزلنا القرآن.
﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ قال ابن عباس: يريد لأهل التوحيد. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ﴾ أي: وأنزلنا إليك أن الله يهدي. قال ابن عباس: يعني (٣) يرشد إلى دينه ﴿مَنْ يُرِيدُ﴾.
وهذا الآية دليل على أن مِلاك الهدى والضلالة منوط بالإرادة تكذيبًا للقدرية.
١٧ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية، تقدم الكلام في تفسير هؤلاء الفرق المذكورة (٤) إلى قوله ﴿وَالْمَجُوسَ﴾.
قال الأزهري: والمجوس معرب، أصله: منْج كُوش، وكان رجلاً صغير الأذنين، هو أول من دان بدين المجوس، ودعاهم إلى المجوسية، فعربته (٥) العرب فقالت: مجوس، وربما تركت العرب صرف مجوس تشبيهًا بالقبيلة وذلك أنه اجتمع فيه التأنيث والعجمة، ومنه قوله (٦):
(٢) "تفسير مقاتل" ٢/ ٢١ أ.
(٣) في (ظ): (يريد).
(٤) انظر: "البسيط" ١/ ٧٥٦، ٥٧ أ، ب أزهرية.
(٥) في (ظ)، (د)، (ع): (فعربت).
(٦) هذا عجز بيت أنشده الأزهري في "تهذيب اللغة" ١٠/ ٦٠٢ من غير نسبة وهو للتوأم اليشكري، أجاز به قال امرؤ القيس، وكان امرؤ القيس قد نازع التوأم وقال له: إن كنت شاعرًا فملط -التمليط: أن يقول الشاعر نصف بيت ويتمه الشاعر الآخر. "القاموس المحيط" ٢/ ٣٨٧ (ملط) - أنصاف ما أمول وأجزها، فقال =

كنَارِ مَجُوس تَسْتَعرُ اسِتْعَارا
وقد تمجَّس الرجل إذا دان (١) بدين المجوس، ومَجَّس غَيره إذا علَّمه دين المجوسية (٢).
وقال غير الأزهري: المجوس يقال إنهم سموا بذلك لأن الميم جُعلت بدلاً من النون، كان يقال لهم النجوس (٣) لنجاستهم وتدينهم باستعمال النجاسة، وقد تعتقب الميم النون مثل الغيم (٤) والغين والأيم والأين (٥).
أصاح أريك برقا هب وهنا
ويروى:
أحارِ ترى بُريقا هب وهنا
فقال التوأم:
كنَارِ مَجُوس تَسْتَعرُ اسِتْعَارا
وهذا البيت مع الخبر في "ديوان امرئ القيس" ص ١٧٤ من رواية الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، وفي "لسان العرب" ٦/ ٢١٣ (مجس)، و"تاج العروس" للزبيدي ٢٠/ ١٢٣ (ملط).
ونسب سبيويه في "الكتاب" ٣/ ٢٥٤، والجوهري في "الصحاح" ٣/ ٩٧٧ (مجس) البيت لامرئ القيس.
وهو من غير نسبة في: كتاب "ما ينصرف وما لا ينصرف" للزجاج ص ٨٢، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ٢/ ١٣٩، "تاج العروس" للزبيدي ١٦/ ٤٩٦ (مجس).
(١) في (أ): (كان)، وهو خطأ.
(٢) "تهذيب اللغة" للأزهري ١٠/ ٦٠١ - ٦٠٢ (مجس).
وانظر: "الصحاح" للجوهري ٣/ ٩٧٧ (مجس)، "لسان العرب" ٦/ ٢١٣، ٢١٥ (مجس).
(٣) في (ظ)، (ع)، (د): (المجوس)، وهو خطأ.
(٤) في (أ): (الغنم والغنن)، وهو خطأ.
(٥) لم أجد من ذكر هذا القول فيما وقفت عليه من المصادر اللغوية. وقد ذكره =

والقول ما ذكره الأزهري.
قوله ﴿وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ يعني مشركي العرب.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ قال أبو إسحاق: خبر (إن) الأولى جملة الكلام مع (إن) الثانية (١).
يعني قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ﴾.
قال الفراء: وربما قالت العرب: إن أخاك إن الدين عليه لكثير. فيجعلون (إن) في خبره. وأنشد:
إن الخليفة إن الله سربله... البيت (٢)
انظر: "الإبدال والمعاقبة والنظائر" للزجاجي ص ١٠٥، "الإبدال" لأبي الطيب اللغوي ٢/ ٤٢٣، ٤٣٤.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٤١٧.
(٢) كلام الفراء وإنشاده في "معاني القرآن" له ٢/ ٢١٨. والبيت لجرير من قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن عبد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وتتمته:
سِرْبال ملك به تُرْجَى الخواتيمُ
وهو في "ديوانه" ٢/ ٦٧٢ وروايته فيه: يكفي الخليفة أن الله سربله، ولا شاهد فيه على ذلك.
و"خزانة الأدب" ١٠/ ٣٦٤ - ٣٦٨ وعجزه عنده: لباس ملك به تُرْجى الخواتيم. قال البغدادي ١٠/ ٣٦٤: سربله: ألبسه، يتعدى لمفعولين أولهما ضمير الخليفة، والثاني اللباس بمعنى الثوب.. وتُرجى -بالزاي والجيم- والإرجاء: السوق. والخواتيم: جمع خاتام لغة في الخاتم. يريد إن سلاطين الآفاق يرسلون إليهم خواتمهم خوفًا منه، فيضاف ملكهم إلى ملكه. ويروى (ترجى) بالراء المهملة من الرجاء. وهذه الرواية أكثر من الأولى.

وهذا كما ذكرنا (١) في قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٣٠].
قال الفراء: وإنما جاز هذا لأن الاسمين قد اختلفا، فحسن رفض الأول وجعل الثاني كأنه هو المبتدأ، فحسن لاختلاف اسمي (٢) (إن)، ولا يجوز: إنك إنك (٣) قائم، ولا: إن أباك إنه قائم؛ لاتفاق الاسمين (٤).
قال الزجاج: وليس بين البصريين خلاف في أن (إن) (٥) تدخل على كل ابتداء وخبر، تقول: إن زيدًا إنه قائم (٦).
فأجاز أبو إسحاق ما استقبحه الفراء ولم يجزه.
وقال صاحب النظم: لما قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وما تبع ذلك (٧) من الكلام وطال صارت (إن) كأنها مُلغاة لتباعدها عن خبرها (٨) فأعاد (٩) ذكرها عند الجواب؛ ليعلم أن الجواب متصل بالابتداء توكيدًا للشرح. قال: ويجوز أن يكون إنما وجب أن يقدم ذكر الله -عَزَّ وَجَلَّ- في مبتدأ الخبر (١٠) على نظم: إن الله يفصل (١١) يوم القيامة بين الذين آمنوا والذين
(٢) في (أ): (إسم).
(٣) إنك (الثانية): ساقطة من (ظ).
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢١٨ مع تصرف واختلاف في العبارة.
(٥) (إن): ساقطة من (ظ).
(٦) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٤١٨.
(٧) ذلك: ساقطة من (ظ)، (د)، (ع).
(٨) في (أ): (حيزها).
(٩) في (أ): (وأعاد).
(١٠) في (أ): (الخير). وهو تصحيف.
(١١) في (ظ) زيادة (بينهم) بعد قوله (يفصل).

هادوا. فلما قدم ذكرهم في الابتداء أعاد ذكر اسمه بالتقديم ليدل على أن وضع مبتدأيه (١) على هذا النظم.
ومعنى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾ قال ابن عباس: يقضي بينهم يوم القيامة.
وفسر الزجاج هذا الفصل والقضاء بين هؤلاء الفرق بإدخال المؤمنين الجنة والآخرين النار، واحتج بقوله بعد هذا ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾. وقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الآية.
وقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ من أعمال هؤلاء الفرق.
قال ابن عباس: شهيد على ما في قلوبهم عالم به. وقال أهل المعاني: إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يفصل بين الخصوم في الدين يوم القيامة بما يضطر إلى العلم بصحة الصحيح فيبيض وجه المحق ويسود وجه المبطل (٢).
ومعنى الشهيد: العلم بما شاهده، والله -عَزَّ وَجَلَّ- يعلم كل شيء قبل أن يكون بأنه علام الغيوب.
١٨ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَر﴾ ألم تعلم؛ لأن المراد الرؤية بالقلب والفعل. وقد ذكرنا هذا في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا﴾ [البقرة: ٢٤٣] الآية.
وقوله: ﴿يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ قال الفراء: يعني أهل السموات ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ قال: يعني كل خلق [من الجبال ومن الجن وأشباه
(٢) انظر القرطبي ١٢/ ٢٣ فقد ذكر هذا القول مختصرًا بمعناه، وصدره بقول: قيل.