
وفى الصحيحين: «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب العابر فى أفق السماء لتفاضل ما بينهم، قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء، قال بلى، والذي نفسى بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين»
. وفى السنن: إن أبا بكر وعمر لمنهم ونعمّا.
ثم فسر تلك الدرجات العلى بقوله:
(جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي تلك الدرجات العلى هى جنات إقامة تجرى من تحت غرفها الأنهار ماكثين فيها أبدا.
ثم بين سبب فوزهم بهذا النعيم فقال:
(وذلك جزاء من تزكى) أي وذلك الفوز الذي أوتوه جزاء لهم على طهارة أنفسهم من دنس الكفر ومن تدسية أنفسهم بأوضار الذنوب والآثام، وعلى عبادتهم لله وحده لا شريك له واتباعهم للنبيين والمرسلين فيما جاءوا به من عند ربهم.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٨٢]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
تفسير المفردات
السرى والإسراء: السير ليلا، اضرب لهم: أي اجعل لهم، يبسا: أي طريقا يابسا لا ماء فيه، والدرك (بالفتح والسكون) : الإدراك واللحوق، تخشى: أي تخاف

غرقا، وأتبع وتبع: بمعنى، فغشيهم من اليمّ ما غشيهم: أي فغمرهم وعلاهم من البحر ما علاهم من الأمر الهائل الذي لا يعلم كنهه إلا الله، وأضل فرعون قومه: أي سلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الخسران فى دينهم ودنياهم، إذ أغرقوا فأدخلوا نارا، وما هدى:
أي وما أرشدهم إلى طريق يصل بهم إلى طريق السعادة، الأيمن: أي الذي عن يمين من ينطلق من مصر إلى الشام، المنّ: نوع من الحلوى يسمى الترنجبين، والسلوى:
طائر شبيه بالسّمانى، ولا تطغوا فيه: أي فلا تأخذوه من غير حاجة إليه، فيحل عليكم غضبى: أي ينزل بكم، هوى: سقط وهلك، غفار: كثير المغفرة والستر للذنوب، اهتدى: أي لزم الهداية واستقام.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قصص موسى مع سحرة فرعون، وأنه تم له الغلب عليهم، وأن السحرة آمنوا به، وأن فرعون أبى أن يذعن للحق، وتمادى هو وقومه فى العناد والإعراض عن سبيل الرشاد- أردف ذلك ذكر ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الغرق فى البحر حين تبعوا موسى للحاق به لما خرج من مصر ذاهبا إلى الطور، وطوى فى البين ذكر ماجرى على فرعون وقومه بعد أن غلبت السحرة- من الآيات المفصّلة التي حدثت على يد موسى فى مدى عشرين سنة بحسب ما فصل فى سورة الأعراف، وكان فرعون كلما جاءته آية عذاب وعد أن يرسل بنى إسرائيل حين ينكشف عنه العذاب، فإذا هو انكشف نكص على عقبيه ونكث فى عهده، حتى أمر الله موسى بالهجرة والخروج ليلا من مصر، ثم عدد بعدئذ نعمه الدينية والدنيوية على بنى إسرائيل، فذكر أنه أنجاهم من عدوهم وقد كان ينزل بهم ضروبا من الظلم: من قتل وإذلال وتعب فى الأعمال، وأنه ذكر أنه أنزل عليهم كتابا فيه بيان دينهم وتفصيل شريعتهم، وأنه أنزل

لهم المن والسلوى، وأنه أمرهم بأكل الطيبات من الرزق وزجرهم عن العصيان، وأن من عصى ثم تاب كانت توبته مقبولة عند ربه.
الإيضاح
(ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادى فاضرب لهم طريقا فى البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى) أي ولقد أوحينا إلى نبينا موسى حين تابعنا له الحجج على فرعون فأبى أن يستجيب لأمر ربه وتمادى في طغيانه: أن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من هذا الطاغية، واخرج بهم من مصر، فاتخذ لهم طريقا يابسا فى البحر، ولا تخف من فرعون وقومه أن يدركوك، ولا تخش أن يغرقك البحر.
وفى التعبير عن بنى إسرائيل (بعبادى) إظهار للعناية بأمرهم والرحمة لهم، وتنبيه إلى قبح صنيع فرعون بهم، إذ هو قد استعبدهم، وفعل بهم من ضروب الظلم ما فعل، ولم يراقب فيهم مولاهم الحق.
(فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) أي ولما سرى بهم موسى أتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر، فغشيهم من اليم ما لا سبيل إلى إدراك كنهه، فغرقوا جميعا.
(وأضل فرعون قومه وما هدى) أي وقد سلك بقومه سبيل الضلال فى دينهم ودنياهم، وما هداهم إلى سبيل الرشاد، وفى هذا تهكم به إذ قال «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد».
ثم شرع سبحانه يعدّد نعمه على بنى إسرائيل فقال:
(١) (يا بنى إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) فرعون وقومه حين كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم، وأقر عينكم منهم، إذ أغرقهم وأنتم تنظرون كما قال: «وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون».