
الشرطية تفيد العموم. والجواب أن كلمة المجرم كما بينا يراد بها الكافر، بدليل مقابلتها بالمؤمن فيما بعد.
وأما من يموت على الإيمان، ويلقى ربه مصدقا به وبرسله وبالبعث، ويعمل الصالحات، أي الطاعات وما أمر به وما نهي عنه، فله الدرجة الرفيعة التي عجز الوصف عن إدراكها والإحاطة بها. والدرجات العلى هي جنان الخلد والإقامة التي تجري من تحت غرفها وسررها الأنهار من الخمر والعسل واللبن والماء، ماكثين دائمين، وذلك جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي.
- ١٠- إغراق فرعون وجنوده في البحر ونعم الله على بني إسرائيل
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٨٢]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
الإعراب:
طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً يَبَساً صفة طَرِيقاً وهو مصدر، فهو إما أن يكون بمعنى: ذا يبس، فحذف المضاف، أو جعل الطريق اليبس نفسه.

لا تَخافُ دَرَكاً جملة فعلية في موضع نصب على الحال، أي غير خائف، مثل: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر ٧٤/ ٦] أي مستكثرا. ومن قرأ لا تخف جزمه جوابا لقوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً.
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، والمفعول الثاني محذوف، أي فأتبعهم فرعون عقوبته بجنوده، أي معه جنوده.
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي من ماء اليم، وما غَشِيَهُمْ: في موضع رفع فاعل، وكان حق الكلام: فغشيهم من ماء اليم شدته. فعدل إلى لفظه ما لما فيها من الإبهام، تهويلا للأمر، وتعظيما للشأن لأنه أبلغ من التعيين، فيكون أبلغ تخويفا وتهديدا.
وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ جانِبَ الطُّورِ مفعول ثان لواعدناكم، والتقدير:
واعدناكم إتيان جانب الطور الأيمن، ثم حذف المضاف. والْأَيْمَنَ صفة جانب.
وَعَمِلَ صالِحاً صفة لموصوف محذوف، أي: وعمل عملا صالحا، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
البلاغة:
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ تهويل.
وَأَضَلَّ وَما هَدى طباق بينهما.
فَقَدْ هَوى استعارة، استعار لفظ الهوي: وهو السقوط من علو إلى سفل للهلاك والدمار.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ صيغة مبالغة، أي كثير المغفرة للذنوب.
المفردات اللغوية:
أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ليلا من مصر، والسري والإسراء: السير ليلا فَاضْرِبْ لَهُمْ اجعل لهم بعصاك يَبَساً أي طريقا يابسا، لا ماء فيه، فامتثل ما أمر به، وأيبس الله الأرض في قاع البحر، فمروا فيها لا تَخافُ دَرَكاً أو دركا، أي إدراكا ولحوقا وَلا تَخْشى ولا تخاف غرقا فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ حذف المفعول الثاني، أي فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده.
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ فغمرهم وعلاهم من ماء البحر ما علاهم، فأغرقهم، والضمير: له ولهم. وفيه مبالغة وتهويل وإيجاز، أي غشيهم ما سمعت قصته ولا يعرف كنهه إلا الله وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي أضلهم في الدين وما هداهم بدعوتهم إلى عبادته، وإيقاعهم في الهلاك، خلافا

لقوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر ٤٠/ ٢٩] فمعنى أَضَلَّهُمُ: سلك بهم طريقا إلى الخسران في دينهم ودنياهم، إذ أغرقوا فأدخلوا نارا. ومعنى وَما هَدى: وما أرشدهم طريقا يؤدي بهم إلى السعادة.
أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون بإغراقه الْأَيْمَنَ أي عن يمين من يأتي من الشام إلى مصر، لإنزال التوراة، للعمل بها، وقرئ الأيمن بالجر على الجوار الْمَنَّ نوع من الحلوى يسمى الترنجبين وَالسَّلْوى طائر هو السماني، وكلاهما في التيه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ لذائذه أو حلالاته مما أنعمنا به عليكم وَلا تَطْغَوْا فِيهِ بأن تكفروا النعمة به، وتخلوا بشكره، وتتعدوا لما حد الله لكم فيه، كالسرف والبطر والمنع عن المستحق فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي بكسر الحاء: أي فيجب ويلزمكم عذابي، وبضمها: أي ينزل وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ بكسر الحاء وضمها فَقَدْ هَوى سقط من النار وهلك.
لَغَفَّارٌ كثير المغفرة وستر الذنوب لِمَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ وحد الله وآمن بما يجب الإيمان به وَعَمِلَ صالِحاً عمل الفرائض والنوافل ثُمَّ اهْتَدى ثم استقام على الهدى المذكور إلى موته.
المناسبة:
بعد بيان الانتصار الساحق لموسى عليه السلام على السحرة، أبان الله تعالى طريق الخلاص بين فرعون الطاغية وقومه وبين بني إسرائيل، فأغرق الله فرعون وجنوده في البحر، حين تبعوا موسى وقومه، لما خرج من مصر إلى الطور، وذلك بمعجزة العصا التي ضرب بها موسى البحر، فأحدث فيه بقدرة الله طريقا يبسا، بالرغم من الآيات المفصلة التي حدثت على يد موسى في مدى عشرين سنة حسبما ذكر في سورة الأعراف.
وأنقذ الله بني إسرائيل الذين أنعم الله عليهم بأنواع من النعم الدينية والدنيوية وأهمها إزالة المضرة، فاقتضى تذكيرهم إياها، وابتدأ بالمنفعة الدنيوية بقوله: أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وهو إشارة إلى إزالة الضرر، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وهو إنزال التوراة كتاب دينهم ومنهاج شريعتهم، ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ

الْمَنَّ وَالسَّلْوى، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ
ثم زجرهم عن العصيان بقوله:
وَلا تَطْغَوْا فِيهِ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ثم بيان قبول توبة العاصي بقوله:
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ.
التفسير والبيان:
أمر الله موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل، وينقذهم من قبضة فرعون، فقال:
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ، يَبَساً، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى أي ولقد أوحينا إلى النبي موسى أن يسير ببني إسرائيل من مصر ليلا، دون أن يشعر بهم أحد، وأمرناه أن يتخذ أو يجعل لهم طريقا يابسا في وسط البحر (بحر القلزم أو البحر الأحمر) وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين.
وأشعرناه بالأمان والنجاة، فقلنا له: أنت آمن لا تخاف أن يدركك وقومك فرعون وقومه، ولا تخشى أن يغرق البحر قومك، أو لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء.
والتعبير عن بني إسرائيل بكلمة بِعِبادِي دليل على العناية بهم، وأنهم كانوا حينئذ قوما صالحين، وإيماء بقبح صنع فرعون بهم من الاستعباد والظلم.
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي تبعهم فرعون ومعه جنوده، فغشيهم من البحر ما غشيهم مما هو معروف ومشهور، فغرقوا جميعا. وتكرار غَشِيَهُمْ للتعظيم والتهويل.
وأما تورط فرعون الداهية الذكي في متابعة موسى فكان بسبب أنه أمر مقدمة عسكره بالدخول، فدخلوا وما غرقوا، فغلب على ظنه السلامة، فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى.

وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى أي أضل فرعون قومه عن سبيل الرشاد، وما هداهم إلى طريق النجاة حينما سلك بهم في الطريق الذي سلكه بنو إسرائيل في وسط البحر.
ثم بدأ الله تعالى يعدد نعمه على بني إسرائيل، مقدما إزالة المضرة على جلب المنفعة، وهو ترتيب حسن معقول لأن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» فقال:
١- يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ أي قلنا لهم بعد إنجائهم:
يا بني إسرائيل، قد أنجيناكم من عدوكم: فرعون، الذي كان يذبح أبناءكم ويستحيي نساءكم، وأقررنا أعينكم منهم، حين أغرقتهم وأنتم تنظرون إليهم، فقد غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما في آية أخرى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة ٢/ ٥٠] وهو إشارة إلى إزالة الضرر.
٢- وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي جعلنا لكم ميقاتا وهو موعد تكليم موسى بحضرتكم، وإنزال التوراة ذات الشريعة المفصلة، وأنتم تسمعون الكلام الذي يخاطبه به رب العزة. وكان مكان الموعد جانب جبل الطور الأيمن، وهو جبل في سيناء. قال المفسرون: ليس للجبل يمين ولا يسار، بل المراد أن طور سيناء عن يمين من انطلق من مدين إلى مصر.
٣- وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي وأنزلنا عليكم المن والسلوى وأنتم في التيه، أما المن: فهو حلوى كانت تنزل عليهم من الندى من السماء، من الفجر إلى طلوع الشمس، على الحجارة وورق الشجر. وأما السلوى: فهو طائر السماني الذي تسوقه ريح الجنوب، فيأخذ كل واحد منكم ما يكفيه.
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي وقلنا لهم: أنعموا بالأكل من تلك الطيبات المستلذات من الأطعمة الحلال.

