
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} [غافر: ٣١ - ٣١]. وكان هذا في قلب فرعون يحب أيعلم حالاتهم، فلما أورد موسى عليه الآية الباهرة التي عجز عن معارضتها أحب أن يعلم من جهته أخبارهم، ولم يكن عند موسى في ذلك الوقت علم بأخبارهم؛ لأنه عرف أخبار القرون من التوراة ولم تنزل التوراة على موسى إلا بعد هلكة فرعون وغرقه) (١). فلذلك قال موسى: ﴿عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ﴾ يعني: اللوح المحفوظ، ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ قال وذهب الأولون إلى أن المعنى في: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي﴾ لا يضل الكتاب من ربي. قال وهذا باطل؛ لأن الخافض لا يحتمل له سقوط في مثل هذا المكان، لا يجوز أن تقول: سقط الدرهم كمك. وأنت تريد من كمك، كذلك هاهنا لا يجوز) (٢).
٥٣ - قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ وقرئ: مهدًا (٣). قال أبو علي: (المهد مصدر كالفرش، والمهاد مثل الفِراش والبِساط، وهما اسم ما يفرش ويبسط، ويجوز أن يكون المهد استعمل استعمال الأسماء فجمع كما يجمع فَعْل على فِعَال والأول أبين، قال: ويجوز أن يكون المعنى في قوله: ﴿مَهْدًا﴾ ذات مهد، فيكون في المعنى كقول من قال: مهادًا) (٤).
(٢) ذكر نحوه بلا نسبة في "الكشاف" ٢/ ٥٣٩، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٢٠٨، "البحر المحيط" ٦/ ٢٤٨، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١٢٢.
(٣) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر: (مهادا) بالألف. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: (مهدا) بغير ألف.
انظر: "السبعة" ص ٤١٨، "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٢٣ "التبصرة" ص ٢٥٩، "المبسوط في القراءات" ص ٢٤٨.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٢٢٣.

وقوله تعالى: ﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾ السلك: إدخال الشيء في الشيء يسلكه فيه قال الله تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ [المدثر: ٤٢]، والطاعن يسلك الرمح في المطعون (١). أدخل في الأرض لأجلكم طرقًا تسلكونها، كما قال ابن عباس: (سهل لكم فيها طرقًا) (٢).
ولما كانت الطرق المسلوكة ممتدة على الأرض ظاهرة عليها جعلت كأنها مسلوكة فيها، وإن كانت من الأرض تشبيهًا بالشيء الذي يسلك في الشيء. ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ يعني: المطر ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ قال صاحب النظم: (تم الإخبار والحكاية عن موسى عند قوله: ﴿مَاءً﴾ ثم أخبر الله تعالى عن نفسه متصلاً بالكلام الأول بقوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا﴾ يدل على هذا قوله: ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾ [طه: ٥٤]، قال: وقد قيل: إن معناه مضاف إلى موسى على تأويل: الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا نحن معاشر عباده ﴿بِهِ﴾ بذلك الماء ﴿أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ على الحراثة، أي: إنما حرثناه بذلك الماء، ولولا ذلك الماء ما نبت كما قال سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾ [الواقعة: ٦٣]، فأضاف الحراثة إليهم) (٣).
وقوله: ﴿أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ قال ابن عباس: (يريد أصنافًا من النبات مختلفة) (٤). وقال الكلبي: (﴿شَتَّى﴾ مختلفاً ألوانه أبيض وأحمر
(٢) "معالم التنزيل" ٥/ ٢٧٨، وذكره الطبري في "تفسيره" ١٦/ ١٧٤ بدون نسبة.
(٣) لم أقف على قول صاحب النظم. وذكر نحوه "المحرر الوجيز" ١٠/ ٤٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ٢٩، "التفسير الكبير" ٢٢/ ٦٨، "روح المعاني" ١٦/ ٢٠٦.
(٤) "جامع البيان" ١٦/ ١٧٤، "الدر المنثور" ٤/ ٥٣٩.

وأخضر وأصفر كل لون منها زوج) (١).
وقال الفراء: (﴿شَتَّى﴾ مختلف الألوان والطعوم) (٢). والزوج: اللون، والأزواج: الألوان، قال الأعشى (٣):
وَكُلُّ زَوْجٍ منْ الدَّيْبَاجٍ يَلْبَسُهُ | أَبُو قُدَامَةَ مَحْبُوا بِذَاكَ مَعَا |
وقوله تعالى: ﴿شَتَّى﴾ معناه: مختلف متفرق، ولا واحد له من لفظه، مثل: فوضى، يقال: شتَّ الشيء إذا تفرق، يَشِتُّه شَتَّا وشَتَاتًا وشَتّتَه إذا فرقه، وأَشَتَّه وشَتّتَه ويقال: وقعوا في أمرٍ شَتّ وشتَّى (٥). و ﴿شَتَّى﴾ في هذه الآية نعت للأزواج؛ لأن المراد ألوان مختلفة، ويجوز أن يكون من نبات (٦). قال الأخفش: (كل ذلك مستقيم) (٧).
ذكر ابن الأنباري القولين فقال: (النبات يقع على جمع لا ينفرد
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٨١.
(٣) البيت للأعشى. والديباج: ضرب من الثياب. والحبوة: الثوب الذي يحتبى به. انظر: "ديوانه" ص ١٠٨، "تهذيب اللغة" (زاج) ٢/ ١٤٩٧، "لسان العرب" (زوج) ٣/ ١٨٨٦.
(٤) عند قوله سبحانه ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرعد: ٣].
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (شت) ٢/ ١٨٢٥، "مقاييس اللغة" (شت) ٣/ ١٧٧، "القاموس المحيط" (شت) ص ١٥٤، "الصحاح" (شت) ١/ ٢٥٤، "لسان العرب" (شت) ٤/ ٢١٩٢، "المفردات في غريب القرآن" (شتت) ص ٢٥٥.
(٦) "الكشاف" ٢/ ٥٤٠، "البحر المحيط" ٦/ ٢٥١، "إملاء ما من به الرحمن" ١/ ١٢٢.
(٧) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٣١.