وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ أَيِ: اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ عَلَى رُسُلِهَا، فَمِنْ بَيْنِ مُصَدق لَهُمْ وَمُكَذِّبٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فيجازَى كُلٌّ بِحَسَبِ عَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أَيْ: قَلْبُهُ مُصَدِّقٌ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، ﴿فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا﴾ [الْكَهْفِ: ٣٠] أَيْ: لَا يُكْفَر سعيُه، وَهُوَ عَمَلُهُ، بَلْ يُشْكَر، فَلَا يُظْلَمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ أَيْ: يُكتب جميعُ عَمَلِهِ، فَلَا يَضيع عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (٩٧) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَجَبَ، يَعْنِي: قَدَرًا مُقَدرًا (١) أَنَّ أَهْلَ كُلِّ (٢) قَرْيَةٍ (٣) أُهْلِكُوا أَنَّهُمْ لَا يُرْجَعُونَ إِلَى الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ أَيْ: لَا يَتُوبُونَ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾ : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ هُمْ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ أَيْضًا (٤) مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ أَبِي التُّرْكِ، وَالتُّرْكُ شِرْذِمَةٌ مِنْهُمْ، تُرِكُوا مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ الَّذِي بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ.
وَقَالَ: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾ [الْكَهْفِ: ٩٨، ٩٩]، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ أَيْ: يُسْرِعُونَ فِي الْمَشْيِ إِلَى الْفَسَادِ.
والحَدَب: هُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهَذِهِ صِفَتُهُمْ فِي حَالِ خُرُوجِهِمْ، كَأَنَّ السَّامِعَ مُشَاهِدٌ لِذَلِكَ، ﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فَاطِرٍ: ١٤] : هَذَا إِخْبَارُ عَالِمٍ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السموات وَالْأَرْضِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: رَأَى ابُن عَبَّاسٍ صِبْيَانًا يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، يَلْعَبُونَ، فَقَالَ ابن عباس: هكذا
(٢) في ت، ف: "إن كل أهل".
(٣) في ت: "القرية".
(٤) في ف، أ: "عليه السلام".
يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ (١).
وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ خُرُوجِهِمْ فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَر بْنِ قَتَادَةَ، عن محمود بن لَبيد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُفتَح يأجوجُ ومأجوجُ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ": ﴿ [وَهُمْ] (٢) مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾، فيغشونَ النَّاسَ، وَيَنْحَازُ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إِلَى مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ (٣)، وَيَضُمُّونَ إِلَيْهِمْ مواشيَهم، وَيَشْرَبُونَ مِيَاهَ الْأَرْضِ، حَتَّى أَنَّ بعضَهم لَيَمُرُّ بِالنَّهْرِ، فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهِ حَتَّى يَتْرُكُوهُ يَبَسا، حَتَّى أَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ لَيَمُرُّ بِذَلِكَ النَّهْرِ فَيَقُولُ (٤) : قَدْ كَانَ هَاهُنَا مَاءٌ مَرَّةً حَتَّى إِذَا لَمْ يبقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا أحدٌ فِي حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ قَالَ قَائِلُهُمْ: هَؤُلَاءِ أهلُ الْأَرْضِ، قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ، بَقِيَ أهلُ السَّمَاءِ. قَالَ: "ثُمَّ يَهُزُّ أَحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ يَرْمِي بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَتَرْجِعُ إِلَيْهِ مُخْتَضبَةً دَمًا؛ لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دُودًا فِي أَعْنَاقِهِمْ كنَغَف الْجَرَادِ الَّذِي يَخْرُجُ فِي أَعْنَاقِهِ، فَيُصْبِحُونَ (٥) مَوْتًى لَا يُسمَع لَهُمْ حِسٌّ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: أَلَا رَجُلٌ يَشْري لَنَا نَفْسَهُ، فَيَنْظُرُ مَا فَعَلَ هَذَا الْعَدُوُّ؟ " قَالَ: "فَيَتَجَرَّدُ رَجُلٌ مِنْهُمْ مُحْتَسِبًا نَفْسَهُ، قَدْ أَوْطَنَهَا عَلَى أَنَّهُ مَقْتُولٌ، فَيَنْزِلُ فَيَجِدُهُمْ مَوْتًى، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَلَا أَبْشِرُوا، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ كَفَاكُمْ عَدُوَّكُمْ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ ويُسَرِّحون مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يَكُونُ لَهَا رَعْيٌ إِلَّا لُحُومَهُمْ، فَتَشْكر عَنْهُ كَأَحْسَنِ مَا شَكرَت عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّبَاتِ أَصَابَتْهُ قَطُّ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْر، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، بِهِ (٦).
الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَالَ [الْإِمَامُ] (٧) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ -قَاضِي حِمْصَ-حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَير بْنِ نُفَير الْحَضْرَمِيُّ، عَنِ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّوّاس بْنَ سمْعانَ الْكِلَابِيَّ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَداة، فخَفَض فِيهِ ورَفَع، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، [فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِنَا، فَسَأَلْنَاهُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ الْغَدَاةَ، فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ] (٨). فَقَالَ: "غَيْرُ الدَّجَّالِ أخْوَفُني عَلَيْكُمْ، فَإِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُه دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ: إنه شاب جَعْدُ قَطَط عينه
(٢) زيادة من أ.
(٣) في ت: "وحضرتهم".
(٤) في ت: "فيقولون".
(٥) في ت: "فيحصون".
(٦) المسند (٣/٧٧) وسنن ابن ماجه برقم (٤٠٧٩)، وقال البوصيري في الزوائد (٣/٢٦٠) :"هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(٧) زيادة من ت، ف، أ.
(٨) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
طَافِيَةٌ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ خَلَةَ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَشِمَالًا يَا عِبَادَ اللَّهِ اثْبُتُوا".
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لُبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: "أَرْبَعِينَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ".
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَاكَ الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟ قَالَ: "لَا اقْدِرُوا لَهُ قَدْرَهُ".
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: "كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ". قَالَ: "فَيَمُرُّ بِالْحَيِّ فَيَدْعُوهُمْ فَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، وَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ وَهِيَ أَطْوَلُ مَا كَانَتْ ذُرَى، وَأَمَدُّهُ خَوَاصِرَ، وَأَسْبَغُهُ ضُرُوعًا. وَيَمُرُّ بِالْحَيِّ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قولَه، فَتَتْبَعُهُ أَمْوَالُهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحلين، لَيْسَ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَيَمُرُّ بالخَربة فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ". قَالَ: "وَيَأْمُرُ بِرَجُلٍ فيُقتَل، فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلتين رَمْيَةَ الغَرَض، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ إِلَيْهِ [يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ] (١).
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ (٢) الْبَيْضَاءِ، شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَين وَاضِعًا يَدَه عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكين، فَيَتْبَعُهُ فَيُدْرِكُهُ، فَيَقْتُلُهُ عِنْدَ بَابِ لُدّ الشَّرْقِيِّ".
قَالَ: "فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: أَنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا مِنْ عِبَادِي لَا يَدَانِ لَكَ بِقِتَالِهِمْ، فَحَوّز عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ: ﴿مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسى، كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
فَيَهْبِطُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ بَيْتًا إِلَّا قَدْ مَلَأَهُ زَهَمُهم ونَتْنهُم، فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ، فَيُرْسِلُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ البُخْت، فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ".
قَالَ ابْنُ جَابِرٍ (٣) فَحَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ السَّكْسَكيّ (٤)، عَنْ كَعْبٍ -أَوْ غَيْرِهِ-قَالَ: فَتَطْرَحُهُمْ بالمَهْبِل. [قَالَ ابْنُ جَابِرٍ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا يَزِيدَ، وَأَيْنَ المَهْبِل؟] (٥)، قَالَ: مَطْلَعُ الشَّمْسِ.
قَالَ: "وَيُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنَّ (٦) مِنْهُ بَيْتُ مَدَر وَلَا وَبَر أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كالزّلَقَةِ، وَيُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، ورُدي بَرَكَتَكِ". قَالَ: "فَيَوْمَئِذٍ يَأْكُلُ النَّفَرُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بقحْفها، ويُبَارك فِي الرَسْل، حَتَّى إِنَّ اللَّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ تَكْفِي الْفَخِذَ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ تَكْفِي أَهْلَ الْبَيْتِ".
(٢) في ت: "المنازل".
(٣) في ت: "جرير".
(٤) في ت: "السلسلي".
(٥) زيادة من ف، أ، والمسند.
(٦) في ت: "يكون".
قَالَ: "فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ (١)، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رِيحًا طَيِّبَةً تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُسْلِمٍ -أَوْ قَالَ: كُلِّ مُؤْمِنٍ-وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ تَهَارُجَ الْحَمِيرِ، وَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ".
انْفَرَدَ (٢) بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ، فَرَوَاهُ مَعَ بَقِيَّةِ أَهْلِ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، بِهِ (٣) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَة، عَنْ خَالَتِهِ قَالَتْ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَاصِبٌ أصبعُه مِنْ لَدْغَةِ عَقْرب، فَقَالَ: "إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: "لَا عَدُوَّ (٤)، وَإِنَّكُمْ لَا تَزَالُونَ تُقَاتِلُونَ عَدُوًّا، حَتَّى يَأْتِيَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ عِرَاضُ الْوُجُوهِ، صِغَارُ الْعُيُونِ، صُهْبَ الشِّعَافِ، مِنْ كُلِّ حَدَب يَنْسِلُونَ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانّ المُطرَقة" (٥).
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَرْمَلة الْمُدْلِجِيِّ، عَنْ خَالَةٍ لَهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ (٦).
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِنْ رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ هُشَيْم، عَنِ العَوَّام، عَنْ جَبَلَة بْنِ سُحَيْم، عَنْ مُؤثر بْنِ عَفَازَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَقِيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَالَ: فَتَذَاكَرُوا أَمْرَ السَّاعَةِ، فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا (٧). فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا (٨). فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى عِيسَى، فَقَالَ: أَمَّا وَجْبَتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وَفِيهَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّيَ أَنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ".
قَالَ: "وَمَعِي قَضِيبَانِ، فَإِذَا رَآنِي ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ" قَالَ: "فَيُهْلِكُهُ اللَّهُ إِذَا رَآنِي، حَتَّى إِنَّ الْحَجَرَ وَالشَّجَرَ يَقُولُ: يَا مُسْلِمُ إِنَّ تَحْتِي كَافِرًا، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ". قَالَ: "فَيُهْلِكُهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ". قَالَ: "فَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُ يأجوج ومأجوج وهم مِنْ كُلِّ حَدَب يَنسلون، فَيَطَؤُونَ بِلَادَهُمْ، لَا (٩) يَأْتُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَهْلَكُوهُ، وَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَاءٍ إِلَّا شَرِبُوهُ". قَالَ: "ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَيَّ يَشْكُونَهُمْ، فَأَدْعُو اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَيُهْلِكُهُمْ وَيُمِيتُهُمْ، حَتَّى تَجوى الْأَرْضُ مِنْ نَتْن رِيحِهِمْ، وَيُنْزِلُ اللَّهُ الْمَطَرَ فَيَجْتَرِفُ أَجْسَادَهُمْ، حَتَّى يَقْذِفَهُمْ فِي الْبَحْرِ. فَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، أَنَّ السَّاعَةَ كَالْحَامِلِ المُتِمّ، لَا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَى تَفْجُؤهم بِوِلَادِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا".
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ العَوَّام بْنِ حَوْشَب، به (١٠)
(٢) في ت: "وانفرد".
(٣) المسند (٤/١٨١) وصحيح مسلم برقم (٢١٣٧) وسنن أبي داود برقم (٤٣٢١) وسنن الترمذي برقم (٢٢٤٠) وسنن النسائي الكبرى برقم (١٠٧٨٣) وسنن ابن ماجه برقم (٤٠٧٥).
(٤) في ت، ف، أ: "لا عدو لكم".
(٥) المسند (٥/٢١٧).
(٦) في ت، أ: "مثله سواء".
(٧) في ت: "فيها".
(٨) في ت: "فيها".
(٩) في ت، ف: "ولا".
(١٠) المسند (١/٣٧٥) وسنن ابن ماجه برقم (٤٠٨١) وسبق عند تفسير الآية: ١٨٧ من سورة الأعراف.
، نَحْوَهُ وَزَادَ: "قَالَ العَوَّام، وَوُجِدَ تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا مِنْ حَدِيثِ جَبَلَةَ، بِهِ (١).
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ كَذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى ابُن جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ مَعْمَر، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ هِلَالٍ، عَنِ أَبِي الصَّيف قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: إِذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، حَفَرُوا حَتَّى يَسْمَعَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَرْعَ فُؤُوسِهِمْ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ قَالُوا: نَجِيءُ غَدًا فَنَخْرُجُ، فَيُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ. فَيَجِيئُونَ مِنَ الْغَدِ فَيَجِدُونَهُ قَدْ أَعَادَهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ، فَيَحْفِرُونَهُ حَتَّى يَسْمَعَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَرْعَ فُؤُوسِهِمْ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ أَلْقَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: نَجِيءُ غَدًا فَنَخْرُجُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَيَجِيئُونَ مِنَ الْغَدِ فَيَجِدُونَهُ كَمَا تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَ حَتَّى يَخْرُجُوا. فَتَمُرُّ الزُّمْرَةُ الْأُولَى بِالْبُحَيْرَةِ، فَيَشْرَبُونَ مَاءَهَا، ثُمَّ تَمُرُّ الزُّمْرَةُ الثَّانِيَةُ فَيَلْحَسُونَ طِينَهَا، ثُمَّ تَمُرُّ الزُّمْرَةُ الثَّالِثَةُ فَيَقُولُونَ (٢) : قَدْ كَانَ هَاهُنَا مَرَّةً مَاءٌ، وَيَفِرُّ النَّاسُ مِنْهُمْ، فَلَا يَقُومُ لَهُمْ شَيْءٌ. ثُمَّ يَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ إِلَيْهِمْ مُخَضَّبة بِالدِّمَاءِ فَيَقُولُونَ: غَلَبْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ وَأَهْلَ السَّمَاءِ. فَيَدْعُو عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ، لَا طَاقَةَ وَلَا يَدَين لَنَا بِهِمْ، فَاكْفِنَاهُمْ بِمَا شِئْتَ"، فَيُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دُودًا يُقَالُ لَهُ: النَّغْفُ، فَيَفْرِسُ (٣) رِقَابَهُمْ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا تَأْخُذُهُمْ بِمَنَاقِيرِهَا فَتُلْقِيهِمْ فِي الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ عَيْنًا يُقَالُ لَهَا: "الْحَيَاةُ" يُطَهِّرُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيُنْبِتُهَا، حَتَّى إِنَّ الرُّمَّانَةَ لَيَشْبَعُ مِنْهَا السَّكْن". قِيلَ: وَمَا السَّكن يَا كَعْبُ؟ قَالَ: أَهْلُ الْبَيْتِ -قَالَ: "فَبَيْنَمَا النَّاسُ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمُ الصَّريخ أَنَّ ذَا السُّويقَتَين يُرِيدُهُ. قَالَ: فَيَبْعَثُ (٤) عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ طَلِيعَةً سَبْعَمِائَةٍ، أَوْ بَيْنَ السَّبْعِمِائَةِ وَالثَّمَانِمِائَةِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا يَمَانِيَّةً طَيِّبَةً، فَيَقْبِضُ فِيهَا رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، ثُمَّ يَبْقَى عَجَاج (٥) النَّاسِ، فَيَتَسَافَدُونَ كَمَا تَسَافَدُ الْبَهَائِمُ، فَمَثل السَّاعَةِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يَطِيفُ حَوْلَ فَرَسِهِ يَنْتَظِرُهَا مَتَى تَضَعُ؟ قَالَ كَعْبٌ: فَمَنْ تَكَلَّفَ بَعْدَ قَوْلِي هَذَا شَيْئًا -أَوْ بَعْدَ عِلْمِي هَذَا شَيْئًا-فَهُوَ الْمُتَكَلِّفُ (٦).
هَذَا مِنْ أَحْسَنِ سِيَاقَاتِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، لِمَا شَهِدَ لَهُ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَحُجُّ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليُحَجَّنَّ هَذَا الْبَيْتَ، وليُعْتَمَرنّ بَعْدَ خروج يأجوج ومأجوج". انفرد بإخراجه البخاري (٧).
(٢) في ت: "فيقول".
(٣) في ت: "فيفرش".
(٤) في ت: "فيبعث الله عيسى".
(٥) في ت، ف: "عجاج من".
(٦) تفسير الطبري (١٧/٧١).
(٧) المسند (٣/٢٧) وصحيح البخاري برقم (١٥٩٣).