الغرق فاقترع أهلها فوقعت القرعة عليه فرمى بنفسه إلى البحر فالتقمه الحوت ثم ألقاه وذهب إلى نينوى فكان ما كان، ولا يخفى أن مثل هذا الهرب مما يجل عنه الأنبياء عليهم السلام واليهود قوم بهت.
ونصب مُغاضِباً على الحال وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكا نحو عاقبت اللص وسافرت، وكأنه استعمل ذلك هنا للمبالغة وقيل المفاعلة على ظاهرها فإنه عليه السلام غضب على قومه لكفرهم وهم غضبوا عليه بالذهاب لخوفهم لحوق العذاب. وقرأ أبو سرف «مغضبا» اسم مفعول فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي إنه أي الشأن لن نقدر ونقضي عليه بعقوبة ونحوها أو لن نضيق عليه في أمره بحبس ونحوه، ويؤيد الأول قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري
«نقدّر» بالنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال مشددة، وقراءة علي كرم الله تعالى وجهه
. واليماني «يقدّر» بضم الياء وفتح القاف والدال مشددة فإن الفعل فيهما من التقدير بمعنى القضاء والحكم كما هو المشهور، ويجوز أن يكون بمعنى التضيق فإنه ورد بهذا المعنى أيضا كما ذكره الراغب، وظن معاوية رضي الله تعالى عنه أنه من القدرة فاستشكل ذلك إذ لا يظن أحد فضلا عن النبي عليه السلام عدم قدرة الله تعالى عليه وفزع إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأجابه بما ذكرناه أولا وجوّز أن يكون من القدرة وتكون مجازا عن أعمالها أي فظن أن لن نعمل قدرتنا فيه أو يكون الكلام من باب التمثيل أي فعل فعل من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمرنا، وقيل: يجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه عليه السلام بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويرد بالبرهان كما يفعل المؤمن المحقق نزعات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت، ومنه وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: ٨] والخطاب للمؤمنين.
وتعقبه صاحب الفرائد بأن مثله عن المؤمن بعيد فضلا عن النبي المعصوم لأنه كفر، وقوله تعالى: تَظُنُّونَ إلخ ليس من هذا القبيل على أنه شامل للخاص وغيرهم، وبأن ما هجس ولم يستقر لا يسمى ظنا، وبأن الخواطر لا عتب عليها، وبأنه لو كان حامله على الخروج لم يكن من قبيل الوسوسة. وأجيب بأن الظن بمعنى الهجس في الخاطر من غير ترجيح مجاز مستعمل والعتب على ذهابه مغاضبا ولا وجه لجعله حاملا على الخروج ومع هذا هو وجه لا وجاهة له.
وقرأ ابن أبي ليلى وأبو سرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب «يقدّر» بضم الياء وفتح الدال مخففا، وعيسى والحسن بالياء مفتوحة وكسر الدال.
فَنادى الفاء فصيحة أي فكان ما كان من المساهمة والتقام الحوت فنادى فِي الظُّلُماتِ أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت جعلت الظلمة لشدتها كأنها ظلمات، وأنشد السيرافي:
وليل تقول الناس في ظلماته | سواء صحيحات العيون وعورها |
فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي دعاءه الذي دعاه في ضمن الاعتراف وإظهار التوبة على ألطف وجه وأحسنه.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحكيم في نوادر الأصول والحاكم وصححه وابن جرير والبيهقي في الشعب وجماعة عن سعد ابن أبي وقاص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوه ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له»
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أن ذلك اسم الله تعالى الأعظم، وأخرج ذلك الحاكم عن سعد مرفوعا
، وقد شاهدت أثر الدعاء به ولله تعالى الحمد حين أمرني بذلك من أظن ولايته من الغرباء المجاورين في حضرة الباز الأشهب وكان قد أصابني من البلاء ما الله تعالى أعلم به وفي شرحه طول وأنت ملول.
وجاء عن أنس مرفوعا أنه عليه السلام حين دعا بذلك أقبلت دعوته تحف بالعرش فقالت الملائكة عليهم السلام: هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال الله تعالى: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب ومن هو؟ قال: ذاك عبدي يونس قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء قال: بلى فأمر الحوت فطرحه
وذلك قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي الذي ناله حين التقمه الحوت بأن قذفه إلى الساحل بعد ساعات. قال الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية، وعن قتادة أنه بقي في بطنه ثلاثة أيام وهو الذي زعمته اليهود،
وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه بقي سبعة أيام.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي مالك أنه بقي أربعين يوما، وقيل المراد بالغم غم الخطيئة وما تقدم أظهر، ولم يقل جل شأنه فنجيناه كما قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام فكشفنا. قال بعض الأجلة. لأنه دعا بالخلاص من الضر فالكشف المذكور يترتب على استجابته ويونس عليه السلام لم يدع فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته. ورد بأن الفاء في قصة أيوب عليه السلام تفسيرية والعطف هنا أيضا تفسيري والتفنن طريقة مسلوكة في البلاغة، ثم لا نسلم أن يونس عليه السلام لم يدع ولو لم يكن منه دعاء لم تتحقق الاستجابة اهـ.
وتعقبه الخفاجي بأنه لا محصل له، وكونه تفسيرا لا يدفع السؤال لأن حاصله لم أتى بالفاء ثمت ولم يؤت بها هنا؟ فالظاهر أن يقال: إن الأول دعاء بكشف الضر على وجه التلطف فلما أجمل في الاستجابة وكان السؤال بطريق الإيماء ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية، وأما هنا فلما هاجر عليه السلام من غير أمر كان ذلك ذنبا بالنسبة إليه عليه السلام كما أشار إليه بقوله: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فما أوحي إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته، وليس ما بعده تفسيرا له بل زيادة إحسان على مطلوبه ولذا عطف بالواو اهـ ولا يخفى أن ما ذكره لا يتسنى في قوله تعالى: وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء: ٧٦] وقوله سبحانه: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى [الأنبياء: ٩٠] إذ لم يكن سؤال نوح عليه السلام بطريق الإيماء مع أنه قال تعالى في قصته فَنَجَّيْناهُ بالفاء وزكريا عليه السلام لم يصدر منه ما يعد ذنبا بالنسبة إليه ليتلطف في سؤال عدم المؤاخذة مع أنه قال سبحانه في قصته وَوَهَبْنا بالواو فلا بد حينئذ من بيان نكتة غير ما ذكر للتعبير في كل موضع من هذين الموضعين بما عبر، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره الشهاب في الآية الأخيرة، وربما يقال: إنه جيء بالفاء التفصيلية في قصتي نوح وأيوب عليهما السلام اعتناء بشأن الاستجابة لمكان الإجمال والتفصيل لعظم ما كانا فيه وتفاقمه جدا، ألا ترى كيف يضرب المثل ببلاء أيوب عليه السلام حيث كان في النفس والأهل والمال واستمر إلى ما شاء الله تعالى وكيف وصف الله تعالى ما نجى الله سبحانه منه نوحا عليه السلام حيث قال عز وجل فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ولا كذلك ما كان فيه ذو النون وزكريا عليهما السلام بالنسبة إلى ذلك فلذا جيء في آيتيهما بالواو وهي وإن جاءت للتفسير لكن مجيء الفاء لذلك أكثر. ولا يبعد عندي ما ذكره الخفاجي في هذه الآية من كون الاستجابة عبارة عن قبول توبته عليه السلام والتنجية زيادة إحسان على مطلوبه ويقال فيما سيأتي ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإنجاء الكامل نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من غموم دعوا الله تعالى فيها بالإخلاص لا إنجاء أدنى منه.
وقرأ الجحدري «ننجّي» مشددا مضارع نجي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر «نجّي» بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم وإسكان الياء، واختار أبو عبيدة هذه القراءة على القراءة بنونين لكونها أوفق بالرسم العثماني لما أنه بنون واحدة، وقال أبو علي في الحجة: روي عن أبي عمرو «نجي» بالإدغام والنون لا تدغم في الجيم وإنما أخفيت لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم فحذفت من الكتاب وهي في اللفظ، ومن قال: تدغم فقد غلط لأن هذه النون تخفى مع حروف الفم وتسمى الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين. الضاد وتبيينها لحر فلما أخفي ظن السامع أنه مدغم انتهى.
وقال أبو الفتح ابن جني: أصله ننجي كما في قراءة الجحدري فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين والأخرى جيء بها لمعنى والثقل إنما حصل بالثانية وذلك كما حذفت التاء الثانية في تُظاهِرُونَ [الأحزاب: ٤] ولا يضر كونها أصلية وكذا لا يضر عدم اتحاد حركتها مع حركة النون الأولى فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام فقول أبي البقاء: إن هذا التوجيه ضعيف لوجهين، أحدهما أن النون الثانية أصل وهي فاء الكلمة فحذفها يبعد جدا، والثاني أن حركتها غير حركة النون الأولى فلا يستثقل الجمع بينهما بخلاف تُظاهِرُونَ ليس في حيز القبول، وإنما امتنع الحذف في تَتَجافى [السجدة: ١٦] لخوف اللبس بالماضي بخلاف ما نحن فيه لأنه لو كان ماضيا لم يسكن آخره، وكونه سكن تخفيفا خلاف الظاهر، وقيل هو فعل ماضى مبني لما لم يسم فاعله وسكنت الياء للتخفيف كما في قراءة من قرأ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: ٢٧٨] وقوله:
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم | ماضي العزيمة ما في حكمه جنف |
ولو ولدت فقيرة جرو كلب | لسب بذلك الكلب الكلابا |
واعترض بأنه لا يناسب مقام الدعاء إذ من آداب الداعي أن يدعو بجد واجتهاد وتصميم منه.
ففي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دعا أحدكم فلا يقل: «اللهم اغفر لي إن شئت ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإن الله تعالى يفعل ما يشاء لا مكره له»
وفي رواية في صحيح مسلم «ولكن يعزم المسألة وليعزم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه»
ويمكن أن يقال: ليس هذا من قبيل ارزقني إن شئت إذ ليس المقصود منه إلا إظهار الرضا والاعتماد على الله عز وجل لو لم يجب دعاءه وليس المقصود من ارزقني إن شئت ذلك فتأمل.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وقد مر بيان كيفية ذلك وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي أصلحناها للمعاشرة بتحسن خلقها وكانت سيئة الخلق طويلة اللسان كما روي عن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومحمد ابن كعب القرظي وعون بن عبد الله أو أصلحناها له عليه السلام برد شبابها إليها وجعلها ولودا وكانت لا تلد كما روي عن ابن جبير وقتادة، وعلى الأول تكون هذه الجملة عطفا على جملة (استجبنا) لأنه عليه السلام لم يدع بتحسين خلق زوجه.
قال الخفاجي: ويجوز عطفها على وَهَبْنا وحينئذ يظهر عطفه بالواو لأنه لما فيه من الزيادة على المطلوب لا يعطف بالفاء التفصيلية، وعلى الثاني العطف على وَهَبْنا وقدم هبة يحيى مع توقفها على إصلاح الزوج للولادة لأنها المطلوب الأعظم، والواو لا تقتضي ترتيبا فلا حاجة لما قيل: المراد بالهبة إرادتها، قال الخفاجي: ولم يقل سبحانه:
فوهبنا لأن المراد الامتنان لا التفسير لعدم الاحتياج إليه مع أنه لا يلزم التفسير بالفاء بل قد يكون العطف التفسيري بالواو انتهى، ولا يخفى ما فيه فتدبر، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ تعليل لما فصل من فنون إحسانه المتعلقة بالأنبياء المذكورين سابقا عليهم السلام، فضمائر الجمع للأنبياء المتقدمين.
وقيل: لزكريا. وزوجه ويحيى، والجملة تعليل لما يفهم من الكلام من حصول القربى والزلفى والمراتب العالية لهم أو استئناف وقع جوابا عن سؤال تقديره ما حالهم؟ والمعول عليه ما تقدم، والمعنى إنهم كانوا يجدون ويرغبون في أنواع الأعمال الحسنة وكثيرا ما يتعدى أسرع بفي لما فيه من معنى الجد والرغبة فليست في بمعنى إلى أو للتعليل ولا الكلام من قبيل.
يجرح في عراقيبها نصلي وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً أي راغبين في نعمنا وراهبين من نقمنا أو راغبين في قبول أعمالهم وراهبين من ردها، فرغبا ورهبا مصدران في موضع الحال بتأويلهما باسم الفاعل، ويجوز أن يكون ذلك بتقدير مضاف أي ذوي رغب، صفحة رقم 83
ويجوز إبقاؤهما على الظاهر مبالغة، وجوز أن يكونا جمعين كخدم جمع خادم لكن قالوا: إن هذا الجمع مسموع في ألفاظ نادرة، وجوّز أن يكونا نصبا على التعليل أي لأجل الرغبة والرهبة، وجوز أبو البقاء نصبهما على المصدر نحو قعدت جلوسا وهو كما ترى.
وحكى في مجمع البيان أن الدعاء رغبة ببطون الأكف ورهبة بظهورها، وقد قال به بعض علمائنا، والظاهر أن الجملة معطوفة على جملة يُسارِعُونَ فهي داخلة معها في حيز كانُوا، وفي عدم إعادتها رمز إلى أن الدعاء المذكور من توابع تلك المسارعة، وقرأت فرقة «يدعونا» بحذف نون الرفع، وقرأ طلحة «يدعونا» بنون مشددة أدغم نون الرفع في نون ضمير النصب، وقرأ «رغبا» «ورهبا» بفتح الراء وإسكان ما بعدها و «رغبا» «ورهبا» بالضم والإسكان وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي مخبتين متصرعين أو دائمي الوجل، وحاصل التعليل أنهم نالوا من الله تعالى ما نالوا بسبب اتصافهم بهذه الخصال الحميدة.
وقوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها نصب نصب نظائره السابقة، وقيل رفع على الابتداء والخبر محذوف أي مما يتلى عليكم أو هو قوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا والفاء زائدة عند من يجيزه، والمراد بالموصول مريم عليها السلام، والإحصان بمعناه اللغوي وهو المنع مطلقا. والفرج في الأصل الشق بين الشيئين كالفرجة وما بين الرجلين ويكنى به عن السوأة وكثر حتى صار كالصريح في ذلك وهو المراد به هنا عند جماعة أي منعت فرجها من النكاح بقسميه كما قالت وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم: ٢٠] وكان التبتل إذ ذاك مشروعا للنساء والرجال، وقيل الفرج هنا جيب قميصها منعته من جبريل عليه السلام لما قرب منها لينفخ حيث لم تعرفه.
وعبر عنها بما ذكر لتفخيم شأنها وتنزيهها عما زعموه في حقها، والمراد من الروح معناه المعروف، والإضافة إلى ضميره تعالى للتشريف، ونفخ الروح عبارة عن الإحياء وليس هناك نفخ حقيقة. ثم هذا الإحياء لعيسى عليه السلام وهو لكونه في بطنها صح أن يقال: نفخنا فيها فإن ما يكون فيما في الشيء يكون فيه فلا يلزم أن يكون المعنى أحييناها وليس بمراد، وهذا كما يقول الزمار. نفخت في بيت فلان وهو قد نفخ في المزمار في بيته، وقال أبو حيان: الكلام على تقدير مضاف أي فنفخنا في ابنها.
ويجوز أن يكون المراد من الروح جبريل عليه السلام كما قيل في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[مريم: ١٧] ومن ابتدائية وهنك نفخ حقيقة وإسناده إليه تعالى مجاز أي فنفخنا فيها من جهة روحنا، وكان جبريل عليه السلام قد نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها فصح أن النفخ فيها من غير غبار يحتاج إلى النفخ، ثم النفخ لازم وقد يتعدى فيقال نفخنا الروح.
وقد جاء في ذلك بعض الشواذ ونص عليه بعض الأجلة فإنكاره من عدم الاطلاع وَجَعَلْناها وَابْنَها أي جعلنا قصتهما أو حالهما آيَةً لِلْعالَمِينَ فإن من تأمل حالتهما تحقق كمال قدرته عز وجل، فالمراد بالآية ما حصل بهما من الآية مع تكاثر آيات كل واحد منهما، وقيل أريد بالآية الجنس الشامل ما لكل واحد منهما من الآيات المستقلة، وقيل: المعنى وجعلناها آية وابنها آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها واستدل بذكر مريم عليها السلام مع الأنبياء في هذه السورة على أنها كانت نبية إذ قرنت معهم في الذكر.
وفيه أنه لا يلزم ذكرها معهم كونها منهم ولعلها إنما ذكرت لأجل عيسى عليه السلام، وناسب ذكرهما هنا قصة زكريا وزوجه وابنهما يحيى للقرابة التي بينهم عليهم السلام إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ خطاب للناس قاطبة، والإشارة إلى ملة التوحيد والإسلام وذلك من باب هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: ٧٨] وهذا أخوك تصور المشار إليه في الذهن
وأشير إليه، وفيه أنه متميز أكمل التمييز ولهذا لم يبين بالوصف، والأمة على ما قاله صاحب المطلع أصلها القوم يجتمعون على دين واحد ثم اتسع فيها حتى أطلقت على نفس الدين، والأشهر أنها الناس المجتمعون على أمر أو في زمان وإطلاقها على نفس الدين مجاز، وظاهر كلام الراغب أنه حقيقة أيضا وهو المراد هنا، وأريد بالجملة الخبرية الأمر بالمحافظة على تلك الملة ومراعاة حقوقها، والمعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها فافعلوا ذلك، وقوله تعالى: أُمَّةً واحِدَةً نصب على الحال من أُمَّةً والعامل فيها اسم الإشارة، ويجوز أن يكون العامل في الحال غير العامل في صاحبها وإن كان الأكثر الاتحاد كما في شرح التسهيل لأبي حيان، وقيل بدل من هذِهِ ومعنى وحدتها اتفاق الأنبياء عليهم السلام عليها أي إن هذه أمتكم أمة غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام بل أجمعوا كلهم عليها فلم تتبدل في عصر من الأعصار كما تبدلت الفروع، وقيل: معنى وحدتها عدم مشاركة غيرها وهو الشرك لها في القبول وصحة الأتباع.
وجوز أن تكون الإشارة إلى طريقة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والمراد بها التوحيد أيضا، وقيل: هي إشارة إلى طريقة ابراهيم عليه السلام والكلام متصل بقصته وهو بعيد جدا، وأبعد منه بمراحل ما قيل إنها إشارة إلى ملة عيسى عليه السلام والكلام متصل بما عنده كأنه قيل وجعلناها وابنها آية للعالمين قائلين لهم: إن هذه أي الملة التي بعث بها عيسى أمتكم إلخ بل لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا، وقيل: إن هذِهِ إشارة إلى جماعة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والأمة بمعنى الجماعة أي إن هؤلاء جماعتكم التي يلزمكم الاقتداء بهم مجتمعين على الحق غير مختلفين، وفيه جهة حسن كما لا يخفى، والأول أحسن وعليه جمهور المفسرين وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وجوز بعضهم كون الخطاب للمؤمنين كافة، وجعله الطيبي للمعاندين خاصة حيث قال في وجه ترتيب النظم الكريم: إن هذه السورة نازلة في بيان النبوة وما يتعلق بها والمخاطبون المعاندون من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فلما فرغ من بيان النبوة وتكريره تقريرا ومن ذكر الأنبياء عليهم السلام مسليا عاد إلى خطابهم بقوله تعالى شأنه إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ إلخ أي هذه الملة التي كررتها عليكم ملة واحدة أختارها لكم لتتمسكوا بها وبعبادة الله تعالى والقول بالتوحيد وهي التي أدعوكم إليها لتعضوا عليها بالنواجذ لأن سائر الكتب نازلة في شأنها والأنبياء كلهم مبعثون للدعوة إليها ومتفقون عليها، ثم لما علم إصرارهم قيل: وَتَقَطَّعُوا إلخ، وحاصل المعنى الملة واحدة والرب واحد والأنبياء عليهم السلام متفقون عليها وهؤلاء البعداء جعلوا أمر الدين الواحد فيما بينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء الواحد انتهى، والأظهر العموم، وأمر النظم عليه يؤخذ من كلام الطيبي بأدنى التفات وقرأ الحسن «أمّتكم» بالنصب على أنه بدل من هذِهِ أو عطف بيان عليه و «أمة واحدة» بالرفع على أنه خبر إن. وقرأ هو أيضا وابن إسحاق والأشهب العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجعفي وهارون عن أبي عمرو. والزعفراني برفعهما على أنهما خبر إن، وقيل: الأول خبر والثاني بدل منه بدل نكرة من معرفة أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هي أمة واحدة وَأَنَا رَبُّكُمْ أي أنا إلهكم إله واحد فَاعْبُدُونِ خاصة، وتفسير الرب بالإله لأنه رتب عليه الأمر بالعبادة، والدلالة على الوحدة من حدة الملة، وفي لفظ الرب إشعار بذلك من حيث إن الرب إن توهم جواز تعدده في نفسه لا يمكن أن يكون لكل مربوب إلا رب واحد لأنه مفيض الوجود وكمالاته معا، وفي العدول إلى لفظ الرب ترجيح جانب الرحمة وأنه تعالى يدعوهم إلى عبادته بلسان الترغيب والبسط قاله في الكشف.
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا على أن تقطع مضمن معنى الجعل فلذا تعدى إلى أَمْرَهُمْ بنفسه، وقال أبو البقاء: تقطعوا أمرهم أي في أمرهم أي تفرقوا، وقيل: عدي بنفسه لأنه بمعنى قطعوا أي فرقوا، وقيل. أَمْرَهُمْ تمييز محول عن الفاعل أي تقطع أمرهم انتهى، وما ذكر أولا أظهر وأمر التمييز لا يخفى على
ذي تمييز، ثم أصل الكلام وتقطعتم أمركم بينهم على الخطاب فالتفت إلى الغيبة لينعى عليهم ما فعلوا من التفرق في الدين وجعله قطعا موزعة وينهي ذلك إلى الآخرين كأنه قيل ألا ترون إلى عظم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى الذي أجمعت عليه كافة الأنبياء عليهم السلام وفي ذلك ذم للاختلاف في الأصول.
كُلٌّ أي كل واحدة من الفرق المتقطعة أو كل واحد من آحاد كل واحدة من تلك الفرق إِلَيْنا راجِعُونَ بالبعث لا إلى غيرنا فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم، ولا يخفى ما في الجملة من الدلالة على الثبوت والتحقق.
وقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ تفضيل للجزاء أي فمن يعمل بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ بما يجب الإيمان به فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي لا حرمان لثواب عمله ذلك، عبر عنه بالكفران الذي هو ستر النعمة وجحودها لبيان كمال نزاهته تعالى عنه بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من القبائح، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى ونفى نفي الجنس المفيد للعموم للمبالغة في التنزيه، والظاهر أن التركيب على طرز «لا مانع لما أعطيت» والكلام فيه مشهور بين علماء العربية وعبر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به، وفي حرف عبد الله «فلا كفر» والمعنى واحد وَإِنَّا لَهُ أي لسعيه، وقيل: الضمير لمن وليس بشيء كاتِبُونَ أي مثبتون في صحيفة عمله لا يضيع بوجه ما، واستدل بالآية على أن قبول العمل الصالح مطلقا مشروط بالإيمان وهو قول لبعضهم، وقال آخرون: الإيمان شرط لقبول ما يحتاج إلى النية من الأعمال، وتحقيقه في موضعه.
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أي على أهل قرية. فالكلام على تقدير مضاف أو القرية مجاز عن أهلها. والحرام مستعار للممتنع وجوده بجامع أن كل واحد منهما غير مرجو الحصول، وقال الراغب: الحرام الممنوع منه إما بتسخير إلهي وإما بمنع قهري وإما بمنع من جهة العقل أو من جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، وذكر أنه قد حمل في هذه الآية على التحريم بالتسخير كما في قوله تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ [القصص: ١٢] وقرأ أبو حنيفة وحمزة والكسائي وأبو بكر وطلحة والأعمش وأبو عمرو في رواية «وحرم» بكسر الحاء وسكون الراء اهـ.
وقرأ قتادة ومطر الوراق ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الحاء وسكون الراء، وقرأ عكرمة «وحرم» الحاء وكسر الراء والتنوين. وقرأ ابن عباس وعكرمة أيضا وابن المسيب وقتادة أيضا بكسر الراء وفتح الحاء والميم على المضي وقرأ ابن عباس وعكرمة بخلاف عنهما وأبو العالية وزيد بن علي بضم الراء وفتح الحاء والميم على المضي أيضا، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قرأ بفتح الحاء والراء والميم على المضي أيضا.
وقرأ اليماني «وحرّم» بضم الحاء وكسر الراء مشددة وفتح الميم على أنه فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله.
أَهْلَكْناها أي قدرنا هلاكها أو حكمنا به في الأزل لغاية طغيانهم وعتوهم فيما لا يزال.
وقرأ السلمي وقتادة «أهلكتها» بتاء المتكلم، وقوله تعالى: أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ في تأويل اسم مرفوع على الابتداء خبره «حرام» قال ابن الحاجب في أماليه: ويجب حينئذ تقديمه لما تقرر في النحو من أن الخبر عن أن يجب تقديمه، وجوز أن يكون «حرام» مبتدأ و «أنهم» فاعل له سد مسد خبره وإن لم يعتمد على نفي أو استفهام بناء على مذهب الأخفش فإنه لا يشترط في ذلك الاعتماد خلافا للجمهور كما هو المشهور.
وذهب ابن مالك أن رفع الوصف الواقع مبتدأ لمكتفى به عن الخبر من غير اعتماد جائز بلا خلاف وإنما الخلاف في الاستحسان وعدمه فسيبويه يقول: هو ليس بحسن والأخفش يقول: هو حسن وكذا الكوفيون كما شرح التسهيل والجملة لتقرير ما قبلها من قوله تعالى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ وما في أن من معنى التحقيق معتبر في النفي
المستفاد في حَرامٌ لا في المنفي أي ممتنع البتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء لا أن عدم رجوعهم المحقق ممتنع، وتخصيص امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله تعالى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم، وهذا المعنى محكي عن ابي مسلم بن بحر، ونقله أبو حيان عنه لكنه قال: إن الغرض من الجملة على ذلك إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد وأنه يجزى على ذلك يوم القيامة، ولا يخفى ما فيه.
وقال أبو عتبة: المعنى وممتنع على قرية قدرنا هلاكها أو حكمنا به رجوعهم إلينا أي توبتهم على أن لا سيف خطيب مثلها في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢] في قول، وقيل حَرامٌ بمعنى واجب كما في قول الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا | على شجوة إلا بكيت على صخر |
وقال قتادة ومقاتل: لا يرجعون إلى الدنيا، والظاهر على هذا أن المراد بأهلكناها أوجدنا إهلاكها بالفعل، والمراد بالهلاك الهلاك الحسي، ويجوز على القول بأن المراد بعدم الرجوع عدم التوبة أن يراد به الهلاك المعنوي بالكفر والمعاصي. وقرىء «إنهم» بكسر الهمزة على أن الجملة استئناف تعليلي لما قبلها فحرام خبر مبتدأ محذوف أي حرام عليها ذلك وهو ما ذكر في الآية السابقة من العمل الصالح المشفوع بالإيمان والسعي المشكور ثم علل بقوله تعالى:
أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ عماهم عليه من الكفر فكيف لا يمتنع ذلك، ويجوز حمل الكلام على قراءة الجمهور بالفتح على هذا المعنى بحذف حرف التعليل أي لأنهم لا يرجعون. والزجاج قدر المبتدأ في ذلك أن يتقبل عملهم فقال: المعنى وحرام على قرية حكمنا بهلاكها أن يتقبل عملهم لأنهم لا يتوبون ودل على ذلك قوله تعالى قبل: فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ حيث إن المراد منه يتقبل عمله وحَتَّى في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ابتدائية والكلام بعدها غاية لما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل: يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون يا ويلنا إلخ أو غاية للحرمة أي يستمر امتناع رجوعهم إلى التوبة حتى إذا قامت القيامة يرجعون إليها وذلك حين لا ينفعهم الرجوع أو غاية لعدم الرجوع عن الكفر أي لا يرجعون عنه حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه وهو حين لا ينفعهم ذلك، وهذا بحسب تعدد الأقوال في معنى الآية المتقدمة والتوزيع غير خفي، وقال ابن عطية حتى متعلقة بقوله تعالى: تَقَطَّعُوا إلخ قال أبو حيان: وفيه بعد من كثرة الفصل لكنه من جهة المعنى جيد، وحاصله أنهم لا يزالون مختلفين غير مجتمعين على دين الحق إلى قرب مجيء الساعة فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك الاختلاف وعلم الجميع أن مولاهم الحق وأن الدين المنجي كان دين التوحيد، ونسبة الفتح إلى يأجوج ومأجوج مجاز وهي حقيقة إلى السد أو الكلام على حذف المضاف وهو السد وإقامة المضاف إليه مقامه. وقرأت فرقة «فتّحت» بالتشديد، وتقدم الكلام في يأجوج ومأجوج وَهُمْ أي يأجوج ومأجوج، وقيل الناس وروي عن مجاهد مِنْ كُلِّ حَدَبٍ أي مرتفع من الأرض كجبل وأكمة. وقرأ ابن عباس «جدث» بالجيم الثاء المثلثة وهو القبر، وهذه القراءة تؤيد رجوع الضمير إلى الناس، وقرىء بالجيم والفاء وهي بدل الثاء عند تميم ولا يختص إبدالها عندهم في آخر الكلمة فإنهم يقولون مغثور مكان مغفور يَنْسِلُونَ أي يسرعون، وأصل النسلان بفتحتين مقاربة الخطو مع الإسراع، وقيل ويختص وضعا بالذئاب وعليه يكون مجازا هنا. وقرأ ابن إسحاق وأبو السمال بضم السين وَاقْتَرَبَ أي قرب، صفحة رقم 87
وقيل هو أبلغ في القرب من قرب الْوَعْدُ الْحَقُّ وهو ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب والجزاء لا النفخة الأولى، والجملة عطف على فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ثم إن هذا الفتح في زمن نزول عيسى عليه السلام من السماء وبعد قتله الدجال عند باب لد الشرقي،
فقد أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث طويل «إن الله تعالى يوحي إلى عيسى عليه السلام بعد أن يقتل الدجال إني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لك بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور فيبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج وهم كما قال الله تعالى مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيرغب عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل عليهم نغفا في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة فيهبط عيسى عليه السلام وأصحابه فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى ويرسل الله عز وجل مطرا لا يكن منه نبت مدر ولا وبر أربعين يوما فيغسل الأرض حتى يتركها زلفة ويقال للأرض انبتي ثمرتك فيومئذ يأكل النفر من الرماية ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر تكفي الفخذ والشاة من الغنم تكفي البيت فبينما هم على ذلك إذ بعث الله تعالى ريحا طيبة تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة»
وجاء من حديث رواه أحمد وجماعة «إن الساعة بعد أن يهلك يأجوج ومأجوج كالحامل المتم لا يدري أهلها حتى تفجأهم بولادها ليلا أو نهارا»
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: ذكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو نتجت فرس عند خروجهم ما ركب فلوها حتى تقوم الساعة»
وهذا مبالغة في القرب كالخبر الذي قبله.
فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا جواب الشرط، وإذا للمفاجأة وهي تسد مسد الفاء الجزائية في الربط وليست عوضا عنها فمتى كانت الجملة الاسمية الواقعة جزاء مقترنة بها لم تحتج إلى الفاء نحو إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: ٣٦] وإذا جيء بهما معا كما هنا يتقوى الربط، والضمير للقصة هو الشأن هو مبتدأ وشاخِصَةٌ خبر مقدم وأَبْصارُ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر الضمير، ولا يجوز أن يكون شاخِصَةٌ الخبر وأَبْصارُ مرفوعا به لأن خبر الضمير الشأن لا يكون إلا جملة مصرحا بجزأيها، وأجاز بعض الكوفيين كونه مفردا فيجوز ما ذكر عنده.
وعن الفراء أن هِيَ ضمير الأبصار فهو ضمير مبهم يفسره ما في حيز خبره وعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في مثل ذلك جائز عند ابن مالك. وغيره كما في ضمير الشأن، ومن ذلك قوله:
هو الجد حتى تفضل العين أختها بل نقل عن الفراء أنه متى دل الكلام على المرجع وذكر بعده ما يفسره وإن لم يكن في حيز خبره لا يضر تقدمه، وأنشد قوله:
فلا وأبيها لا تقول خليلتي | ألا فرّ عني مالك بن أبي كعب |
بثوب ودينار وشاة ودرهم | فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس |
ونقل عن الزجاج أن البصريين لا يجوزون زيادة الواو وأن الجواب عندهم قوله تعالى: يا وَيْلَنا أي القول المقدر قبله فإنه بتقدير قالوا يا ويلنا، ومن جعل الجواب ما تقدم قدر القول هاهنا أيضا وجعله حالا من الموصول يقولون أو قائلين «يا ويلنا» وجوز كون جملة يقولون يا ويلنا استئنافا، وشخوص الأبصار رفع أجفانها إلى فوق من دون أن تطرف وذلك للكفرة يوم القيامة من شدة الهول، وأرادوا من نداء الويل التحسر وكأنهم قالوا: يا ولينا تعال فهذا أوان حضورك قَدْ كُنَّا في الدنيا فِي غَفْلَةٍ تامة مِنْ هذا الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه عز وجل للجزاء، وقيل: من هذا اليوم ولم نعلم أنه حق بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ إضراب عن وصف أنفسهم بالغفلة أي لم نكن في غفلة منه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بترك الآيات والنذر مكذبين بها أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب.
وقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ خطاب لكفار مكة وتصريح بمآل أمرهم مع كونه معلوما مما سبق على وجه الإجمال مبالغة في الإنذار وإزاحة الأعذار، فما عبارة عن أصنامهم، والتعبير عنها بما على بابه لأنها على المشهور لما لا يعقل فلا يرد أن عيسى وعزيرا والملائكة عليهم الصلاة والسلام عبدوا من دون الله تعالى مع أن الحكم لا يشملهم
وشاع أن عبد الله بن الزبعري (١) القرشي اعترض بذلك قبل إسلامه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له عليه الصلاة والسلام: يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأني قلت وَما تَعْبُدُونَ وما لما لم يعقل ولم أقل ومن تعبدون.
وتعقبه ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأنه أشهر على ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم (٢) وهو لا أصل له ولم يوجد في شيء من كتب الحديث مسندا ولا غير مسند والوضع عليه ظاهر والعجب ممن نقله من المحدثين انتهى، ويشكل على ما قلنا ما
أخرجه أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن مردويه والطبراني عن ابن عباس قال: لما نزل إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ إلخ شق ذلك على أهل مكة وقالوا: أتشتم آلهتنا فقال ابن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعي عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله تعالى؟ قال:
بل لكل من عبد من دون الله تعالى فقال ابن الزبعرى: خصمت ورب هذه البنية. يعني الكعبة. ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد صالح وأن عزيرا عبد صالح وأن الملائكة صالحون؟ قال: بلى قال: فهذه النصارى تعبد عيسى وهذه اليهود تعبد عزيرا وهذه بنو مليح (٣) تعبد الملائكة فضج أهل مكة وفرحوا فنزلت إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى
إلخ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: ٥٧] إلخ، وجاء في روايات أخر ما يعضده فإن ظاهر ذلك أن ما هنا شامل للعقلاء وغيرهم. وأجيب بأن الشمول للعقلاء الذي ادعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بطريق دلالة النص بجامع الشركة في المعبودية من دون الله تعالى فلما أشار صلّى الله عليه وسلّم إلى عموم الآية بطريق الدلالة اعترض ابن الزبعري بما اعترض وتوهم أنه قد بلغ الغرض فتولى الله تعالى الجواب بنفسه بقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية، وحاصله تخصيص العموم المفهوم من دلالة النص بما سوى الصلحاء الذين سبقت لهم الحسنى فيبقى الشياطين الذين عبدوا من دون الله سبحانه داخلين في الحكم بحكم دلالة النص فيفيد النص بعد هذا التخصيص عبارة ودلالة حكم الأصنام والشياطين ويندفع الاعتراض، وقال بعضهم: إن ما تعم العقلاء وغيرهم وهو
(٢) كشرح المواقف وغيره مما لا يحصى اهـ منه.
(٣) بالتصغير بطن من خزاعة اهـ منه.
مذهب جمهور أئمة اللغة كما قال العلامة الثاني في التلويح ودليل ذلك النص والإطلاق والمعنى، أما النص فقوله تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل: ٣] وقوله سبحانه: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: ٥] وقوله سبحانه: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون: ٣] وأما الإطلاق فمن وجهين، الأول أن ما قد تطلق بمعنى الذي باتفاق أهل اللغة والذي يصح إطلاقه على من يعقل بدليل قولهم الذي جاء زيدا فما كذلك، الثاني أنه يصح أن يقال ما في داري من العبيد أحرار، وأما المعنى فمن وجهين أيضا، الأول أن مشركي قريش كما جاء من عدة طرق عن ابن عباس لما سمعوا هذه الآية اعترضوا بعيسى وعزير والملائكة عليهم السلام. وهم من فصحاء العرب فلو لم يفهموا العموم لما اعترضوا، الثاني أن ما لو كانت مختصة بغير العالم لما احتيج إلى قوله تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ وحيث كانت بعمومها متناولة له عز وجل احتيج إلى التقييد بقوله سبحانه مِنْ دُونِ اللَّهِ وحينئذ تكون الآية شاملة عبادة لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام ويكون الجواب الذي تولاه الله تعالى بنفسه جوابا بالتخصيص، وفي ذلك حجة للشافعي في قوله بجواز تخصيص العام بكلام مستقل متراخ خلافا للحنفية. وأجيب بأن ما ذكر من النصوص والإطلاقات فغايته جواز اطلاق ما على من يعلم لا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه أو فيما يعمه بل هي ظاهرة في غير العالم لا سيما هنا لأن الخطاب مع عبدة الأصنام وإذا كانت ظاهرة فيما لا يعقل وجب تنزيلها عليه، وما ذكر من الوجه الأول في المعنى فليس بنص في أن المعترضين إنما اعترضوا لفهمهم العموم من ما وضعا لجواز أن يكون ذلك لفهمهم إياه من دلالة النص كما مر، وما ذكر من الوجه الثاني من عدم الاحتياج إلى قوله تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنما يصح أن لو لم تكن فيه فائدة، وفائدته مع التأكيد تقبيح ما كانوا عليه، وإن سلمنا أن ما حقيقة فيمن يعقل فلا نسلم أن بيان التخصيص لم يكن مقارنا للآية فإن دليل العقل صالح للتخصيص خلافا لطائفة شاذة من المتكلمين، والعقل قد دل على امتناع تعذيب أحد بجرم صادر من غيره اللهم إلا أن يكون راضيا بجرم ذلك الغير، وأحد من العقلاء لم يخطر بباله رضا المسيح وعزير والملائكة عليهم السلام بعبادة من عبدهم وما مثل هذا الدليل العقلي فلا نسلم عدم مقارنته للآية، وأما قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية فإنما ورد تأكيدا بضم الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي مع الاستغناء عن أصله أما أن يكون هو المستقل بالبيان فلا، وعدم تعرضه صلّى الله عليه وسلّم للدليل العقلي لم يكن لأنه لم يكن بل لأنه عليه الصلاة والسلام لما رآهم لم يلتفتوا إليه وأعرضوا عنه فاعترضوا بما اعترضوا مع ظهوره انتظر ما يقويه من الدليل السمعي أو لأن الوحي سبقه عليه الصلاة والسلام فنزلت الآية قبل أن ينبههم على ذلك، وقيل: إنهم تعنتوا بنوع من المجاز فنزل ما يدفعه، وقيل: إن هذا خبر لا تكليف فيه والاختلاف في جواز تأخير البيان مخصوص بما فيه تكليف، وفيه نظر، وقال العلامة ابن الكمال: لا خلاف بيننا وبين الشافعي في قصر العام على بعض ما يتناوله بكلام مستقل متراخ إنما الخلاف في أنه تخصيص حتى يصير العام به ظنيا في الباقي أو نسخ حتى يبقى على ما كان فلا وجه للاحتجاج بقوله تعالى: وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لأن الثابت به على تقدير التمام قصر العام بالمتراخي والخلاف فيما وراءه والدليل قاصر عن بيانه ولا للجواب بأن تعبدون لا يتناول عيسى وعزيرا والملائكة عليهم السلام لا لأن ما لغير العقلاء لما أنه على خلاف ما عليه الجمهور بل لأنهم ما عبدوا حقيقة على ما أفصح عنه صلّى الله عليه وسلّم حين قال ابن الزبعري: أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنوا مليح عبدوا الملائكة
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك
فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ الآية لدفع ذهاب الوهم إلى التناول لهم نظرا إلى الظاهر.
وجوابه صلّى الله عليه وسلّم بذلك مما رواه ابن مردويه والواحدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ الآية، وعلى وفق هذا ورد جواب الملائكة عليهم السلام في قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً
ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ
[سبأ: ٤، ٤١] والجمع بي هذه الرواية والرواية السابقة أنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن ذكر لابن الزبعري أن الآية عامة لكل من عبد من دون الله تعالى بطريق دلالة النص وقال ابن الزبعري: أليس اليهود إلخ ذكر عدم تناولها المذكورين عليهم السلام من حيث إنهم لم يشاركوا الأصنام في المعبودية من دون الله تعالى لعدم أمرهم ولأرضاهم بما كان الكفرة يفعلون، ولعل فيه رمزا خفيا إلى الدليل العقلي على عدم مؤاخذتهم ثم نزلت الآية تأكيدا لعدم التناول، لكن لا يخفى أن هذه الرواية إن صحت تقتضي أن لا تكون الأصنام معبودة أيضا لأنها لم تأمرهم بالعبادة فلا تكون ما مطلقة عليها بل على الشياطين بناء على أنها هي الآمرة الراضية بذلك فهي معبوداتهم، ولذا قال إبراهيم عليه السلام يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ [مريم:
٤٤] مع أنه كان يعبد الأصنام ظاهرا.
ووجه إطلاقها عليها بناء على أنها ليست لذوي العقول أنها أجريت مجرى الجمادات لكفرها، وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم التي أمرتهم دون الذين أمروهم إشارة إلى ذلك، ثم في عدم تناول الآية الأصنام هنا من البعد ما فيه فلعل هذه الرواية لم تثبت، ولمولانا أبي السعود كلام مبناه خبر أنه صلّى الله عليه وسلّم رد على ابن الزبعرى بقوله ما أجهلك بلغة قومك إلخ، وقد علمت ما قاله الحافظ ابن حجر فيه وهو وأمثاله المعول عليهم في أمثال ذلك فلا ينبغي الاغترار بذكره في أحكام الآمدي وشرح المواقف وفصول البدائع للفناري وغير ذلك مما لا يحصى كثرة فماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان. وأورد على القول بأن العموم بدلالة النص والتخصيص بما نزل بعد حديث الخلاف في التخصيص بالمستقل المتراخي ويعلم الجواب عنه مما تقدم، وقيل هنا زيادة على ذلك إن ذلك ليس من تخصيص العام المختلف فيه لأن العام هناك هو اللفظ الواحد الدال على مسميين فصاعدا مطلقا معا وهو ظاهر فيما فيه الدلالة عبارة والعموم هنا إنما فهم من دلالة النص، ولا يخفى أن الأمر المانع من التأخير ظاهر في عدم الفرق فتدبر فالمقام حري به، والحصب ما يرمى به وتهيج به النار من حصبه إذا رماه بالحصباء وهي صغار الحجارة فهو خاص وضعا عام استعمالا. وعن ابن عباس أنه الحطب بالزنجية. وقرأ علي وأبي وعائشة وابن الزبير وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم «حطب بالطاء. وقرأ ابن أبي السميقع وابن أبي عبلة ومحبوب وأبو حاتم عن ابن بشير «حضب» بإسكان الصاد، ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو مصدر وصف به للمبالغة، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ «حصب» بالضاد المعجمة المفتوحة، وجاء عنه أيضا إسكانها وبه قرأ كثير عزة، ومعنى الكل واحد وهو معنى الحصب بالصاد أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ استئناف نحوي مؤكد لما قبله أو بدل من حَصَبُ جَهَنَّمَ وتبدل الجملة من المفرد ولا يضر كونه في حكم النتيجة، وجوز أبو البقاء كون الجملة حالا من جَهَنَّمَ وهو كما ترى، واللام معوضة من على للدلالة على الاختصاص وأن ورودهم لأجلها وهذا مبني على أن الأصل تعدى الورود إلى ذلك بعلى كما أشار إليه في القاموس بتفسيره بالإشراف على الماء وهو في الاستعمال كثير وإلا فقد قيل إنه متعد بنفسه كما في قوله تعالى: وَرَدُوها فاللام للتقوية لكون المعمول مقدما والعامل فرعي، وقيل إن اللام بمعنى إلى كما في قوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: ٥] وليس بذلك.
والظاهر أن الورود هنا ورود دخول والخطاب للكفرة وما يعبدون تغليبا لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً كما تزعمون أيها العابدون إياها ما وَرَدُوها وحيث تبين ورودهم إياها على أتم وجه حيث إنهم حصب جهنم امتنع كونهم آلهة بالضرورة، وهذا ظاهر في أن المراد مما يعبدون الأصنام لا الشياطين لأن المراد به إثبات نقيض ما يدعونه وهم يدعون إلهية الأصنام لا إلهيتها حتى يحتج بورودها النار على عدمها، نعم الشياطين التي تعبد داخلة في حكم النص بطريق الدلالة فلا تغفل.
وَكُلٌّ من العبدة والمعبودين فِيها خالِدُونَ باقون إلى الأبد لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ هو صوت نفس المغموم يخرج من أقصى الجوف، وأصل الزفر كما قال الراغب: ترديد النفس حتى تنتفخ منه الضلوع، والظاهر أن ضمير لَهُمْ للكل أعني العبدة والمعبودين، وفيه تغليب العقلاء على غيرهم من الأصنام حيث جيء بضمير العقلاء راجعا إلى الكل، ويجري ذلك في خالِدُونَ أيضا، وكذا غلب من يتأتى منه الزفير ممن فيه حياة على غيره من الأصنام أيضا حيث نسب الزفير للجميع، وجوز أن يجعل الله تعالى للأصنام التي عبدت حياة فيكون حالها حال من معها ولها ما لهم فلا تغليب، وقيل: الضمير للمخاطبين في إِنَّكُمْ خاصة على سبيل الالتفات فلا حاجة إلى القول بالتغليب أصلا. ورد بأنه يوجب تنافر النظم الكريم ألا ترى قوله تعالى: أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ كيف يجمع بينهم تغليبا للمخاطبين فلو خص لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ لزم التفكيك، وكذا الكلام في قوله تعالى: وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول وفظاعة العذاب على ما قيل، وقيل: لا يسمعون لو نودي عليهم لشدة زفيرهم، وقيل:
لا يسمعون ما يسرهم من الكلام إذ لا يكلمون إلا بما يكرهون، وقيل: إنهم يبتلون بالصمم حقيقة لظاهر قوله تعالى:
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: ٩٧] وهو كما ترى، وذكر في حكمة إدخال المشركين النار مع معبوداتهم أنها زيادة غمهم برؤيتهم إياها معذبة مثلهم وقد كانوا يرجون شفاعتها، وقيل: زيادة غمهم برؤيتها معهم وهي السبب في عذابهم فقد قيل:
واحتمال الأذى ورؤية جاني | هـ غذاء تضنى به الأجسام |
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أي الخصلة المفضلة في الحسن وهي السعادة، وقيل: التوفيق للطاعة، والمراد من سبق ذلك تقديره في الأول، وقيل: الحسنى الكلمة الحسنى وهي المتضمنة للبشارة بثوابهم وشكر أعمالهم، والمراد من سبق ذلك تقدمه في قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ [الأنبياء: ٩٤] وهو خلاف الظاهر، والظاهر أن المراد من الموصول كل من اتصف بعنوان الصلة وخصوص السبب لا يخصص، وما ذكر في بعض الآثار من تفسيره بعيسى وعزير والملائكة عليهم السلام فهو من الاقتصار على بعض أفراد العام حيث إنه السبب في النزول. وينبغي أن يجعل من باب الاقتصار ما
أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عن محمد بن حاطب عن عليّ كرم لله تعالى وجهه أنه فسر الموصول بعثمان وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.
وروى ابن أبي حاتم وجماعة عن النعمان بن بشير أن عليّا كرم الله تعالى وجهه قرأ الآية فقال: أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وسعد وعبد الرحمن منهم كذا رأيته في الدر المنثور، ورأيت في غيره عد العشرة المبشرة رضي الله تعالى عنهم
، والجدران متعلقان بسبقت.
وجوز أبو البقاء في الثاني كونه متعلقا بمحذوف ووقع حالا من الْحُسْنى وقوله تعالى: أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم، وبعد منزلتهم في الشرف والفضل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعت عَنْها أي عن جهنم مُبْعَدُونَ لأنهم في الجنة وشتان بينها وبين النار. صفحة رقم 92