
وروي أنهم لما اجتمعوا على إحراقه عليه السلام بنوا له حظيرة في قرية كوثي، فجمعوا له أصناف الحطب شهرا، وأوقدوا نارا سبعة أيام، حتى لو مرّ الطير في أقصى الهواء لاحترق، ثم أخذوا إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان، ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموه به في النار، فجعل الله الحظيرة روضة وذلك قوله تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) أي أبردي بردا غير ضارّ ومكث إبراهيم في النار سبعة أيام. وكان عنده عين ماء عذب، وورد أحمر، ونرجس، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة، وقال: يا إبراهيم، إن ربك يقول أما علمت أن النار لا تضرّ أحبابي ولم تحرق النار منه إلّا وثاقه، فإن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق.
وروي أنهم أوقدوا عليه النار سبعة أيام بعد إلقائه في ذلك البنيان، ثم أطبقوا عليه، ثم فتحوا عليه من الغد، فإذا هو غير محترق، ويعرق عرقا فقال لهم هاران- أبو لوط عليه السلام-:
إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا النار تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق بئر وأوقدوا النار تحته، فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته. وَأَرادُوا بِهِ أي إبراهيم كَيْداً أي مكرا عظيما في الإضرار به، فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) فإنهم خسروا السعي والنفقة فلم يحصل لهم مرادهم، وهلكوا بإرسال الله عليهم البعوض، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت في دماغ نمروذ بعوضة فأهلكته
وَنَجَّيْناهُ أي إبراهيم من النار. وَلُوطاً ابن أخيه هاران الأصغر من الخسف وكان لهما أخ ثالث اسمه ناخور، والثلاثة أولاد آزر. وأما هاران الأكبر فكان عما لإبراهيم، وكانت سارة بنت عم إبراهيم، الذي هو هاران الأكبر. إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) في الدين والدنيا أي بلغناهما من العراق، إلى الشام فنزل إبراهيم بفلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة. وسبب بركة في الدين، لأن أكثر الأنبياء بعثوا منها، فانتشرت شرائعهم فيها وفي الدنيا لأن الله تعالى بارك فيها بكثرة الماء والشجر والثمر. وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم عليه السلام إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي وهبناهما لإبراهيم نافِلَةً أي عطية وفضلا من غير أن يكون جزاء مستحقا، ف «نافلة» منصوب على المصدر. وَكُلًّا أي كل واحد من هؤلاء الأربعة، جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) في الدين والدنيا فصاروا كاملين. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بهم في أمور الدنيا، يَهْدُونَ أي يدعون الناس إلى الخيرات بِأَمْرِنا وإذننا، وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ، أي أن يعملوا الشرائع هم وأتباعهم، وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وهذان من عطف الخاص على العام، دلالة على إنافتهما فإن الصلاة أفضل العبادات البدنية، والزكاة أفضل العبادات المالية. وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) أي مخلصين في العبادة لا يخطر ببالهم غير عبادتنا. وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً أي فصلا بين الخصوم. قال الزجّاج: أي هذه الجملة عطف على قوله: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ. وقال أبو

مسلم عطف على قوله: آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ، وآتينا لوطا. وَعِلْماً لائقا به وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ أي من أهل قرية سذوم. الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ، أي التي كان أهلها قبل إنجائنا له منها، يعملون الأعمال الخبائث من اللواط، ورمي المارة بالبندق، واللعب بالطيور، والتضارط في أنديتهم، وغير ذلك. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ أي قوما يحزنون الناس بأفعالهم، فاسِقِينَ (٧٤) أي خارجين من كل خير وَأَدْخَلْناهُ أي لوطا فِي رَحْمَتِنا، بأن فتحت عليه أبواب المكاشفات، وتجلّت له أنوار الإلهية، إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) أي من المستعدّين لقبول ذلك وللدخول فيه. وَنُوحاً عطف على قوله: ولوطا وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً إِذْ نادى، أي دعا على قومه بالعذاب، بدل اشتمال من نوحا مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المذكورين، فَاسْتَجَبْنا لَهُ الدعاء، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ، أي أهل دينه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وهو الغرق وأذية قومه. وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ، أي عصمناه من مكروه القوم كما قاله المبرد. وقال أبو عبيدة: من بمعنى على، كقراءة أبيّ ابن كعب ونصرناه على القوم، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، الدالة على رسالته عليه السلام إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ لأجل تكذيبهم له، فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) بالطوفان لإصرارهم على تكذيب الحق، ولانهماكهم في الشرّ وهذا بيان للوجه الذي خلّصه الله منهم به. وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي آتيناهما حكما إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ أي في حق الزرع، إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ أي انتشرت في الزرع غنم القوم في الليل ترعى بلا راع، وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ أي داود وسليمان شاهِدِينَ (٧٨) أي إنما حكما بإرشادنا لهما وأوقع الجمع موقع التثنية مجازا، ويدل على ذلك قراءة ابن عباس لحكمهما بصيغة التثنية.
فَفَهَّمْناها أي الفتيا سُلَيْمانَ وَكُلًّا أي كل واحد منهما، آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً، كثيرا.
روي أنه دخل على داود عليه السلام، رجلان فقال أحدهما: إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلا فأفسدته، وما أبقت منه شيئا. فقال داود عليه السلام: اذهب فإن الغنم لك. وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرث، وقيمة الغنم تفاوت، فخرجا، فمرا على سليمان عليه السلام، وهو ابن إحدى عشرة سنة، فقال: كيف قضي بينكما؟ فأخبراه بذلك، فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا وهو أرفق بالفريقين، فأخبرا بذلك داود عليه السلام، فدعاه وقال: كيف تقضي بينهما؟
فقال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له منافعها من الدّر، والنسل، والصواف، وأدفع الحرث إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه حتى يعود كهيئته يوم أكل، ثم دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه فقال داود: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك. ورأى داود قياس، كما أن العبد إذا جنى على النفس، يدفعه المولى إلى المجني عليه، أو يفديه عند أبي حنيفة ببيعه في ذلك، أو يفديه عند الشافعي. ورأى سليمان استحسان كما قال أصحاب الشافعي، فيمن غصب عبدا فأبق منه، أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه، بإزاء ما فوّته الغاصب من منافع