
- ٤- نعم الله الثمان على موسى قبل النبوة
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
الإعراب:
أَنِ اقْذِفِيهِ.. فَاقْذِفِيهِ أَنِ اقْذِفِيهِ في موضع نصب على البدل من ما. وهاء اقْذِفِيهِ لموسى، وهاء فَاقْذِفِيهِ للتابوت.
وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فُتُوناً إما منصوب على المصدر (مفعول مطلق) مثل: ضربت ضربا، وإما منصوب بحذف حرف الجر، أي فتناك بفتون، ومعناه: وفتناك بأنواع من الفتن.
البلاغة:
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي استعارة تبعية، شبه اختياره للمحبة والرسالة والتكريم والتكليم بمن يختاره الملك للمهام الجليلة، لما يرى فيه من المقومات والخصال الحميدة، لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه.

المفردات اللغوية:
سُؤْلَكَ مسئولك، أي مطلوبك مَنَنَّا أنعمنا إِذْ للتعليل أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ألهمنا أو في المنام، لما ولدتك وخافت أن يقتلك فرعون في جملة من يولد، كما أوحى إلى مريم، وإلى النحل، وإلى الحواريين وليس وحيا على جهة النبوة ما يُوحى في أمرك اقْذِفِيهِ ألقيه واطرحيه أي ألقي موسى الصغير في التابوت فَاقْذِفِيهِ فألقي التابوت فِي الْيَمِّ البحر، والمراد هنا نهر النيل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ الشاطئ، والأمر هنا بمعنى الخبر يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وهو فرعون وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي محبة كائنة مني، لتصبح محبوبا بين الناس، فأحبك فرعون وكل من رآك وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي وتربى على رعايتي وحفظي لك بمرأى مني.
إِذْ تَمْشِي إذ للتعليل أُخْتُكَ مريم، لتتعرف على خبرك، وقد أحضروا مراضع وأنت لا تقبل ثدي واحدة منهن يَكْفُلُهُ يضمه إلى نفسه ويصبح كافلا له، فأجيبت، فجاءت بأمه، فقبل ثديها تَقَرَّ عَيْنُها تسر بلقائك وَلا تَحْزَنَ بفراقك وأنت بفراقها وفقد شفقتها وَقَتَلْتَ نَفْساً هو القبطي بمصر الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، فاغتممت لقتله خوفا من فرعون الْغَمِّ غم قتله، خوفا من عقاب الله تعالى، والغم: الكدر الحادث من خوف شيء أو فوات مقصود وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً اختبرناك بأنواع من الابتلاء، فخلصناك مرة بعد أخرى. والفتون:
الابتلاء والاختبار بالمحن، ثم تخليصه منها. وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن، وترك الأصحاب، والمشي راجلا على حذر، وفقد الزاد، وأجر نفسه، وغير ذلك أثناء مسيره من مصر إلى مدين، ومدين: على ثماني مراحل من مصر، وهي جنوب فلسطين «١».
فَلَبِثْتَ سِنِينَ أقمت في أهل مدين عشر سنين، بعد مجيئك إليها من مصر عند شعيب النبي وتزوجك بابنته ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ قدرته في علمي لأن أكلمك وأكلفك بالرسالة، وهو أربعون سنة وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اخترتك بالرسالة والمحبة. وكرر: يا مُوسى للتنبيه على غاية القصة وهي التكليم.
المناسبة:
بعد أن سأل موسى ربه أمورا ثمانية، ذكر تعالى هنا أنه أجابه إليها، ليتمكن

من تبليغ رسالته، ثم ذكره بنعمه السالفة عليه قبل النبوة، وعد له ثماني نعم عظام وهي: إلهام أمه صنع صندوق وإلقاؤه وهو رضيع في النيل: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ. وإلقاء محبة الله عليه بحيث لا يراه أحد إلا أحبه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي. وحفظ الله له ورعايته:
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي. وعودته إلى أمه للرضاع والحضانة: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها. ونجاته من القصاص بقتل القبطي: فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ. وابتلاؤه بالفتن: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً. ومقاساته الفقر والغربة مع أهل مدين: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ. وتكليم الله له واختياره للنبوة والرسالة والهداية: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي.
التفسير والبيان:
أجاب الله تعالى في هذه الآيات دعاء موسى عليه السلام، وذكره بنعمه السالفة عليه، فقال:
قالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي قال الله عز وجل لموسى: قد أعطيتك ما سألته من الأمور الثمانية، من شرح الصدر، وتيسير الأمر، وحل العقدة، ونبوة هارون، وشد أزره به، وإشراكه في أمر الرسالة، والتمكين من التسبيح الكثير، والتذكر الكثير لله عز وجل.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى أي ولقد أحسنا وتفضلنا عليك بنعم سابقة كثيرة قبل النبوة وهي:
١- إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ أي مننا عليك حين ألهمنا أمك لإنقاذك من فرعون، أن تضعك في تابوت (صندوق من خشب أو غيره) ثم تطرح هذا التابوت في البحر (اليم) وهو هنا نهر النيل، وأمرنا النيل

بإلقائك على الشط قبالة منزل فرعون، فأخذك فرعون عدو الله وسيصير عدوا لك في المستقبل. فبينا فرعون جالس على رأس بركة بالساحل إذ بالصندوق، فأمر به، فأخرج، ففتح، فإذا صبي جميل صبيح الوجه، فأحبه حبا شديدا هو وزوجته، كما قال تعالى:
٢- وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي ألقيت عليك محبة كائنة مني في قلوب العباد، لا يراك أحد إلا أحبك، فأحبك فرعون وزوجه التي قالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [القصص ٢٨/ ٩].
٣- وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي ولتتربى بمرأى مني وفي ظل رعايتي.
٤- إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ، فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ أي خرجت أختك تمشي على الشاطئ، تسير بسير التابوت، تتابعه بنظراتها لترى في أي مكان يستقر، فوجدت فرعون وامرأته يطلبان له مرضعة، فقالت: هل أدلكم على من يربيه ويحفظه؟ فجاءت بالأم، فقبل ثديها، وكان لا يقبل ثدي مرضعة أخرى غيرها، فرددناك إلى أمك بألطافنا، ليحصل لها السرور برجوع ولدها إليها، بعد أن طرحته في البحر، وعظم عليها فراقه.
٥- وَقَتَلْتَ نَفْساً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي قتلت القبطي الذي وكزته حين استغاث بك الإسرائيلي، وكان قتلا خطأ، فنجيناك من الغم الحاصل عندك من قتله خوفا من العقوبة، بالفرار إلى مدين، فنجوت من الحبس والقتل والتعذيب.
٦- وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي اختبرناك مرة بعد مرة بما أوقعناك فيه من المحن المذكورة، قبل أن يصطفيك الله لرسالته، حتى صلحت للقيام بالرسالة لفرعون ولبني إسرائيل.

٧- فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي فأقمت ومكثت سنين مع أهل مدين بأرض العرب على ثماني مراحل من مصر، عانيت فيها من الفقر والغربة الشيء الكثير، حتى آجرت نفسك لشعيب لترعى غنمه مدة عشر سنين كانت مهر امرأتك.
ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى أي أتيت في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبيا.
٨- وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي اخترتك برسالاتي وبكلامي لإقامة حجتي، وجعلتك رسولا بيني وبين خلقي لتبليغ الدين، والهداية إلى التوحيد والشرع القويم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لما سأل موسى عليه السلام ربه الأمور الثمانية، أجاب سؤله، وحقق مطلوبه ومرغوبه، فضلا من الله ونعمة، ورحمة ومنة.
٢- وبعد إجابة دعائه، ذكره الله بما أنعم عليه من النعم الثماني التي أنعم بها عليه، قبل سؤاله، وتتلخص في حفظه سبحانه له من شر الأعداء والقتل من ابتداء حياته، وحين شبابه.
٣- كان الإيحاء من الله لأم موسى بصنع الصندوق وقذفه في البحر إلهاما أو رؤيا رأتها في المنام، فقد اتفق الأكثرون على أن أم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل، فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء ٢١/ ٧].

وأيضا جاء في القرآن الوحي لا بمعنى النبوة، قال تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل ١٦/ ٦٨] وقال سبحانه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [المائدة ٥/ ١١١].
٤- من عجائب فعل الله وتدبيره وصنعه أن ينجي الله موسى الرضيع من قتل فرعون، وأن يتربى في بيت فرعون على مائدته، وأن يكون سببا في هلاك فرعون وإغراقه في البحر مع ملئه وقومه.
٥- معنى محبة الله تعالى لموسى: إيصال النفع إلى عباده، بتهيئته للرسالة منذ الصغر، واستمرار ذلك حال الكبر إلى آخر عمره.
٦- ومن تدبير الله الخفي أن موسى الرضيع لم يقبل ثدي أحد من المراضع، حتى أقبلت أخته المتجاهلة أمره، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها، فمصه وفرح به، فقالوا لها: تقيمين عندنا؟ فقالت: إنه لا لبن لي، ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون، قالوا: ومن هي؟ قالت: أمي، فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل:
بثلاث، وقيل: بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها، كما قال ابن عباس. فجاءت الأم فقبل ثديها.
٧- ليس هناك في الدنيا بعد النبي أشد عاطفة من عاطفة الأم على ولدها، بخلق الله وتقديره بإفرازها الحنان على ولدها من خلايا خاصة بها، لذا حزنت أم موسى وقلقت على ابنها بعد إلقائه في البحر، ولكن الله الرحيم بعباده رد إليها ابنها، وأقر عينها، وأزال حزنها وغمها.
٨- لم يكن قتل موسى قبطيا كافرا عمدا، وإنما كان خطأ، وقبل النبوة حال الصغر، قال كعب كما روى مسلم في صحيحة: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة.

٩- آمن الله موسى من الخوف والقتل والحبس، واختبره اختبارا عسيرا شاقا في مراحل حياته أثناء الشباب، حتى صلح للرسالة.
١٠- أتم موسى عليه السلام عشر سنوات في رعي غنم شعيب الرجل الصالح مهرا لامرأته، وهو أتم الأجلين. وقال وهب: لبث موسى عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته «صفورا» ابنة شعيب، وثماني عشرة إقامة عنده حتى ولد له عنده.
١١- بعد مرور موسى بمحن كثيرة حان وقت نبوته، فجاء في وقت مقدر سابقا في علم الله وقضائه، موافقا للنبوة والرسالة لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة.
فاصطفاه الله واختاره لوحيه ورسالته، وأرسله إلى فرعون وملئه. وتتمة القصة في الآيات التالية.
أخرج البخاري ومسلم في تفسير الاصطفاء عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «التقى آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: وأنت الذي اصطفاك الله برسالته، واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فوجدته مكتوبا علي قبل أن يخلقني، قال: نعم، فحج آدم موسى».