
وكان موسى وهو فتى ابن اثنتي عشرة سنة وقد امتلأ قلبه غيظا وحنقا على معاملة المصريين لبني إسرائيل، رأى رجلا مصريا يقتتل مع إسرائيلى فاستغاثه الذي من شيعته على الذي هو من عدوه فوكزه موسى وضربه فقضى عليه وقتله، فلما علم فرعون بذلك أراد قتل موسى في المصرى فأخبره رجل مؤمن من آل فرعون بذلك، ففر هاربا لا يلوى على شيء حتى وصل إلى مدين، وأقام هناك عشر سنين، وهذا معنى قوله تعالى وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ قتلت نفسا فنجاك الله من الغم في الآخرة بالتوبة والندم وفي الدنيا بالفرار إلى مدين فنجوت من الحبس والقتل والتعذيب وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً اختبرناك اختبارات حتى صلحت للقيام بالرسالة ولا غرابة فأنت تصنع وتخلق لهذا، وتربى وتنشأ لتحمل الرسالة لبني إسرائيل.
فلبثت سنين في أهل مدين هي عشرة وقيل أكثر.
ثم جئت على قدر يا موسى، ثم جئت على وعد وزمن محدد قد قدره الله وقضاه فلم تتقدم لحظة ولم تتأخر، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [سورة الرعد آية ٨].
اصطنعتك لنفسي، واخترتك لوحيي ورسالتي، وعلى هذا اذهب أنت وأخوك بآياتى، ولا تضعفا في ذكرى فإنى معكما أسمع وأرى.
دعوة موسى لفرعون، ومحاجته له [سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٢ الى ٥٦]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١)
قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦)

المفردات:
لَيِّناً سهلا لا خشونة فيه ولا شدة يَفْرُطَ عَلَيْنا أى: يعالجنا بالعقوبة ويعاملنا معاملة المتقدم في الذنب، والمادة تدل على التقدم والإسراف ولذا قيل اليوم السابق فارط، ولمن أسرف فرط وأفرط خَلْقَهُ صورته وشكله فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فما حالها وما شأنها؟ لا يَضِلُّ لا يخطئ مَهْداً كالفراش في الشكل والمعنى لِأُولِي النُّهى لأولى العقل.
موسى وهارون- عليهما السلام- أرسلا إلى قومهما بني إسرائيل قصدا وإلى فرعون وملئه تبعا ليخلصا بني إسرائيل من حكم فرعون وظلمه، ويدخلوهم في شريعة الحق- سبحانه وتعالى-.

المعنى:
اذهب يا موسى أنت وأخوك إلى فرعون وملئه إنه طغى وجاوز الحد المعقول في الشرك بالله، وتعذيب بني إسرائيل: اذهبا إليه فقولا له قولا لينا لا خشونة فيه، وجادلاه بالتي هي أحسن فهو رجل مغرور كافر معاند لعله يتذكر أو يخشى.
قالا: يا ربنا، إننا نخاف أن يفرط علينا، ويبادرنا بالعقوبة ويطغى، والخوف من الظالم الجبار لا ينافي التوكل على الواحد القهار، والأخذ بالأسباب والمسالك، على أن الخوف من طبيعة البشر.
قال الله لهما: لا تخافا من شيء إننى معكما أسمع كل شيء يسمع، وأبصر كل شيء يبصر، وأرى كل شيء يرى، نهاهما الله عن الخوف من فرعون لأنه معهما بالمعونة والنصر وهو يعلم بكل ما يحصل لهما، وليس بغافل عنهما.
ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار.
فقولا له: إنا رسولا ربك أرسلنا إليك، فأتياه وقالا له ذلك، وأمرهما أن يقولا:
فأرسل معنا بني إسرائيل، ولا تحجزهم وخل عنهم، ولا تعذبهم، وقد كانوا في عذاب أليم، وتعب شديد كما مضى، وقد جئناك يا فرعون بآية دالة على صدقنا، وقيل إن فرعون قال: ما هي؟ فأدخل موسى يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء، لها شعاع مثل شعاع الشمس، فعجب منها، ولم يره العصا إلا يوم الزينة.
والسلام من سخط الله وعذابه حاصل لمن اتبع الهدى وليس تحية لأن المقام ليس مقام تحية.
ولما فرغ موسى مما قال- وذكر لفرعون أنه يريد إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم في البرية، وفرعون ملك جبار تدين له الأمة المصرية وتذعن لقداسته، وقد رأى من موسى أمرا لا يقره ولا يرضاه حيث قال له: إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل وهو يقول للناس أنا ربكم الأعلى، ويستذل الإسرائيليين ويستعبدهم في أغراضه- أخذ يجادل موسى ويحاجه.
ولما علم موسى وهارون عدم إيمانه، وتماديه في الباطل قالا له: إنا قد أوحى إلينا

من ربنا أن العذاب والنكال، والهلاك والدمار في الدنيا والآخرة واقع لا محال على من كذب وتولى، وكذب بالوحدانية وأعرض عن رسول الله ولم يصدقه.
وكان في جداله يقول: فمن ربكما يا موسى؟ قالا: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه وصورته وشكله، الذي يناسب المنفعة المطلوبة منه كاليد للبطش والرجل للسير والعين للنظر، والثدي واختلاف شكله وعدده للرضاع وهكذا.
ثم هدى كل نفس لما يطلب منها، وما توفق إليه.
قال فرعون: فما بال القرون الأولى؟ التي انقرضت قبلكما ولم يقروا بالوحدانية.
أجابا: إنها في علم الغيب، والله وحده يعلم ما عملوا وجزاءهم، وهم في كتاب محفوظ، لا يطلع عليه أحد.
والله لا يضل أبدا ولا يخطئ أبدا، ولا ينسى أبدا- سبحانه وتعالى-، وهو الذي جعل لكم الأرض مهادا، وسلكها سبلا فجاجا، وجعلها كالفراش المبسوط وهي في الواقع كالكرة المكورة.
وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا وضروبا من نبات مختلفة.
كلوا وارعوا أنعامكم، وتمتعوا بخيراتكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى.
من الأرض خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم مرة أخرى للثواب والعقاب تراه وصف الرب- سبحانه وتعالى- بما يقطع حجة فرعون، ويرد كيده في نحره، ويملأ قلبه خوفا من عالم الغيب، وفيه تذكير له بأصله وأنه من تراب عائد إليه، فلا يغتر بدنياه وملكه، وليعلم أن وراءه يوما لا ينفع فيه مال ولا بنون، وتلك آيات بينات ولكنها لأولى النهى، إنما يتذكر من يخشى.. ولقد أرينا فرعون آياتنا كلها وبصرناه بها، ولكنه كذب وأبى عنادا واستكبارا وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «١» لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً «٢».
(٢) سورة الإسراء الآية ١٠٢.