آيات من القرآن الكريم

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ
ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ

جاء في الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه، كما أجابه، وينجّيه كما أنجاه.
ومن فضل الله ورحمته أن هذا الإنجاء لمن استغاث بالله واستعان به ليس خاصا بيونس عليه السلام، وإنما هو شامل لكل المؤمنين إذا استغاثوا بالله، وطلبوا رحمته، فإن الله تعالى يخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات ٣٧/ ١٤٤].
وهذا من حفظ الله لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ له ما أسلف من الطاعة.
والله يجيب دعاء الداعين في أي مكان، لذا
قال صلّى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى فإني لم أكن، وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت» «١».
وهذا دليل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة معينة.
القصة التاسعة والعاشرة- قصة زكريا ويحيى عليهما السلام مع قصة مريم
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)

(١) روى البخارى ومسلم وابو داود عن ابن عباس الحديث بلفظ آخر.

صفحة رقم 120

الإعراب:
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها وَالَّتِي: منصوب بفعل مقدر، أي: واذكر التي أحصنت.
آيَةً منصوب مفعول ثان بجعل. وقال: آيَةً، ولم يقل: آيتين لوجهين:
أحدهما- لأن التقدير: وجعلناها آية، وجعلنا ابنها آية، إلا أنه اكتفى بذكر الثاني عن ذكر الأول. والثاني- أن يكون آيَةً في تقدير التقديم، أي وجعلناها آية للعالمين وابنها، والوجه الأول أوجه.
البلاغة:
رَغَباً وَرَهَباً بينهما طباق.
فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا نسب الروح إليه تعالى تشريفا وتكريما، مثل ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف ٧/ ٧٣ ومواضع أخرى].
المفردات اللغوية:
وَزَكَرِيَّا أي واذكر زكريا. إِذْ نادى بدل منه، أي دعا ربه بقوله: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي لا تتركني وحيدا بلا ولد يرثني. وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ الباقي بعد فناء خلقك، فإن لم ترزقني من يرثني، فلا أبالي. فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي نداءه. وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي أصلحناها للولادة، فأتت بالولد بعد عقمها. إِنَّهُمْ أي المذكورين من الأنبياء عليهم السلام. يُسارِعُونَ يبادرون. فِي الْخَيْراتِ أي الطاعات. رَغَباً في رحمتنا.
وَرَهَباً من عذابنا. خاشِعِينَ متواضعين في عبادتهم.
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ أي واذكر مريم التي حفظت فرجها من أن ينال بالحلال أو الحرام.
فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي أحيينا عيسى وأوجدناه في جوفها، ويجوز أن يراد: وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام، حيث نفخ في جيب درعها (قميصها) فوصل النفخ إلى جوفها. وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ هم الإنس والجن والملائكة حيث ولدته من غير رجل. ولم يقل: آيتين، كما في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الإسراء ١٧/ ١٢] لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل.

صفحة رقم 121

المناسبة:
بعد بيان النعم الخاصة بكل نبي، أبان الله تعالى ما أنعم به على زكريا عليه السلام بمنحه الولد، في حال الكبر هو وزوجته، وبعد أن مسّه الضر بتفرده، فدعا ربه أن يرزقه الولد، وأحب أن يكون معه من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه، ويقوم مقامه بعد موته.
وكان دعاؤه دعاء مخلص عارف بأن الله تعالى قادر على ذلك، وإن بلغ هو وزوجته سن اليأس من الولد، بحسب العادة. قال ابن عباس رضي الله عنهما:
كان سنّه مائة، وسن زوجته تسعا وتسعين.
ثم ذكر تعالى قصة مريم وولادتها عيسى، لما بين ولادته وولادة يحيى من الغرابة وتشابه المعجزة. وتقدمت القصتان في سورتي آل عمران ومريم.
التفسير والبيان:
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ... أي واذكر أيها الرسول خبر زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا، يكون من بعده نبيا، فدعا ربه خفية عن قومه قائلا:
ربّ لا تتركني وحيدا، لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في دعوة الناس إليك، وأنت الباقي بعد فناء خلقك، فإن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي، فإنك خير وارث. وقوله: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ دعاء وثناء.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي فأجبنا نداءه ومطلبه، ووهبناه ولدا اسمه يحيى، وأصلحنا له امرأته بإزالة موانع الولادة، فولدت بعد العقم وفي حال الكبر.
إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي إن المذكورين من الأنبياء عليهم السلام، ومنهم زكريا وزوجه كانوا يبادرون إلى طاعتنا والتقرب إلينا، أو إلى

صفحة رقم 122

فعل الطاعات، وعمل القربات، والمراد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمبادرتهم أبواب الخير، ومسارعتهم في تحصيلها، كما يفعل الراغبون في الأمور الجادة.
وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي ويدعوننا رغبة في رحمتنا وفضلنا، وخوفا من عذابنا وعقابنا، وكانوا لنا متواضعين متذللين.
والمعنى أنهم ضموا إلى فعل الطاعات والمسارعة فيها أمرين:
أحدهما- الفزع إلى الله تعالى، رغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه.
والثاني- الخشوع: وهو المخافة الثابتة في القلب، أو الخوف اللازم للقلب، لا يفارقه أبدا.
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه، ثم قال: «أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ».
ثم يذكر الله تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، كما هو المعتاد في كلامه تعالى، فيذكر أولا قصة زكريا، ثم يتبعها بقصة مريم لأن تلك مربوطة بهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير طاعن في السن، ومن امرأة عجوز عاقر، لم تكن تلد في حال شبابها. أما قصة مريم فهي أعجب، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر.
حدث هذا الاقتران بين القصتين في سورتي آل عمران ومريم، وهاهنا في سورة الأنبياء.

صفحة رقم 123

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي واذكر نبأ مريم التي منعت نفسها من الرجال، سواء في الحلال أو الحرام، كما حكى تعالى عنها: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم ١٩/ ٢٠] وكما قال في سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها، فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [١٢].
فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي نفخنا الروح في عيسى في بطنها، أي أحييناه في جوفها. ويلاحظ أن الضمير هنا عائد إلى مريم، وليس المقصود كما هو الظاهر إحياء مريم، وإنما إحياء عيسى في جوفها. وأما في سورة التحريم فالضمير عائد إلى فرجها، أي فنفخنا في فرجها، وقرئ: فيها أي في مريم أو الحمل. وقوله: مِنْ رُوحِنا في السورتين أي من روح خلقناه بلا توسط أصل. وأضيف إلى الله تعالى تشريفا.
وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ أي وجعلنا أمر مريم وعيسى وهو الحمل من غير أب آية ومعجزة خارجة عن العادة، دالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كُنْ فَيَكُونُ.
ونظير الآية قوله سبحانه: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم ١٩/ ٢١] ولم يقل:
آيتين لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما وأمرهما وقصتهما آية للعالمين، أو أن الآية واحدة وهي الولادة من غير رجل، وقوله: لِلْعالَمِينَ أي الجن والإنس والملائكة.
وهناك آيات أخرى لكل من مريم وعيسى، مثل إتيان الملائكة لها برزقها:
يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران ٣/ ٣٧]. وأما آيات عيسى فمثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله كما جاء في [آل عمران: الآية ٤٩].

صفحة رقم 124

فقه الحياة أو الأحكام:
إن في كلّ من قصتي زكريا وابنه يحيى ومريم وابنها عيسى آية خارقة للعادة، ومعجزة غير معتادة دالة على قدرة الله تعالى الفائقة، والشاملة لكل شيء.
أما قصة زكريا فقد أكرمه الله تعالى بولادة يحيى بعد دعاء ومناجاة، وتضرع وإخلاص، وأدب وتفويض لله تعالى، وذلك في سن الكبر هو وامرأته، التي كانت عاقرا لا تلد في وقت الشباب. ووجه الآية الفريدة أن الكبير عادة لا ينجب، وأن العاقر العقيم لا يلد، فأزال الله موانع الولادة، وهيأ القدرة على الإنجاب والإخصاب عند الأب زكريا عليه السلام.
وسبب هذه الإجابة لدعاء زكريا أنه كان كغيره من الأنبياء يبادر إلى فعل الطاعات، وعمل القربات، وأنه كان يدعو في حال الرخاء وحال الشدة، وحال الرجاء والرهبة، وأملا في رحمة الله وفضله، وخوفا من عذابه وعقابه لأن الرغبة والرهبة متلازمتان.
وأما قصة مريم الطاهرة البتول فقد أحصنت فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا، ولم يقربها رجل، وتمّ نفخ الروح في جوفها، وإيجاد عيسى بواسطة جبريل الروح القدس من غير أصل ذكر.
فقوله: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا معناه أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها أي قميصها، فأحدثنا بذلك النفخ (المسيح) في بطنها، ووصل النفخ إلى جوفها، وسرت الروح إلى فرجها، وكان ذلك آية أي علامة وأعجوبة للخلق، وعلما لنبوة عيسى، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء.
وآيات مريم كثيرة كما تقدم:

صفحة رقم 125
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية