
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢)
(تَابَ) عما يرتكب من كبائر وهفوات، فالتوبة ضراعة إلى الله، ورجوع إليه، وهي ذاتها عبادة، وإن الله يقبل التوبة من عباده، والتوبة تجبّ ما قبلها من معاصٍ، كما أن الإيمان يجبُّ الكفر، و (آمَنَ) معناها ملأ الإيمان بجلال قلبه، بأن قرن توبته بإِذعان مطلق لله تعالى، وكان عمله كقلبه، ولذا قال: (وَعَمِلَ صَالِحًا) بأن قام بالعبادة مخلصا محتسبا، وعمل النافع للناس، وكان يحب الشيء لَا يحبه إلا لله.
(ثُمَّ اهْتَدَى) الاهتداء أن يعلو إلى درجة المهتدين الذين يخلصون عن الداني في عقولهم ونفوسهم، ويكونون ربانيين لَا يعرفون إلا ربهم، ويطرحون كل أمور الحياة وراء ظهورهم إلا أن يكون خيرا أمرهم به، وإن الوصول إلى هذه الدرجة وصول إلى مرتقى عالٍ، ولذا كان العطف بـ " ثم " التي تدل على البُعد، وهذا كقوِله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا).
* * *

عبدوا العجل!!
(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١)
* * *
إن هذا هو الدور الأخير من رسالة موسى عليه السلام وهو رعايته لبني إسرائيل، لقد قيل في الروايات: إن عددهم كان ستمائة ألف، ولكن تربيتهم على العقيدة السليمة عقيدة الوحدانية أخذت جهدا كبيرا، ثم إزالة ما عَلَق برءوسهم من

أوهام المصريين أخذ أمدا طويلا. وتربيتهم على النخوة والقوة والعزة كان فوق طاقة موسى عليه السلام، ولذا جعلهم الله يتيهون في الأرض أربعين سنة، ليتربوا فيها على النخوة والبأس والعزة، إن كان فيهم استعداد لها ولتكاليفها، وقال الله تعالى لكليمه موسى مواسيا: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٢٦).
أول صدمة لموسى الكليم فتنة العجل، ذهب موسى إلى جانب الطور الأيمن، كما وعده ربه ليتلقى التوراة، وذهب فرحًا عَجِلًا؛ لأنه على شوق لمخاطبة ربه، ولأن المسارعة إلى وعد الحبيب ترضيه، وترضي نفسه، وفي غيبة موسى عن قومه لم يكن وقتا طويلا، فتن بنو إسرائيل بعبادة العجل، وربما يكون موضع عتب بهذه المسارعة، لما اقترن بغيبته، وكل شيء بإرادة الله، ولكن على المرشد الهادي أن يراقب النفوس وموضع ضعفها، وموضع الضعف عند الإسرائيليين هو معاشرتهم لأهل فرعون، هو اتباعهم طريق هؤلاء في أوهامهم وعاداتهم وتقاليدهم.
قال الله تعالى لكليمه، وقد جاء مسارعا إليه في موعده: