
وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْمَعْنَيَيْنِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» هُنَا قَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَى «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» أَنَّهُ الشَّرَفُ، أَيْ فِيهِ شَرَفُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فِيهِ شَرَفُكُمْ وَذِكْرُكُمْ آخِرَ الدَّهْرِ كَمَا تُذْكَرُ عِظَامُ الْأُمُورِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤].
وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ يَكُونُ لِتَفْرِيعِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَفَلا تَعْقِلُونَ أَحْسَنُ مَوْقِعٍ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ لِنَفْيِ عَقْلِهِمْ مُتَّجِهٌ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنَ فَإِنَّ مَنْ جَاءَهُ مَا بِهِ هَدْيُهُ فَلَمْ يَهْتَدِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ سُوءُ عَقْلِهِ، وَمَنْ جَاءَهُ مَا بِهِ مَجْدُهُ وَسُمْعَتُهُ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ سُوءُ قَدْرِهِ لِلْأُمُورِ حَقَّ قَدْرِهَا كَمَا يَكُونُ الْفَضْلُ فِي مِثْلِهِ مُضَاعَفًا.
وَأَيْضًا فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ آيَةً تَفُوقُ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوا مِثْلَهَا وَهُوَ الْمُفَادُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ وَمِنْ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ بِالْقِسْمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥١]، وَذَلِكَ لِإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيّ والمعنوي.
[١١- ١٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٤]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَنْبِيَاء: ٦] أَوْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ.

وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهَا أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَدَقَ رُسُلَهُ وَعْدَهُ وَهُوَ خَبَرٌ يُفِيدُ ابْتِدَاءَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الرُّسُلِ وَنَصْرِهِمْ وَبِشَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِنَصْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ إِهْلَاكَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُ تَبَعًا لِذَلِكَ، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إِهْلَاكِ أُمَمٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الظَّالِمِينَ وَوَصْفِ مَا حَلَّ بِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ ابْتِدَاءً اهْتِمَامًا بِهِ لِيَقْرَعَ أَسْمَاعَهُمْ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِإِنْذَارِ
الْمُشْرِكِينَ بِالِانْقِرَاضِ بِقَاعِدَةِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ، وَأَن الله ينشىء بَعْدَهُمْ أُمَّةً مُؤْمِنَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ فِي سُورَةِ [إِبْرَاهِيمَ: ١٩].
وَ (كَمْ) اسْمٌ، لَهُ حَقُّ صَدْرِ الْكَلَامِ لِأَنَّ أَصْلَهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْعَدَدِ، وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْإِخْبَارِ عَنْ كَثْرَةِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَصَمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى فَ (كَمْ) هُنَا خَبَرِيَّةٌ. وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلِ قَصَمْنا.
وَفِي (كَمْ) الدَّالَّةِ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَثْرَةَ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَخَلُّفِ إِهْلَاكِ هَذِهِ الْقُرَى، وَبِضَمِيمَةِ وَصْفِ تِلْكَ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ أَيِ الشِّرْكِ إِيمَاءً إِلَى سَبَبِ الْإِهْلَاكِ فَحَصَلَ مِنْهُ وَمِنِ اسْمِ الْكَثْرَةِ مَعْنَى الْعُمُومِ، فَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ التَّهْدِيدَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَالٌّ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ بِحُكْمِ الْعُمُومِ، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ مُرَادًا بِهِ قَرْيَةٌ مُعَيَّنَةٌ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ (حَضُورَاءُ) - بِفَتْحِ الْحَاءِ- مَدِينَةٌ بِالْيَمَنِ قَتَلُوا نَبِيئًا اسْمُهُ شُعَيْبُ بْنُ ذِي مَهْدَمٍ فِي زَمَنِ أَرْمِيَاءَ نَبِيءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ فَأَفْنَاهُمْ». فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ مِمَّنْ شَمِلَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَصَمْنَا كَثِيرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي سُورَةِ [الْأَنْعَامِ: ٦].
وَأَطْلَقَ الْقَرْيَةَ عَلَى أَهْلِهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ.

وَوَجْهُ اخْتِيَارِ لَفْظِ قَرْيَةٍ هَنَا نَظِيرُ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَنْبِيَاء: ٦].
وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَرْيَةٍ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى مَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْيِيزِ وَهِيَ هُنَا تَمْيِيزٌ لِإِبْهَامِ (كَمْ).
وَالْقَصْمُ: الْكَسْرُ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا يُرْجَى بَعْدَهُ الْتِئَامٌ وَلَا انْتِفَاع. واستعير للاستيصال وَالْإِهْلَاكِ الْقَوِيِّ كَإِهْلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ وَسَبَأٍ.
وَجُمْلَةُ وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ وَجُمْلَةِ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِلَخْ. فَجُمْلَةُ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِلَخْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ.
وَضَمِيرُ مِنْها عَائِدٌ إِلَى قَرْيَةٍ.
وَالْإِحْسَاسُ: الْإِدْرَاكُ بِالْحِسِّ فَيَكُونُ بِرُؤْيَةِ مَا يُزْعِجُهُمْ أَوْ سَمَاعِ أَصْوَاتٍ مُؤْذِنَةٍ بِالْهَلَاكِ كَالصَّوَاعِقِ وَالرِّيَاحِ.
وَالْبَأْسُ: شِدَّةُ الْأَلَمِ وَالْعَذَابِ. وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْها يَرْكُضُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ خَارِجِينَ مِنْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ بِتَأْوِيلِ (يَرْكُضُونَ) مَعْنَى (يَهْرُبُونَ)، أَيْ مِنَ الْبَأْسِ الَّذِي أَحَسُّوا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ بَأْسِنَا الَّذِي أَحَسُّوهُ فِي الْقَرْيَةِ. وَذَلِكَ بِحُصُولِ أَشْرَاطِ إِنْذَارٍ مِثْلَ الزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ.
وَالرَّكْضُ: سُرْعَةُ سَيْرِ الْفَرَسِ، وَأَصْلُهُ الضَّرْبُ بِالرِّجْلِ فَيُسَمَّى بِهِ الْعَدْوُ، لِأَنَّ الْعَدْوَ يَقْتَضِي قُوَّةَ الضَّرْبِ بِالرِّجِلِ وَأُطْلِقَ الرَّكْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سُرْعَةِ سَيْرِ النَّاسِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِسُرْعَةِ سَيْرِهِمْ بِرَكْضِ الْأَفْرَاسِ.

وَ (مِنْها) ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ الْمَرْفُوعِ.
وَدَخَلَتْ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ فِي جَوَابِ (لَمَّا) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمُ ابْتَدَرُوا الْهُرُوبَ مِنْ شِدَّةِ الْإِحْسَاسِ بِالْبَأْسِ تَصْوِيرًا لِشِدَّةِ الْفَزَعِ. وَلَيْسَتْ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ بِرَابِطَةٍ لِلْجَوَابِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رَابِطٍ، وَ (إِذَا) الْفُجَائِيَّةُ قَدْ تَكُونُ رَابِطَةً لِلْجَوَابِ خَلَفًا مِنَ الْفَاءِ الرَّابِطَةِ حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى الرَّابِطِ لِأَنَّ مَعْنَى الْفُجَاءَةِ يَصْلُحُ لِلرَّبْطِ وَلَا يُلَازِمُهُ.
وَجُمْلَةُ لَا تَرْكُضُوا مُعْتَرِضَةٌ وَهِيَ خِطَابٌ لِلرَّاكِضِينَ بتخيل كَونهم الْحَاضِرين الْمُشَاهِدِينَ فِي وَقْتِ حِكَايَةِ قِصَّتِهِمْ، تَرْشِيحًا لِمَا اقْتَضَى اجْتِلَابَ حَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ وَهَذَا كَقَوْلِ مَالِكِ بْنِ الرَّيْبِ:
دَعَانِي الْهَوَى مِنْ أَهْلِ وُدِّي وَجِيرَتِي | بِذِي الطَّبَسَيْنِ فَالْتَفَتُّ وَرَائِيًا |
وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا وَبَيْنَ جُمْلَةِ قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ.
وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ مَقُولَ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ خُوطِبُوا بِهِ حِينَئِذٍ بِأَنْ سَمِعُوهُ بِخَلْقٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. وَهَذَا مَا فَسَّرَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ وَيُبْعِدُهُ اسْتِبْعَادُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاقِعًا عِنْدَ كُلِّ عَذَابٍ أُصِيبَتْ بِهِ كُلُّ قَرْيَةٍ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْكَلَامُ تَهَكُّمٌ بِهِمْ.
وَالْإِتْرَافُ: إِعْطَاءُ التَّرَفِ، وَهُوَ النَّعِيمُ وَرَفَهِ الْعَيْشِ، أَيِ ارْجِعُوا إِلَى مَا أُعْطِيتُمْ مِنَ الرَّفَاهِيَةِ وَإِلَى مَسَاكِنِكُمْ. صفحة رقم 26