آيات من القرآن الكريم

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ هَاهُنَا أَهْلُ دِينِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْكَرْبِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْعَذَابُ النَّازِلُ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ الْغَرَقُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَكْذِيبُ قَوْمِهِ إِيَّاهُ وَمَا لَقِيَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَذَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى مُدَّةً طَوِيلَةً وَكَانَ قَدْ يَنَالُ مِنْهُمْ كُلَّ مَكْرُوهٍ، وَكَانَ الْغَمُّ يَتَزَايَدُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَعِنْدَ إِعْلَامِ اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُ أَنَّهُ يُغْرِقُهُمْ وَأَمَرَهُ بِاتِّخَاذِ الْفُلْكِ كَانَ أَيْضًا عَلَى غَمٍّ وَخَوْفٍ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ مَنِ الَّذِي يَتَخَلَّصُ/ مِنَ الْغَرَقِ وَمَنِ الَّذِي يَغْرَقُ فَأَزَالَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ الْكَرْبَ الْعَظِيمَ بِأَنْ خَلَّصَهُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَخَلَّصَ جَمِيعَ مَنْ آمَنَ بِهِ مَعَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ فَقِرَاءَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَنَصَرْنَاهُ عَلَى الْقَوْمِ ثُمَّ قَالَ الْمُبَرِّدُ: تَقْدِيرُهُ وَنَصَرْنَاهُ مِنْ مَكْرُوهِ الْقَوْمِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ [غَافِرٍ: ٢٩] أَيْ يَعْصِمُنَا مِنْ عَذَابِهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مِنْ بِمَعْنَى عَلَى. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ نَصَرَ الَّذِي مُطَاوِعُهُ انْتَصَرَ وَسَمِعْتُ هُذَلِيًّا يَدْعُو عَلَى سَارِقٍ: اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ مِنْهُ، أَيِ اجْعَلْهُمْ مُنْتَصِرِينَ مِنْهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ لِأَجْلِ رَدِّهِمْ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ، فَبَيَّنَ ذلك الوجه الذي به خلصه منهم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٨ الى ٨٢]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
الْقِصَّةُ الْخَامِسَةُ، قِصَّةُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السلام
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إلى قوله آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَزَكَرِيَّا وَذَا النُّونِ، كُلَّهُ نَسَقٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: ٥١] ومن قوله: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: ٧٤] وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ نِعَمِ اللَّه تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فَذَكَرَ أَوَّلًا النِّعْمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلَّ/ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ النِّعَمِ. أَمَّا النِّعْمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فَهِيَ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ قِصَّةُ الْحُكُومَةِ، وَوَجْهُ النِّعْمَةِ فِيهَا أَنَّ اللَّه تَعَالَى زَيَّنَهُمَا بِالْعِلْمِ. وَالْفَهْمِ فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ثُمَّ فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْكَمَالَاتِ وَأَعْظَمُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَهُ هَاهُنَا عَلَى سَائِرِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ مِثْلَ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ وَالرِّيحِ وَالْجِنِّ. وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ مُقَدَّمًا عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهَا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ النَّفْشُ أَنْ تَنْتَشِرَ الْغَنَمُ بِاللَّيْلِ تَرْعَى بِلَا رَاعٍ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لَيْلًا ونهارا.

صفحة رقم 163

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْحَرْثَ هُوَ الزَّرْعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْكَرْمُ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالْعُرْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ. جَوَابُهُ: أَنَّ الْحُكْمَ كَمَا يُضَافُ إِلَى الْحَاكِمِ فَقَدْ يُضَافُ إِلَى الْمَحْكُومِ لَهُ، فَإِذَا أُضِيفَ الْحُكْمُ إِلَى الْمُتَحَاكِمِينَ كَانَ الْمَجْمُوعُ أَكْثَرَ مِنَ الِاثْنَيْنِ، وَقُرِئَ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمَا شَاهِدِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ الْقِصَّةِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ:
قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ: إِنَّ غَنَمَ هَذَا دَخَلَتْ حَرْثِي وَمَا أَبْقَتْ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اذْهَبْ فَإِنَّ الْغَنَمَ لَكَ. فَخَرَجَا فَمَرَّا عَلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا؟
فَأَخْبَرَاهُ: فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا الْقَاضِيَ لَقَضَيْتُ بِغَيْرِ هَذَا. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَعَاهُ وَقَالَ: كَيْفَ كُنْتَ تَقْضِي بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: أَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ فَيَكُونُ لَهُ مَنَافِعُهَا مِنَ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالْوَبَرِ حَتَّى إِذَا كَانَ الْحَرْثُ مِنَ الْعَامِ الْمُسْتَقْبَلِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ أُكِلَ دَفَعْتُ الْغَنَمَ إِلَى أَهْلِهَا وَقَبَضَ صَاحِبُ الْحَرْثِ حَرْثَهُ.
الثَّانِي:
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٌ وَمُقَاتِلٌ رَحِمَهُمُ اللَّه: أَنَّ رَاعِيًا نَزَلَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِجَنْبِ كَرْمٍ، فَدَخَلَتِ الْأَغْنَامُ الْكَرْمَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فَأَكَلَتِ الْقُضْبَانَ وَأَفْسَدَتِ الْكَرْمَ، فَذَهَبَ صَاحِبُ الْكَرْمِ مِنَ الْغَدِ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَضَى لَهُ بِالْغَنَمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ ثَمَنِ الْكَرْمِ وَثَمَنِ الْغَنَمِ تَفَاوَتٌ، فَخَرَجُوا وَمَرُّوا بِسُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا؟ فَأَخْبَرَاهُ بِهِ، فَقَالَ غَيْرُ هَذَا أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ، فَأُخْبِرَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ فَدَعَا سُلَيْمَانَ وَقَالَ لَهُ: بِحَقِّ الْأُبُوَّةِ وَالنُّبُوَّةِ إِلَّا أَخْبَرْتَنِي بِالَّذِي هُوَ أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ: تُسَلِّمُ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ حَتَّى يَرْتَفِقَ بِمَنَافِعِهَا وَيَعْمَلُ الرَّاعِي فِي إِصْلَاحِ الْكَرْمِ حَتَّى يَصِيرَ كَمَا كَانَ، ثُمَّ تَرُدُّ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِهَا، فَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الْقَضَاءُ مَا قَضَيْتَ وَحَكَمَ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: حَكَمَ سُلَيْمَانُ بِذَلِكَ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَهَاهُنَا أُمُورٌ وَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهَا.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ اخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الْأَصَمَّ قَالَ: إِنَّهُمَا لَمْ يَخْتَلِفَا الْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُمَا الْحُكْمَ لَكِنَّهُ بَيَّنَهُ عَلَى لِسَانِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْجَوَابُ:
الصَّوَابُ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا وَالدَّلِيلُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَى/ مَا رَوَيْنَاهُ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ثُمَّ قَالَ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ سَابِقًا عَلَى هَذَا التَّفْهِيمِ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ السَّابِقُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: اتَّفَقَا فِيهِ أَوِ اخْتَلَفَا فِيهِ، فَإِنِ اتَّفَقَا فِيهِ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ:
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ فَائِدَةٌ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ فَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ وَلَكِنْ هَلْ كَانَ الْحُكْمَانِ صَادِرَيْنِ عَنِ النَّصِّ أَوْ عَنِ الِاجْتِهَادِ. الْجَوَابُ: الْأَمْرَانِ جَائِزَانِ عِنْدَنَا وَزَعَمَ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُمَا كَانَا صَادِرَيْنِ عَنِ النَّصِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَارَةً يَبْنِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأُخْرَى عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا مِنْهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
أَمَّا الْمَأْخَذُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى بِالْمَحْصُولِ فِي الْأُصُولِ وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا أُصُولَ الْكَلَامِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا:

صفحة رقم 164

قوله تعالى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [يُونُسَ: ١٥] وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْمِ: ٣]. وَثَانِيهَا: أَنَّ الِاجْتِهَادَ طَرِيقُهُ الظَّنُّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِدْرَاكِهِ يَقِينًا فَلَا يَجُوزُ مَصِيرُهُ إِلَى الظَّنِّ كَالْمُعَايِنِ لِلْقِبْلَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ. ثَالِثُهَا: أَنَّ مُخَالَفَةَ الرَّسُولِ تُوجِبُ الْكُفْرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النِّسَاءِ: ٦٥] وَمُخَالَفَةُ الْمَظْنُونِ وَالْمُجْتَهَدَاتِ لَا تُوجِبُ الْكُفْرَ. وَرَابِعُهَا: لَوْ جَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْأَحْكَامِ لَكَانَ لَا يَقِفُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَمَّا وَقَفَ فِي مَسْأَلَةِ الظِّهَارِ وَاللِّعَانِ إِلَى وُرُودِ الْوَحْيِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ فَقْدِ النَّصِّ، لَكِنَّ فِقْدَانَ النَّصِّ فِي حَقِّ الرَّسُولِ كَالْمُمْتَنِعِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الِاجْتِهَادُ مِنْهُ. وَسَادِسُهَا: لَوْ جَازَ الِاجْتِهَادُ مِنَ الرَّسُولِ لَجَازَ أَيْضًا مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحِينَئِذٍ لَا يَحْصُلُ الْأَمَانُ بِأَنَّ هَذِهِ الشَّرَائِعَ الَّتِي جَاءَ بِهَا أَهِيَ مِنْ نُصُوصِ اللَّه تَعَالَى أَوْ مِنَ اجْتِهَادِ جِبْرِيلَ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ لَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِكُمْ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي إِبْدَالِ آيَةٍ بِآيَةٍ لِأَنَّهُ عَقِيبَ قَوْلِهِ:
قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُسَ: ١٥] وَلَا مَدْخَلَ لِلِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى فَبَعِيدٌ لِأَنَّ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ يَقُولُ إِنَّ الَّذِي أَجْتَهِدُ فِيهِ هُوَ عَنْ وَحْيٍ عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْأَدَاءِ عَنِ اللَّه تَعَالَى لَا فِي حُكْمِهِ الَّذِي يَكُونُ بِالْعَقْلِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا قَالَ لَهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا فِي الْأَصْلِ بِكَذَا، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّكَ قِيَامُ ذَلِكَ المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فههنا الْحُكْمُ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالظَّنُّ غَيْرُ وَاقِعٍ فِيهِ بَلْ فِي طَرِيقِهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْمُجْتَهَدَاتِ جَائِزَةٌ مُطْلَقًا بَلْ جَوَازُ مُخَالَفَتِهَا مَشْرُوطٌ بِصُدُورِهَا عَنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُجْمِعُوا اجْتِهَادًا ثُمَّ يَمْتَنِعُ مُخَالَفَتُهُمْ وَحَالُ الرسول أؤكد. وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ: لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ أَوْ كَانَ مَأْذُونًا مُطْلَقًا لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَجْهُ الِاجْتِهَادِ، فَلَا جَرَمَ/ أَنَّهُ تَوَقَّفَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَامِسِ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ النَّصُّ عَنْهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ شَرْطُ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السَّادِسِ: أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَدْفُوعٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ شُبَهِ الْمُنْكِرِينَ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِمْ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلٌ بِمَعْنًى ثُمَّ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ قِيَامَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي صُورَةٍ أُخْرَى فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ حُكْمَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِثْلُ مَا فِي الْأَصْلِ، وَعِنْدَهُ مُقَدِّمَةٌ يَقِينِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ مُخَالَفَةَ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ظَنُّ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ لِمُخَالَفَةِ هَذَا الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ. وَعِنْدَ هَذَا، إِمَّا أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. أَوْ يَتْرُكُهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ الْخُلُوِّ عَنِ النَّقِيضَيْنِ، أَوْ يُرَجِّحُ الْمَرْجُوحَ عَلَى الرَّاجِحِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ، أَوْ يُرَجِّحُ الرَّاجِحَ عَلَى الْمَرْجُوحِ وَذَلِكَ هُوَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا التَّعْوِيلُ فِي الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَهِيَ قَائِمَةٌ أَيْضًا فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وثانيها: قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا أَمْرٌ لِلْكُلِّ بِالِاعْتِبَارِ فَوَجَبَ انْدِرَاجُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ لِأَنَّهُ إِمَامُ الْمُعْتَبِرِينَ وَأَفْضَلُهُمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الِاسْتِنْبَاطَ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعُلَمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّسُولِ فِيهِ مَدْخَلٌ وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُجْتَهِدِينَ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ تَكُنْ دَرَجَةٌ أَعْلَى مِنَ الِاعْتِبَارِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَدْرِكُ الْأَحْكَامَ وَحْيًا عَلَى سَبِيلِ الْيَقِينِ، فَكَانَ

صفحة رقم 165

أَرْفَعَ دَرَجَةً مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَيْسَ قُصَارَاهُ إِلَّا الظَّنَّ. قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَجِدَ النَّصَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِاجْتِهَادِ لَكَانَ أَقَلَّ دَرَجَةً مِنَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ كَانَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِلْقَطْعِ بِالْحُكْمِ. وَرَابِعُهَا:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ»
فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةُ الِاجْتِهَادِ لِيَرِثَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُمْ ذَلِكَ. هَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: ٤٣] فَذَاكَ الْإِذْنُ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى اسْتَحَالَ أَنْ يَقُولَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِهَوَى النَّفْسِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْمَأْخَذُ الثَّانِي: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَوْ جَوَّزْنَا الِاجْتِهَادَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي وَصَلَ إِلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ مِنْ دَرِّ الْمَاشِيَةِ وَمِنْ مَنَافِعِهَا مَجْهُولُ الْمِقْدَارِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ فِي الِاجْتِهَادِ جَعْلُ أَحَدِهِمَا عِوَضًا عَنِ الْآخَرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اجْتِهَادَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانَ صَوَابًا لَزِمَ أَنْ لَا يُنْقَضَ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا ينتقض بِالِاجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَ خَطَأً وَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ اللَّه تَعَالَى تَوْبَتَهُ كَسَائِرِ مَا حَكَاهُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَلَمَّا مَدَحَهُمَا بِقَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْخَطَأُ مِنْ دَاوُدَ. وَثَالِثُهَا: لَوْ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ لَكَانَ الْحَاصِلُ هُنَاكَ ظَنًّا لَا عِلْمًا لَأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً. وَرَابِعُهَا: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ/ عَنِ اجتهاد من مَعَ قَوْلِهِ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْقَدْرِ لَا تَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ كَالْجَعَالَاتِ وَحُكْمِ الْمُصَرَّاةِ. وَعَنِ الثَّانِي: لَعَلَّهُ كَانَ خَطَأً مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ فَالظَّنُّ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فَأَمَّا الْحُكْمُ فَمَقْطُوعٌ بِهِ. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ إِذَا تَأَمَّلَ وَاجْتَهَدَ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ اللَّه تَعَالَى فَهَّمَهُ مِنْ حَيْثُ بَيَّنَ لَهُ طَرِيقَ ذلك. فهذا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِيهِ بِسَبَبِ النَّصِّ فَطَرِيقُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَسَخَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَّةً وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَ دَاوُدَ ذَلِكَ فَصَارَ ذَلِكَ الْحُكْمُ حُكْمَهُمَا جَمِيعًا فَقَوْلُهُ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى الْحُكْمَ الْأَوَّلَ عَلَى دَاوُدَ وَجَبَ أَنْ يَنْزِلَ نَسْخُهُ أَيْضًا عَلَى دَاوُدَ لَا عَلَى سُلَيْمَانَ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَدَحَ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى الْفَهْمِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّصِّ لَمْ يَكُنْ فِي فَهْمِهِ كَثِيرُ مَدْحٍ إِنَّمَا الْمَدْحُ الْكَثِيرُ عَلَى قُوَّةِ الْخَاطِرِ وَالْحَذَاقَةِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِذَا أَثْبَتُّمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا لِأَجْلِ النَّصِّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الِاجْتِهَادِ فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ: الِاجْتِهَادُ أَرْجَحُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ
رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَتَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ حَتَّى سَمِعَ مِنْ سُلَيْمَانَ أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْلَى،
وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاشَدَهُ لِكَيْ يُورِدَ مَا عِنْدَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالنَّصِّ،
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَصًّا لَكَانَ يُظْهِرُهُ وَلَا يَكْتُمُهُ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: بَيِّنُوا أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ طَرِيقُ الِاجْتِهَادِ. الْجَوَابُ: أَنَّ وَجْهَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مِنْ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوَّمَ قَدْرَ الضَّرَرِ بِالْكَرْمِ فَكَانَ مُسَاوِيًا لِقِيمَةِ الْغَنَمِ فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ الضَّرَرِ أَنْ يُزَالَ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّفْعِ فَلَا جَرَمَ سَلَّمَ الْغَنَمَ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي الْعَبْدِ إِذَا جَنَى عَلَى النَّفْسِ يَدْفَعُهُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اجْتِهَادَهُ أدى إلى أنه يجب

صفحة رقم 166

مُقَابَلَةُ الْأُصُولِ بِالْأُصُولِ وَالزَّوَائِدِ بِالزَّوَائِدِ، فَأَمَّا مُقَابَلَةُ الْأُصُولِ بِالزَّوَائِدِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحَيْفَ وَالْجَوْرَ، وَلَعَلَّ مَنَافِعَ الْغَنَمِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ كَانَتْ مُوَازِيَةً لِمَنَافِعِ الْكَرْمِ فَحَكَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: فِيمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ مِنْ يَدِهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ لِيَنْتَفِعَ بِهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِإِزَاءِ مَا فَوَّتَهُ الْغَاصِبُ مِنْ مَنَافِعِ الْعَبْدِ فَإِذَا ظَهَرَ تَرَادَّا.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ ثَبَتَ قَطْعًا أَنَّ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الِاجْتِهَادِ، فَهَلْ تَدُلُّ هَذِهِ الْقِصَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَوِ الْكُلَّ مُصِيبُونَ. الْجَوَابُ: أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَفِيهِمْ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ قَالَ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مُصِيبًا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ/ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا التَّفْهِيمِ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْكُلَّ مُصِيبُونَ فَفِيهِمْ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَلَوْ كَانَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا وَمُخَالِفُهُ مُخْطِئًا لَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَيْنِ ضَعِيفَانِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ فَهَّمَهُ الصَّوَابَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَهَّمَهُ النَّاسِخَ وَلَمْ يُفَهِّمْ ذَلِكَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْآيَةِ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَا كَانَا مُصِيبَيْنِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي شَرْعِنَا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إِنَّ كُلًّا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا بِمَا حَكَمَ بِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا بِوُجُوهِ الِاجْتِهَادِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فِي شَرْعِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي شَرْعِنَا.
السُّؤَالُ السَّادِسُ: لَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي شَرْعِنَا مَا حُكْمُهَا؟ الْجَوَابُ: قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَالْقُضَاةُ بِذَلِكَ يَقْضُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ لَا ضَمَانَ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْمَاشِيَةِ تَسْيِيبَ مَاشِيَتِهِ بِالنَّهَارِ، وَحِفْظَ الزَّرْعِ بِالنَّهَارِ عَلَى صَاحِبِهِ. وَإِنْ كَانَ لَيْلًا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ لِأَنَّ حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِالْإِرْسَالِ،
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ»
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِمَا
رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَتْ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْهُ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ»
وَهَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي خَصَّ بها داود عليه أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذَا التَّسْبِيحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِبَالَ كَانَتْ تُسَبِّحُ ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا.
أَحَدُهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ إِذَا ذَكَرَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ ذَكَرَتِ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ رَبَّهَا مَعَهُ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِذَا سَبَّحَ دَاوُدُ أَجَابَتْهُ الْجِبَالُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا وَجَدَ فَتْرَةً أَمَرَ اللَّه تَعَالَى الْجِبَالَ فَسَبَّحَتْ فَيَزْدَادُ نَشَاطًا وَاشْتِيَاقًا. الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِ الْمَعَانِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَسْبِيحُ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] وَتَخْصِيصُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ ضَرُورَةً فَيَزْدَادُ يَقِينًا وَتَعْظِيمًا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: لَوْ حَصَلَ الْكَلَامُ مِنَ الْجَبَلِ لَحَصَلَ إِمَّا بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ اللَّه تَعَالَى فِيهِ. وَالْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّ بِنْيَةَ الْجَبَلِ لَا تَحْتَمِلُ الْحَيَاةَ والعلم والقدرة، وما يَكُونُ حَيًّا/ عَالِمًا قَادِرًا

صفحة رقم 167

يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الْفِعْلُ. وَالثَّانِي: أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَ فَاعِلًا لِلْكَلَامِ لَا مَنْ كَانَ مَحَلًّا لِلْكَلَامِ، فَلَوْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَا الْجَبَلُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا فِي: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ ومثله قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سَبَأٍ: ١٠] مَعْنَاهُ تَصَرَّفِي مَعَهُ وَسِيرِي بِأَمْرِهِ وَيُسَبِّحْنَ مِنَ السَّبْحِ الَّذِي السِّبَاحَةُ خَرَجَ اللَّفْظُ فِيهِ عَلَى التَّكْثِيرِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ التَّكْثِيرَ لَقِيلَ يَسْبَحْنَ فَلَمَّا كَثُرَ قِيلَ يُسَبِّحْنَ مَعَهُ، أَيْ سِيرِي وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: ٧] أَيْ تَصَرُّفًا وَمَذْهَبًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ سَيْرَهَا هُوَ التَّسْبِيحُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى سَائِرِ مَا تَنَزَّهَ عَنْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَنَّ بِنْيَةَ الْجَبَلِ لَا تَقْبَلُ الْحَيَاةَ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ وَعَلَى أَنَّ التَّكَلُّمَ مِنْ فِعْلِ اللَّه وَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الطَّيْرُ فَلَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْهَا الْكَلَامُ، وَلَكِنْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ إِمَّا الْجِنُّ أَوِ الْإِنْسُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ فَيَمْتَنِعُ فِيهَا أَنْ تَبْلُغَ فِي الْعَقْلِ إِلَى دَرَجَةِ التَّكْلِيفِ، بَلْ تَكُونُ عَلَى حَالَةٍ كَحَالِ الطِّفْلِ فِي أَنْ يُؤْمَرَ وَيُنْهَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَصَارَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً مِنْ حَيْثُ جَعَلَهَا فِي الْفَهْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُرَاهِقِ، وَأَيْضًا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى تَنَزُّهِهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْجِبَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُسَبِّحْنَ حَالٌ بِمَعْنَى مُسَبِّحَاتٍ أَوِ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: كَيْفَ سَخَّرَهُنَّ؟ فَقَالَ: يُسَبِّحْنَ. وَالطَّيْرَ إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الْجِبَالِ وَإِمَّا مَفْعُولٌ مَعَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قُدِّمَتِ الْجِبَالُ عَلَى الطَّيْرِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ، لِأَنَّهَا جَمَادٌ وَالطَّيْرُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَكُنَّا فاعِلِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّا قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَفْعَلَ هَذَا وَإِنْ كَانَ عَجَبًا عِنْدَكُمْ وَقِيلَ نَفْعَلُ ذلك بالأنبياء عليهم السلام.
الثاني: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّبُوسُ اللِّبَاسُ، قَالَ الْبَسْ لِكُلِّ حَالَةٍ لَبُوسَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِتُحْصِنَكُمْ قُرِئَ بِالنُّونِ وَالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِهَا، فَالنُّونُ للَّه عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّاءُ لِلصَّنْعَةِ أَوْ لِلَّبُوسِ عَلَى تَأْوِيلِ الدِّرْعِ وَالْيَاءُ للَّه تَعَالَى أَوْ لِدَاوُدَ أَوْ لِلَّبُوسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدِّرْعَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ صَفَائِحَ قَبْلَهُ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وَاتَّخَذَهَا حِلَقًا،
ذَكَرَ الْحَسَنُ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَضَرَهُ وَهُوَ يَعْمَلُ الدِّرْعَ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَمَّا يَفْعَلُ ثُمَّ سَكَتَ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا وَلَبِسَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ «١»
قَالُوا إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَلَانَ الْحَدِيدَ لَهُ يَعْمَلُ مِنْهُ بِغَيْرِ نَارٍ كَأَنَّهُ طِينٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْبَأْسُ هَاهُنَا الْحَرْبُ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى السُّوءِ كُلِّهِ، وَالْمَعْنَى لِيَمْنَعَكُمْ وَيَحْرُسَكُمْ مِنْ/ بَأْسِكُمْ أَيْ مِنَ الْجَرْحِ وَالْقَتْلِ والسيف والسهم والرمح.

(١) الذي أحفظه: الصمت حكم وقليل فاعله، ولو كان حكمة كما روى لقال فاعلها.

صفحة رقم 168

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ عَمِلَ الدِّرْعَ دَاوُدُ ثُمَّ تَعَلَّمُ النَّاسُ مِنْهُ، فَتَوَارَثَ النَّاسُ عَنْهُ ذَلِكَ. فَعَمَّتِ النِّعْمَةُ بِهَا كُلَّ الْمُحَارِبِينَ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، فَلَزِمَهُمْ شُكْرُ اللَّه تَعَالَى عَلَى النِّعْمَةِ فَقَالَ:
فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أَيِ اشْكُرُوا اللَّه عَلَى مَا يَسَّرَ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّنْعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ النِّعَمَ الَّتِي خَصَّ دَاوُدَ بِهَا ذَكَرَ بَعْدَهُ النِّعَمَ الَّتِي خَصَّ بِهَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَرَّثَ اللَّه تَعَالَى سُلَيْمَانَ مِنْ دَاوُدَ مُلْكَهُ وَنُبُوَّتَهُ وَزَادَهُ عَلَيْهِ أَمْرَيْنِ سَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ وَالشَّيَاطِينَ.
الْإِنْعَامُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ أَيْ جَعَلْنَاهَا طَائِعَةً مُنْقَادَةً لَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ أَرَادَهَا عَاصِفَةً كَانَتْ عَاصِفَةً وَإِنْ أَرَادَهَا لَيِّنَةً كَانَتْ لَيِّنَةً واللَّه تَعَالَى مُسَخِّرُهَا فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: الْعَاصِفُ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ، وَقَدْ وَصَفَهَا اللَّه تَعَالَى بِالرَّخَاوَةِ في قوله: رُخاءً حَيْثُ أَصابَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا كَانَتْ فِي نَفْسِهَا رَخِيَّةً طَيِّبَةً كَالنَّسِيمِ، فَإِذَا مَرَّتْ بِكُرْسِيِّهِ أَبْعَدَتْ بِهِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ عَلَى مَا قَالَ: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَكَانَتْ جَامِعَةً بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ رُخَاءٍ فِي نَفْسِهَا وَعَاصِفَةٍ فِي عَمَلِهَا مَعَ طَاعَتِهَا لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُبُوبُهَا عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُ وَيُحْكِمُ آيَةً إِلَى آيَةٍ وَمُعْجِزَةً إِلَى مُعْجِزَةٍ. الثَّانِي:
أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْتٍ رُخَاءً وَفِي وَقْتٍ عَاصِفًا، لِأَجْلِ هُبُوبِهَا عَلَى حُكْمِ إِرَادَتِهِ.
المسألة السادسة: قرئ الريح والرياح بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِيهِمَا فَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالنَّصْبُ لِلْعَطْفِ عَلَى الْجِبَالِ، فَإِنْ قِيلَ: قَالَ فِي دَاوُدَ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ وَقَالَ فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ فَذَكَرَهُ فِي حَقِّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَلِمَةِ مَعَ وَفِي حَقِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاللَّامِ وَرَاعَى هَذَا التَّرْتِيبَ أيضا في قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وقال: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلَفْظِ مَعَ، وَسُلَيْمَانَ بِاللَّامِ قُلْنَا يُحْتَمَلُ أَنَّ الْجَبَلَ لَمَّا اشْتَغَلَ بِالتَّسْبِيحِ حَصَلَ لَهُ نَوْعُ شَرَفٍ، فَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ، أَمَّا الرِّيحُ فَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إِلَّا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْخِدْمَةِ، فَلَا جَرَمَ أُضِيفَ إِلَى سُلَيْمَانَ بِلَامِ التَّمْلِيكِ، وَهَذَا إِقْنَاعِي.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ أَيْ إِلَى الْمُضِيِّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَتْ تسير في إِصْطَخْرَ إِلَى الشَّامِ يَرْكَبُ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أَيْ لِعِلْمِنَا بِالْأَشْيَاءِ صَحَّ مِنَّا أَنْ نُدَبِّرَ هَذَا التَّدْبِيرَ فِي رُسُلِنَا وَفِي خَلْقِنَا، وَأَنْ نَفْعَلَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةَ.
الْإِنْعَامُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَغُوصُونَ لَهُ فِي الْبِحَارِ فَيَسْتَخْرِجُونَ الْجَوَاهِرَ وَيَتَجَاوَزُونَ ذَلِكَ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْمِهَنِ وَبِنَاءِ الْمُدُنِ وَالْقُصُورِ وَاخْتِرَاعِ الصَّنَائِعِ الْعَجِيبَةِ كَمَا قَالَ: يَعْمَلُونَ/ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ وَأَمَّا الصِّنَاعَاتُ فَكَاتِّخَاذِ الْحَمَّامِ وَالنَّوْرَةِ وَالطَّوَاحِينِ وَالْقَوَارِيرِ وَالصَّابُونِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ يَعْنِي وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ نَسَقًا عَلَى الرِّيحِ قَالَ الزَّجَّاجُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ مِنْ

صفحة رقم 169

وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّسَقُ عَلَى الرِّيحِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ وَلَهُ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَيَكُونُ لَهُ هُوَ الْخَبَرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ يَغُوصُ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ سَائِرَ الْأَعْمَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ فِرْقَةٌ أُخْرَى وَيَكُونُ الْكُلُّ دَاخِلِينَ فِي لَفْظَةِ مَنْ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَقْرَبَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَيْسَ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّهُ سَخَّرَهُمْ، لَكِنَّهُ
قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ كُفَّارَهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ
وَهُوَ الْأَقْرَبُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِطْلَاقُ لَفْظِ الشَّيَاطِينِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سُخِّرَ فِي أَمْرٍ لَا يَجِبُ أَنْ يُحْفَظَ لِئَلَّا يُفْسِدَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي الْكَافِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَكَّلَ بِهِمْ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ جَمْعًا مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ. وَثَانِيهَا: سَخَّرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ حَبَّبَ إِلَيْهِمْ طَاعَتَهُ وَخَوَّفَهُمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ.
وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ وَسُلْطَانُهُ مُقِيمٌ عَلَيْهِمْ يَفْعَلُ بِهِمْ مَا يَشَاءُ، فَإِنْ قِيلَ وَعَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانُوا مَحْفُوظِينَ قُلْنَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يَحْفَظُهُمْ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَذْهَبُوا وَيَتْرُكُوهُ. وَثَانِيهَا قَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَ يَحْفَظُهُمْ مِنْ أَنْ يُهَيِّجُوا أَحَدًا فِي زَمَانِهِ. وَثَالِثُهَا: كَانَ يَحْفَظُهُمْ مِنْ أَنْ يُفْسِدُوا مَا عَمِلُوا فَكَانَ دَأْبُهُمْ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يُفْسِدُونَهُ فِي اللَّيْلِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: سَأَلَ الْجُبَّائِيُّ نَفْسَهُ، وَقَالَ: كَيْفَ يَتَهَيَّأُ لَهُمْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ وَأَجْسَامُهُمْ رَقِيقَةٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى عَمَلِ الثَّقِيلِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُمُ الْوَسْوَسَةُ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَثَّفَ أَجْسَامَهُمْ خَاصَّةً وَقَوَّاهُمْ وَزَادَ فِي عَظْمِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزًا لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ رَدَّهُمُ اللَّه إِلَى الْخِلْقَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَوْ بَقَّاهُمْ عَلَى الْخِلْقَةِ الثَّانِيَةِ لَصَارَ شُبْهَةً عَلَى النَّاسِ، ولو ادعى متنبى النُّبُوَّةَ وَجَعَلَهُ دَلَالَةً لَكَانَ كَمُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ فَلِذَا رَدَّهُمْ إِلَى خِلْقَتِهِمُ الْأُولَى، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ سَاقِطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: لِمَ قُلْتَ إِنَّ الْجِنَّ مِنَ الْأَجْسَامِ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ وُجُودُ مُحْدَثٍ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا قَائِمٍ بِالْمُتَحَيِّزِ وَيَكُونُ الْجِنُّ مِنْهُمْ؟ فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ مِثْلًا لِلْبَارِي تَعَالَى، قُلْتُ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي اللَّوَازِمِ الثُّبُوتِيَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَلْزُومَاتِ فَكَيْفَ اللَّوَازِمُ السَّلْبِيَّةُ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ جِسْمٌ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ حُصُولُ الْقُدْرَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ فِي الْجِسْمِ اللَّطِيفِ، وَكَلَامُهُ بِنَاءً عَلَى الْبِنْيَةِ شَرْطٌ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ إِلَّا الِاسْتِقْرَاءُ الضَّعِيفُ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَكْثِيفِ أَجْسَامِهِمْ لَكِنْ لِمَ قُلْتَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا إِلَى الْخِلْقَةِ الْأُولَى بَعْدَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنْ قَالَ: لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى التَّلْبِيسِ/ قُلْنَا التَّلْبِيسُ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ الْمُتَنَبِّيَ إِذَا جَعَلَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِنَفْسِهِ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ قُوَّةَ أَجْسَادِهِمْ كَانَتْ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ آخَرَ قَبْلَكَ، وَمَعَ قِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَتَمَكَّنُ الْمُتَنَبِّي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَجْسَامَ هَذَا الْعَالَمِ إِمَّا كَثِيفَةٌ أَوْ لَطِيفَةٌ، أَمَّا الْكَثِيفُ فَأَكْثَفُ الْأَجْسَامِ الْحِجَارَةُ وَالْحَدِيدُ وَقَدْ جَعَلَهُمَا اللَّه تَعَالَى مُعْجِزَةً لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَنْطَقَ الْحَجْرَ وَلَيَّنَ الْحَدِيدَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحَشْرِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْحِجَارَةِ فَأَيُّ بُعْدٍ فِي إِحْيَاءِ الْعِظَامِ الرَّمِيمَةِ، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ فِي إِصْبَعِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُوَّةَ النَّارِ مَعَ كَوْنِ الْإِصْبَعِ فِي نِهَايَةِ اللَّطَافَةِ، فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يَجْعَلَ التُّرَابَ الْيَابِسَ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا، وَأَلْطَفُ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْهَوَاءُ وَالنَّارُ، وَقَدْ جَعَلَهُمَا اللَّه مُعْجِزَةً لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَّا الْهَوَاءُ فَقَوْلُهُ تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ وَأَمَّا النَّارُ فَلِأَنَّ الشَّيَاطِينَ مَخْلُوقُونَ مِنْهَا وَقَدْ سَخَّرَهُمُ اللَّه تَعَالَى فَكَانَ يَأْمُرُهُمْ

صفحة رقم 170
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية