
تفسير سورة الأنبياء عدد ٢٣ و ٧٣- ٢١
نزلت بمكة بعد سورة إبراهيم. وهي مئة واثنتا عشرة آية، وألف وثمنمئة وثمانية وستون كلمة، وأربعة آلاف وثمنمئة وتسعون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» على ما عملوه في الدنيا، لأن القرب إما زماني، وإما مكاني، وكونه مكانيا يتعذر هنا. فلزم أن يكون زمانيّا، ولا يقال إنه مرّ عليه ما يقرب من أربعة عشر قرنا ولم يأت لأن يوما عند ربك كألف سنة مما نعدّه، والمراد أن وقت الحساب صار قريبا، ولذلك عبر بالماضي لتحقق وقوعه وقربه وقلة ما بقي بالنسبة لما مضى، لأن كل آت قريب. والبعيد ما وقع ومضى. وقيل في المعنى:فلا زال ما تهواه أقرب من غد | ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس |
وقد أخبر الله تعالى بقربه ليتيقظ المسيء ويتعظ، ويكثر المحسن ويستزيد من إحسانه، وليكون كل منهما بحالة أدعى للتأهب، وليتنبه الغافل من رقدته، ويتذكر الناس أجمع ويسرعوا بالإقلاع عن المعاصي والإقدام على الطاعات، ولكن مع الأسف لا يتذكرون «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» ١ عن الاستعداد لما يراد بهم في ذلك اليوم، لا هون عنه، غارقون في بحر النسيان، وتراهم يا سيد الرسل «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ» إنزاله أي ما يحدث الله تعالى من تنزيل القرآن شيئا فشيئا، ليذكرهم به تدريجا، ويعظهم أولا فأولا ليتشوقوا إليه ويعره ويعقلوه «إِلَّا اسْتَمَعُوهُ» منك «وَهُمْ يَلْعَبُونَ» ٢ فيسخرون به ويستهزئون عند سماعه «لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ» عنه ساهية أفئدتهم عن معناه كأنه لم ينزل لخيرهم «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى» فيما بينهم بالباطل عند سماعه. وأعلم أن الضمير في أسروا صرف دال على الجمع فقط لأن فاعله «الَّذِينَ» وصلته جملة «ظَلَمُوا» ومن هنا صحت لغة أكلوني البراغيث، ثم بين هذه النّجوى التي بالغوا في إخفائها بينهم بقوله جل قوله «هَلْ هذا» الذي يدعي رسالة الله ويأمركم صفحة رقم 294

باتباعه وإبطال دين آبائكم «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أيها الناس ليس بملك ولا إله وإنما بسحركم بما أوتي من بلاغة في المعنى وفصاحة في القول «أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ» بمطلق ادعائه الرسالة وتقبلون قوله بمجرد أن قال لكم إن الذي أتلوه عليكم من الله «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» ٣ بأم أعينكم أنه بشر مثلكم وتعقلون ببصائركم أن ما يأتيكم به سحر، قل يا أكمل الرسل لهؤلاء الكفرة الذين يحوكون لك الدسائس فيما بينهم، ويظنون أنا لا نطلعك على حقيقة أمرهم، والقراءة التي عليها المصاحف «قالَ» لهم جوابا لما تناجوا به «رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ» قليله وكثيره، وخفيه وظاهره، من كل ما وقع أو يقع «فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ» فكيف تناجون فيّ ولا يطلعني على نجواكم «وَهُوَ السَّمِيعُ» لكل ما يقع في أرضه وسمائه مهما رق ودق «الْعَلِيمُ» ٣ به سره وجهره وما تضمرونه إليّ في أي مكان وزمان كان لا يخفى عليه شيء.
مطلب وصف الكفرة كلام الله والنزل عليه ومعنى اللهو وكلمة لا يفترون:
واعلم يا سيد الرسل أن هؤلاء الكفرة لم يكتفوا بقولهم لك ساحر والقرآن سحر «بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أباطيل رآها في نومه، ثم انتقلوا إلى ما هو أفظع فقالوا «بَلِ افْتَراهُ» اختلقه من نفسه، ثم أضربوا فقالوا «بَلْ هُوَ شاعِرٌ» وذلك أن الكفرة تضاربت آراؤهم وتنافت أقوالهم إذ اختلفوا في وصف محمد وما يتلوه عليهم على ثمانية أقوال: ١- منهم من قال إن ما يأتي به من أساطير الأولين وهو ناقل لها، ٢- ومنهم من قال يتعلم من الغير ويتلوه عليكم، ٣- ومنهم من قال القرآن كهانة ومحمد كاهن، ٤- ومنهم من قال إنه سحر وهو ساحر ٥- ومنهم من قال إنه شعر وهو شاعر، ٦- ومنهم من قال إنه نثر مسجع وهو ألفه، ٧- ومنهم من قال اختلقه من نفسه وهو مختلق مبتدع، ٨- ومنهم من قال أباطيل نوم يراعا وينسبها إلى الله. قاتلهم الله وعذبهم في أصناف ناره وحرمهم من أنواع جنته، وقد كذبوا كلهم فيما تقولوه ولمّا عرفوا أنهم لم يصيبوا الهدف تحدوه فقالوا «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ» من لدن ربه تدل على صحة دعواه «كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» ٥ بالآيات مثل موسى وعيسى ومن قبلها، ومن هنا يفهم أن ما قاله بعضهم إن المراد

بالذكر المحدث في الآية الثانية المارة هو قول الرسول. قول لا قيمة له ولا يستند إلى قول بل المراد ما ذكرناه في تفسيرها لا غير والله أعلم. قال تعالى رادا عليهم قولهم ومجيبا عن نبيه صلّى الله عليه وسلم «ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» من الأمم السالفة الذين اقترحوا الآيات على أنبيائهم لأنهم كذبوا بها بعد نزولها فأهلكناهم «أَفَهُمْ» قومك هؤلاء العريقون في الكفر إذا أنزلنا عليهم آية «يُؤْمِنُونَ» ٦ كلا لا يؤمنون ولو آتيناهم كل آية، وهذا من إطلاق الكل وإرادة الجزء لأن منهم من آمن ومنهم من أصر فالمخبر عنهم بعدم الإيمان هم المصرّون على كفرهم وقال تعالى في معرض الرد عليهم أيضا «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ» مثلك فكيف يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» جمع الضمير للتعظيم وسببه افتضاء المقام لتعظيمه أمام قومه، أي اسأل يا محمد علماء أهل الكتابين الذين سألهم قومك بماذا يختبرونك وقالوا لهم سلوه عن أهل الكهف وذي القرنين والروح، كما تقدم في الآية ٩ من سورة الكهف المارة، فقل لمثل هؤلاء هل أرسل الله للأولين ملائكة كما يزعمون فإنهم يجيبونك حتما بأن الله لم يرسل إلى البشر إلا بشرا مثلهم «إِنْ كُنْتُمْ» يا رسولنا «لا تَعْلَمُونَ» ٧ ذلك راجع نظيره هذه الآية الآية ٤٧ من سورة النحل المارة بزيادة لفظ من فقط «وَما جَعَلْناهُمْ» أي الرسل قبلك يا حبيبي «جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ» حتى يقولوا (ما لهذا الرسول يأكل الطعام) الآيتين ٨/ ٢٠ من الفرقان في ج ١، وجاءت هذه الآية بمعرض الرد لهذا القول لأنهم لا زالوا يترنمون بهذه الأباطيل وينكرون ما تنلوه عليهم بقولهم المجرد إذ لا حجة لهم ولا برهان على إبطاله لذلك تراهم يتمسكون بهذه الأقاويل الفارغة ويكررونها «وَما كانُوا خالِدِينَ» ٨ في الدنيا بل يموتون كغيرهم وما أنت إلا مثلهم تموت أيضا فلا محل لا نتقادك بذلك «ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ» بنصرهم وإهلاك أعدائهم في الدنيا أما الأنبياء إخوانك «فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ» من أتباعهم الصادقين «وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ» ٩ بالمعاصي والتعدي على الغير هلاك استئصال، قال تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً» عظيما جليلا يا معشر قريش على أشرف رجل منكم وهذا سفر خطير «فِيهِ
صفحة رقم 296