وَلا تَطْغَوْا فِيهِ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أي ولا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز، ولا تجحدوا نعمة الله فتكونوا طاغين، ولا تأخذوا من الرزق من غير حاجة، وتخالفوا ما أمرتكم به من البعد عن السرف والبطر وارتكاب المعاصي والاعتداء على الحقوق، فينزل بكم غضبي، وعقوبتي.
وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي ومن ينزل به غضبي فقد شقي وهلك.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى أي وإني لستار وذو مغفرة شاملة لمن تاب من الذنوب، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل عملا صالحا مما ندب إليه الشرع وحسنه، ثم استقام على ذلك حتى يموت. وفي التعبير ب ثُمَّ اهْتَدى دلالة على وجوب الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة، حتى يستمر عليه في المستقبل، ويموت عليه، ويؤكده قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت ٤١/ ٣٠] وكلمة ثُمَّ هنا للتراخي، وليست لتباين المرتبتين، بل لتباين الوقتين، فكأنه تعالى قال: الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، مما قد يحدث أحيانا لكل أحد، ولا صعوبة في ذلك، إنما الصعوبة في المداومة والاستمرار على المطلوب.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت هذه الآيات إلى ما يأتي:
١- تفضل الله على بني إسرائيل بإنقاذهم وإنجائهم من ظلم فرعون وقومه، فأوحى الله إليه أن يتخذ لهم طريقا يابسا في البحر لا طين فيه ولا ماء، بأن ضربه بعصاه، فانشق، وجف بما هيأ الله له من الأسباب كالرياح، فأضحى لا يخاف لحاقا من فرعون وجنوده، ولا يخشى غرقا من البحر.

٢- تورط فرعون بعد أن أرسل فريقا من عسكره وراء بني إسرائيل في البحر، فلما لم يغرقوا، أمر جنوده بالمسيرة بقيادته، فتبعهم ليلحقهم مع جنوده، فأطبق عليهم البحر، ولم ينج أحد.
٣- كان فرعون شؤما على نفسه وعلى قومه، فإنه أضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى خير ولا نجاة لأنه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه لا يفوتونه لأن بين أيديهم البحر.
فلما ضرب موسى البحر بعصاه انفلق منه اثنا عشر طريقا، وكان الماء بين الطرق قائما كالجبال، كما قال تعالى: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء ٢٦/ ٦٣] أي الجبل الكبير، فأخذ كل سبط من أسباط بني إسرائيل طريقا.
وأوحى الله إلى أطواد الماء بالتشبك، فصارت شبكات يرى بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض، فكان هذا من أعظم المعجزات، وأكبر الآيات. فلما أقبل فرعون، ورأى الطرق في البحر، والماء قائما، أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته، فدخل هو وأصحابه، فانطبق البحر عليهم. وهذا كله يحتاج إلى الإيمان بقدرة الله.
٤- أنعم الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة، ذكر منها هنا ثلاثا، وهي الإنجاء من آل فرعون، والمواعدة: إتيان جانب الطور، وإنزال المن والسلوى في التيه.
٥- إن النعم تقتضي الحفظ والشكر، فقد يسر الله لهم الأكل من طيبات الرزق الحلال ولذيذه الذي لا شبهة فيه، فما عليهم إلا حفظ النعمة، فلا يؤخذ منها أكثر من الحاجة، وشكرها، فلا تؤدي إلى السرف والبطر والمعصية، وهذا هو الطغيان، أي التجاوز إلى ما لا يجوز.