آيات من القرآن الكريم

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَٰنِ ۗ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ
ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ

الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ، وَالنَّصْرُ النِّهَائِيُّ كَمَا كَانَ لَهُمْ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ذَلِكَ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [٤١ ٤٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [١١ ١٢٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [٣٥ ٢٥ - ٢٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [٣٥ ٤] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ. وَمَادَّةُ حَاقَ يَائِيَّةُ الْعَيْنِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْمُضَارِعِ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [٣٥ ٤٣] وَلَا تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْمَادَّةُ إِلَّا فِي إِحَاطَةِ الْمَكْرُوهِ خَاصَّةً. فَلَا تَقُولُ: حَاقَ بِهِ الْخَيْرُ بِمَعْنَى أَحَاطَ بِهِ. وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ: وَحَاقَ بِهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وَعَلَى هَذَا اقْتَصَرَ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَحَاقَ أَيْ: أَحَاطَ وَدَارَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا وَسَخِرُوا مِنْهُمْ وَهَزِئُوا بِهِمْ (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [٢١ ٤١] أَيْ جَزَاءُ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّخْرِيَةَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ.
أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبَيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُعْرِضِينَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أَيْ: مَنْ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُكُمْ وَيَحْرُسُكُمْ بِاللَّيْلِ فِي حَالِ نَوْمِكُمْ وَالنَّهَارِ فِي حَالِ تَصَرُّفِكُمْ فِي أُمُورِكُمْ. وَالْكِلَاءَةُ بِالْكَسْرِ: الْحِفْظُ وَالْحِرَاسَةُ. يُقَالُ: اذْهَبْ فِي كِلَاءَةِ اللَّهِ. أَيْ: فِي حِفْظِهِ، وَاكْتَلَأْتُ مِنْهُمْ: احْتَرَسْتُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ هَرْمَةَ:

إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهُ يَكْلَؤُهَا ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا
وَقَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:

صفحة رقم 153

وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ مِنَ الرَّحْمَنِ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ: أَحَدُهُمَا وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ «مِنْ» هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى بَدَلَ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مِنَ الرَّحْمَنِ أَيْ: بَدَلَ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي غَيْرَهُ. وَأَنْشَدَ ابْنُ كَثِيرٍ لِذَلِكَ قَوْلَ الرَّاجِزِ:

أَنَخْتُ بَعِيرِي وَاكْتَلَأْتُ بِعَيْنِهِ وَآمَرْتُ نَفْسِي أَيَّ أَمْرِي أَفْعَلُ
جَارِيَةٌ لَمْ تَلْبَسِ الْمُرَقَّقَا وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا
أَيْ لَمْ تَذُقْ بَدَلَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [٩ ٣٨] أَيْ: بَدَلَهَا. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفَصِيلِ غُلُبَّةً ظُلْمًا وَيُكْتَبُ لِلْأَمِيرِ أَفِيلَا
يَعْنِي: أَخَذُوا فِي الزَّكَاةِ الْمَخَاضَ بَدَلَ الْفَصِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أَيْ: يَحْفَظُكُمْ مِنَ الرَّحْمَنِ أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ وَبَأْسِهِ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي. وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ [١١ ٦٣] أَيْ: مَنْ يَنْصُرُنِي مِنْهُ فَيَدْفَعُ عَنِّي عَذَابَهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: هُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، وَهُوَ عِنْدِي يَحْتَمِلُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْرِيرَ. فَوَجْهُ كَوْنِهِ إِنْكَارِيًّا أَنَّ الْمَعْنَى: لَا كَالِئَ لَكُمْ يَحْفَظُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وُوجْهُ كَوْنِهِ تَقْرِيرِيًّا أَنَّهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ؟ اضْطُرُّوا إِلَى أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ الَّذِي يَكْلَؤُهُمْ هُوَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ يُخْلِصُونَ لَهُ الدُّعَاءَ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ، وَلَا يَدْعُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» وَغَيْرِهَا. فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ، كَيْفَ يَصْرِفُونَ حُقُوقَ الَّذِي يَحْفَظُهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى مَا لَا يَنْفَعُ، وَلَا يَضُرُّ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَحْفَظُهُ وَلَا يَحْرُسُهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ الْحَافِظَ لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [١٣ ١١] عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا الْآيَةَ [٤٨ ١١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [٣٣ ١٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ

صفحة رقم 154
أضواء البيان
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي
سنة النشر
1415
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية